تحقيق: "سيوة" واحة مهددة بالغرق ووعود الحكومة المصرية تبقى حبراً على ورق
وطن: في منتصف أيار/مايو 2022، حاصرت مياه الصرف الزراعي بيت علي حيدر ضمن 40 بيتاً آخر، بمنطقة وفلة بقرى المراقي غربي واحة سيوة، الواقعة أقصى الحدود المصرية الغربية. المشهد أعاد رب الأسرة الخمسيني 26 عاماً إلى الوراء، عندما أَجبر ارتفاع منسوب مياه بحيرة المراقي أسرته على الرحيل من الأراضي التي كانوا يزرعونها، وهجر البيت الذي يعيشون فيه؛ بعدما غمرتهم المياه، ودمرت تدريجياً أشجار الزيتون والنخيل والرمان، التي يتجاوز عمر بعضها 60 عاماً.
كان رحيل أسرة علي حيدر وجيرانهم، بعد عام واحد من اجتماع مشايخ وعواقل قبائل واحة سيوة مع الرئيس الراحل حسني مبارك، منتصف نيسان/أبريل 1996. وخلال هذا اللقاء الرئاسي، طالب كبار الواحة رئيس الجمهورية بحل مشكلة الصرف الزراعي، التي تتفاقم عاماً تلو الآخر، وتهدد بغرق الواحة التي تنخفض 17 متراً عن سطح البحر، ما يستلزم تدخلاً عاجلاً من الحكومة لإنقاذ مساكنهم وزراعتهم.
كلَّف مبارك آنذاك وزيري الدفاع والري -اللذين كانا برفقته أثناء زيارته للواحة الحدودية- بدراسة المشكلة وحلها، وتوفير الإمكانات اللازمة لها، بالتنسيق مع مجلس الوزراء.
بعد مرور ربع قرن من الزمان، لم تتوقف فيه استغاثات أهالي الواحة، التي يقطنها 35 ألف نسمة؛ طالب عوائل وعُمد قبائل سيوة مجدداً الرئيس عبد الفتاح السيسي، أثناء تدشينه مدينة العلمين الجديدة في آذار/مارس 2018، بالتدخل لحل مشكلة الصرف الزراعي، وإنقاذ الواحة -التي تتجاوز مساحة 94 ألف كيلومتر- من الغرق، خاصة أن الإجراءات التي نُفّذت لحل المشكلة كانت سبباً في تفاقمها. ولم تُحقق وعود المسؤولين السابقين، على مدار ثلاثة عقود، أي نتائج للحد منها، كما يحكي الشيخ عمر راجع، الذي حضر اللقائين الرئاسيين مع مبارك والسيسي.
ورد الرئيس السيسي، الذي كًلّف أحد مستشاريه بدراسة مشكلة الواحة، قائلاً: "المشكلة التي لم يستطيعوا حلها على مدار 30 سنة، إحنا هنحلّها".
سبق إعلان الرئيسين الراحل والحالي -مبارك والسيسي- بحل مشكلة الصرف الزراعي بالواحة، إعلان آخر لكليهما، عن خطط للاستثمار الزراعي في سيوة وظهيرها الصحراوي، من دون حل مسبق لأزمتها المزمنة، وكان المتضرر الأكبر من هذه الاستثمارات أهالي الواحة، فزراعات الأهالي وأرضهم كانت الأكثر تضرراًَ وانخفاضاً في الإنتاجية، مقارنة بإنتاج الأراضي الجديدة، التي تتولى زراعتها شركات استثمارية كبرى، وتروّج وتسوّق لها الحكومات المتعاقبة، من أجل مزيد من الاستثمار الزراعي على مدار 30 عاماً.
في هذا التحقيق المدعوم بالبيانات، نرصد عبر صور الأقمار الاصطناعية التدهور الذي حدث؛ بسبب مماطلة وإهمال الحكومات المتتالية، في حل مشكلة الصرف الزراعي في واحة سيوة، على مدار ثلاثة عقود، وبمعاونة باحثيِن متخصصيِن في نظم المعلومات الجغرافية؛ أجرينا تحليلات عبر مرئيات فضائية من أقمار لاندسات.
وباستخدام البرامج الرقمية ARC GIS وGoogle Earth وenvi، استطعنا جمع وتحليل وإخراج البيانات المكانية والمعلومات الزمنية؛ لرصد التدهور الذي حدث بالواحة نتيجة إهمال وتجاهل حل المشكلة.
كانت نتيجة عدم التعامل الجاد لحل أزمة الصرف الزراعي أو الحد منها، زيادة مساحة الأراضي التي لم تعد صالحة للزراعة بنسبة 57 في المئة، خلال الفترة من 1990 إلى 2021؛ وفيها أيضا اتسعت المسطحات المائية بنسبة 58 في المئة (كما كشفت تحليلات مرئيات الأقمار الاصطناعية)؛ ما تسبب في تدمير بيئي للعديد من الموارد الطبيعية، وانعكس أثرها على أهالي الواحة.
مشكلة الصرف الزراعي، التي تسببت في رحيل عائلة علي حيدر وجيرانها قبل أكثر من عقدين من الزمان، وتهددهم حاليا بالرحيل الثاني، تعود إلى أواخر السبعينيات من القرن الماضي، عندما بدأ بعض المزارعين يشكون مياهاً تغمر أراضيهم تدريجياً، وتؤثر في أشجار النخيل والزيتون والرمان المزروعة؛ حيث كانت مساحة الأراضي الزراعية آنذاك ثلاثة آلاف و366 فداناً، وتستهلك في الري 69 مليون متر مكعب من المياه سنوياً.
وفي هذا التوقيت، وتحديداً عام 1977، بدأت الحكومة المصرية -ممثلة في جهاز تعمير وتنمية الساحل الشمالي- في تنفيذ خطة لتنمية واحة سيوة؛ عن طريق استصلاح الأراضي الزراعية، والنهوض بالإنتاج الزراعي ومشاريع الري، وتُمول هذه الخطة الخمسية من منحة برنامج الغذاء العالمي، التي حصلت عليها الحكومة المصرية ضمن برنامج المعونة الأمريكية.
قبل سبعينيات القرن الماضي، كان والد علي حيدر وجميع أهالي سيوة يعتمدون على مياه الآبار العذبة والعيون الطبيعية، التي تقدرها وزارة الزراعة بـ 220 بئراً وعيناً، في ري أراضيهم، فهذه الآبار التي يعود تاريخها إلى العصر الروماني، كانت المصدر الوحيد للمياه بالواحة الواقعة شمال بحر الرمال الأعظم بالصحراء الشمالية الغربية المصرية. وكان ري الأراضي الزراعية قائماً على نظام صارم يفرضه قانون عرفي، يسير على الجميع ولا يستطيع أحد من الأهالي مخالفته، وفقاً للشيخ عمر راجح، شيخ قبيلة أولاد موسى، والمتحدث باسم قبائل الواحة.
وفي منتصف الثمانينيات، بعدما تضاعفت مساحات الأراضي الزراعية لتتجاوز 6 آلاف فدان، حُفرت آبار جديدة، وارتفعت كميات المياه الجوفية المستخدمة في الري؛ لتصل إلى 155 مليون متر مكعب سنوياً في عام 1985، بعد الاستفادة من منحة برنامج الغذاء العالمي، التي أتاحت تمويلاً لاستصلاح أراضٍ جديدة، من دون حل لأزمة الصرف الزراعي.
لتتحول المشكلة إلى أزمة مزمنة، وظاهرة تُهدد بغرق الواحة، بعدما وصلت مياه الصرف إلى بيوت الأهالي، وتضاعفت مساحات الأراضي الزراعية المتضررة، وهو ما يراه الأهالي تهديداً لمصدر دخلهم الأساسي؛ فالواحة المهددة بالغرق يمتهن أغلب أبنائها مهنة الزراعة، وتصنف كموقع تراث زراعي ذي أهمية عالمية من قبل منظمة الأغذية والزراعة؛ لكونها مستودعاً للموارد الوراثية النباتية.
ونتيجة لهذا التهديد؛ اجتمع عُمد ومشايخ القبائل آنذاك، بقيادة العمدة علي حيدة، شيخ مشايخ قبائل سيوة، للبحث عن حل يحمي الواحة من الغرق، ليبدأ الشيخ الأكبر بالتواصل مع المسؤولين بمحافظة مرسى مطروح، التي تتبعها إدارياً واحة سيوة، لحل المشكلة؛ لكن من دون فائدة.
وعن طريق علاقاته الشخصية ببعض المسؤولين بالقاهرة، استطاع شيخ مشايخ قبائل سيوة لقاء مسؤولين بوزارة الري؛ لعرض المشكلة التي يراها تهدد بفناء الواحة المعزولة، بسبب بعدها عن العاصمة المصرية، بمسافة تتجاوز 750 كيلومتراً.
وفي بداية التسعينيات، زادت الرقعة الزراعية والتوسع في زراعة المحاصيل والخضروات والفاكهة، لتصل مساحة الأراضي الزراعية إلى 12 ألف فدان عام 1998، وبالتوازي زاد عدد الآبار التي حُفرت يدوياً؛ لاستخراج المياه الجوفية من باطن الأرض، ليصل عددها إلى 1200 بئر في عام 1999، منها ألف بئر تتراوح أعماقها ما بين 20 و25 متراً، بالإضافة إلى 200 بئر تصل أعماقها إلى 1200 متر من سطح الأرض، وتضخ هذه الآبار 291 مليون متر مكعب سنوياً من المياه، وفقاً لإحصائيات وزارة الرى والموارد المائية.
وتسبب عدم وجود نظام للري، وآخر للصرف، في إهدار المياه الجوفية الفائضة من ري الأراضي الزراعية -والتي تقدر سنويا بـ 33 مليون متر مكعب- إلى البحيرات المالحة؛ ما أسهم في ارتفاع مستوى منسوب المياه الجوفية بمقدار 0.9 سنتيمترات سنوياً، فنتج عنه تملُّح التربة وتدهور إنتاجية الأراضي، وبالتالي خفض دخل الزراعة، وفقاً للاتحاد العالمي للحفاظ على البيئة عام 2000.
نصيب المسطحات المائية الواقعة في منتصف مدينة سيوة، كان أكبر من الموجودة على حدودها وفي قراها، حيث زادت بحيرة سيوة بنسبة 724 في المئة خلال الفترة بين 1990 و2021، تليها المراقي بنسبة 483 في المئة، ثم بهي الدين بنسبة 423 في المئة، ثم قارة أم الصغير بنسبة 245 في المئة، ثم أغورمي بنسبة 116 في المئة، ولكنها تراجعت في أبوشروف-الكفراوي بنسبة 79 في المئة.
أحد الأسباب الرئيسة لهذا التدهور يراه الشيخ عمر راجح، شيخ قبيلة أولاد موسى والمتحدث باسم قبائل الواحة، في الانفتاح الذي حدث للاستثمار الزراعي، عقب زيارة مبارك لواحة سيوة في منتصف التسعينيات، والدعوة التي وجّهها للشركات والمستثمرين في القطاع الزراعي للاستثمار بالواحة؛ إذ حصلت شركات لأول مرة على مساحات كبيرة من الأراضي لاستصلاحها وزراعتها، وصل بعضها إلى 12 ألف فدان، بحسب تقديرات المتحدث باسم قبائل الواحة. وهذه المساحة التي حصلت عليها شركة واحدة، تتساوى مع مساحة الأراضي التي كان جميع أهالي سيوة يزرعونها في هذا التوقيت.
المستثمرون على أطراف الواحة لا يهمّهم غير الاستثمار، فالشركات تستفيد أقصى استفادة وتحقق أقصى ربح، ولا يهمها تضرر سيوة والمقيمون بها. يقول دكتور أشرف مصطفى، أستاذ علوم التربة بكلية الزراعة جامعة الإسكندرية، والمشرف على دراسة تقييم حساسية منطقة شرق واحة سيوة للتصحر، الصادرة عن مجلة الإسكندرية عام 2020، إن بعض هذه الشركات تُمثلها الحكومة وهي جزء من النشاط الاقتصادي للدولة.
يقول عبد الحميد النجار، أستاذ علوم التربة بجامعة المنصورة، والباحث المُشارك بالدراسة التي أجرتها كلية العلوم جامعة المنصورة: "زيادة الرقعة الزراعية والتوسع في استصلاح الأراضي أمر جيد، ولكن جاءت هذه الزيادة والتوسّع على حساب الأراضي الزراعية القديمة، التي اختفى بعضها بسبب المياه الزائدة، وانعدمت القيمة الاقتصادية للبعض الآخر؛ بسبب التصحّر والتملُّح".
بداية عام 2000، استصلح سنوسي قطعة أرض ليزرعها، كان يأمل أن تكون الأرض سنداً له ولأولاده؛ لأن وظيفته كمدرس في مدرسة حكومية، لم يعد دخلها يكفي أسرته. وكأغلب أهالي الواحة اختار أشجار الزيتون لزراعتها، وعاماً تلو الآخر بدأت الأرض تؤتي ثمارها، ويوفر منها الدخل الذي كان يسعى إلى تحقيقه. لكن وفي عام 2010، بدأ يلاحظ تراجع إنتاجية أرضه؛ حيث هجرها اللون الأخضر وذبُل زيتونها وقلّت محاصيلها حتى انعدمت، واحتلتها مياه الصرف الزراعي في عام 2021؛ "الزيتون أصبح كالفحم، مات بسبب زيادة الملوحة"، هكذا يصف سنوسي الوضع في أرضه حالياً.
شاكر حبون، جار سنوسي في الواحة، يعاني المشكلة ذاتها؛ إذ ورث مهنة الزراعة من والده، كما ورث أرضه في منطقة فطناس، ولكنه لم يستطع الحفاظ عليها؛ بعد تصحرها بسبب ارتفاع مستوى مياه الصرف الزراعي بها.
لم ييأس شاكر، فقام باستصلاح قطعة أرض أخرى؛ لكنّ ملوحة المياه في الواحة كانت عائقاً أمام نمو محاصيله، وزيادة إنتاجيته. حاول التغلّب عليها باستخدام معالج لملوحة المياه، نجح نسبياً، ولكنّه أخفق في استعادة إنتاجية أرضه، كسابق عهدها.
علي حيدر وسنوسي وشاكر حبون ليسوا المتضررين فقط من أزمة الصرف الزراعي؛ ولكنّ الآلاف غيرهم من أهالي الواحة، بمن فيهم عُمد ومشايخ الواحة، يعانون الأزمة نفسها. يقول الشيخ عمر راجع، إن لديه أجزاءً من أرضه قضت عليها مياه الصرف الزراعي، ولم تصلح معها أي محاولات لمعالجتها مرة ثانية، مثله مثل باقي أهالي الواحة.
ولم تقتصر أضرار عدم حل مشكلة الصرف الزراعي على تدمير الأراضي، بل امتزجت مياه الصرف الزراعي بمياه الآبار التي تُستخدم في الزراعة، بما فيها الآبار التي حفرتها الحكومات المتعاقبة في التسعينيات وإلى اليوم؛ لتوفير المياه للأراضي المستصلحة. "الآبار التي نفذتها الدولة أيام مبارك معظمها تملّح"، يقول الشيخ عمر راجح المتحدث باسم قبائل سيوة. بسبب زيادة ملوحة التربة؛ تراجعت إنتاجية أراضي علي حيدر وشاكر وسنوسي وغيرهم، حتى إن بعض أراضيهم أصابها "التطبّل" (التصحر)، ولم تعد صالحة للزراعة.
حفر آبار المياه الجوفية بهذه النسبة، في السنوات التي أعقبت زيارة الرئيس مبارك، لم يحدث من قبل، كما يصفه الدكتور ممدوح تهامي في دراسته عن تصحر واحة سيوة، المنشورة عام 2003. وزاد من حدة الأزمة حفر المزارعين أباراً بطريقة بدائية التنفيذ، وعشوائية التوزيع؛ فحُفرت في طبقات المياه الضحلة، التي تتميز بارتفاع نسبة الملوحة لتوفير التكاليف، كما رصدها الدكتور ممدوح تهامي في دراسته.
مع بداية الألفية الثالثة، أصبح استصلاح الأراضي أمراً شائعاً في سيوة؛ حيث هاجر إليها بعض سكان الأقاليم الأخرى، لاستصلاح أراضٍ لزراعتها بجانب السكان الأصليين للواحة، وكذلك غزتها شركات استصلاح كبيرة، مثل: شركة اكسبريس والنوران وبالميرا وغيرها؛ لاستصلاح مساحات ضخمة في سيوة للانتفاع بها.
واقتصرت الإجراءات الحكومية لحل مشكلة الصرف الزراعي على حلول مؤقتة، لم تحقق أي نتائج ملموسة مع التوسع غير المدروس لاستصلاح الأراضي الزراعية، وفق دكتور إسماعيل عبد الجليل، رئيس مركز بحوث الصحراء الأسبق، الذي يؤكد أن معهد بحوث الصحراء حذر منذ ثمانينيات القرن الماضي، بألا تتجاوز مساحة الأراضي المزروعة والمستصلحة 8 آلاف فدان، طالما لم تحل مشكلة الصرف الزراعي بالواحة؛ لكنّ الدولة نفذت مشروعات زراعية تتجاوز مساحتها الـ 30 ألف فدان، وهو ما تسبب في الوضع الحالي، خاصة أن حلول مواجهة الأزمة، كانت كلها حلولاً جزئية ومؤقتة؛ مثل الحد من حفر الآبار عن طريق حفر آبار أكثر عمقاً وأقل عدداً.
أراضي سيوة تعاني ملوحة عالية، ما یشیر إلی وجود تدھور في جودتھا، وبمرور الوقت ستصبح غير قابلة للزراعة؛ بهذه النتائج انتهت الدراسة التي أجراها فريق من كلية العلوم بجامعة المنصورة عام 2017.
يقول عبد الحميد النجار، أستاذ علوم التربة بجامعة المنصورة والباحث المُشارك بالدراسة: "وجدنا أثناء الدراسة أن الأراضي الزراعية تتوسع بشكل مبالغ فيه، فوصلت في عام 2015 إلى 81 كيلومتراً مربعاً، بعدما كانت 22 كيلومتراً مربعاً عام 1992، وزادت الأراضي المُتملحة من 35 كيلومتراً مربعاً إلى 64 كيلومتراً مربعاً خلال الفترة ذاتها، وأيضاً زادت المناطق التي تغمرها المياه (الغدقة) من 19 إلى 51 كيلومتراً مربعاً من عام 1992 وحتى عام 2015.
تُعد سيوة من الواحات المُعرَضة للغرق؛ بسبب سوء إدارة المياه وأنظمة الصرف غير المناسبة، وفقا لتقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ IPCC، الصادر في 2018.
يقول دكتور أشرف مصطفى، أستاذ علوم التربة بكلية الزراعة جامعة الإسكندرية، والمشرف على دراسة تقييم حساسية منطقة شرق واحة سيوة للتصحر: "عندما بدأنا قياس المسطحات المائية داخل سيوة، لاحظنا في السنوات القديمة وجود منازل على حافة البحيرات. ولكن بسبب التمدد المائي الذي صاحب الصرف الزراعي؛ لاحظنا اختفاء هذه المنازل في السنوات اللاحقة، وصار مكان بعضها في قلب البحيرة".
السيسي على خطى مبارك
بالآليات نفسها التي اتبعتها حكومات الرئيس الراحل مبارك، أعلنت الحكومات المتعاقبة في عهد الرئيس السيسي، التوسع في استصلاح واستثمار الأراضي الزراعية في واحة سيوة؛ بإعلان الحكومة عن مشروع الاستثمار الزراعي "المليون والنصف مليون فدان" في أواخر عام 2016، كمرحلة أولى من مشروع أكبر، يستهدف زيادة الرقعة الزراعية في مصر بأربعة ملايين فدان، وكان ذلك الإعلان قبل ثلاثة أعوام من قرار الرئيس السيسي بحل أزمة الصرف الزراعي بواحة سيوة.
وتضمن المشروع الحكومي للاستصلاح الزراعي في مرحلته الثانية، طرح 30 ألف فدان بواحة سيوة أواخر عام 2018، سلمتها الحكومة للمستثمرين في القطاع الزراعي، رغم تزايد أزمة مياه الصرف الزراعي، وبالتالي تزايد معاناة الأهالي الذين يزرعون 20 ألف فدان فقط من أراضي الواحة، كما يقدرها شيخ قبيلة أولاد موسى عمر راجح، بينما تتضاعف المساحات التي يزرعها المستثمرون في القطاع الزراعي بالواحة وظهيرها الصحراوي.
خصصت حكومات مبارك والسيسي ميزانية مالية تقدر بملايين الجنيهات، وحصلت في عهد كليهما على منح من جهات دولية؛ للمساهمة في حل مشكلة الصرف الزراعي، وتطوير الواحة التي تُعتبر منطقة فريدة عالمياً في السياحة البيئية، وفقاً لمنظمة اليونسكو.
وتسببت هذه الاستثمارات في تراجع إنتاجية الفدان من الزيتون، الذي يتصدر الإنتاج الزراعي بالواحة بنسبة 67 في المئة، بنحو 55 في المئة من الأراضي القديمة، مقارنة بنظيرتها من الأراضي الجديدة؛ بسبب ارتفاع منسوب المياه بهذه الأراضي، وفقاً لدراسة عن الأثر الاقتصادي والإنتاجي لارتفاع منسوب مياه الأرضي بسيوة. وأكدت الدراسة التي نُشرت عام 2017 بالمجلة الزراعية، ارتفاع متوسط تكلفة زراعة فدان الزيتون بالأراضي القديمة بنحو 79 في المئة من نظيرتها من الأراضي الجديدة، كما أن متوسط العائد بالأراضي القديمة بلغ 49 في المئة من نظيرتها من الأراضي الجديدة.
يؤكد تحليل البيانات -الذي قمنا به من خلال صور الأقمار الاصطناعية- أن مساحات الأراضي المستصلحة زادت بنسبة 302.31 في المئة ما بين عامي 2005 و2021؛ إذ وصلت إلى38.23 كيلومتراً مربعاً عام 2021، بعدما كانت 9.53 كيلومتراً مربعاً في 2005.
تركزت معظم الأراضي المستصلحة في منطقة أبو شروف الكفراوي؛ حيث زادت خلال الفترة الواقعة ما بين 2005 و2021 بمعدل 457 في المئة، تليها منطقة بهي الدين، والتي زادت بنسبة 391 في المئة خلال الفترة نفسها.
خلال عام 2021، كان إجمالي الأراضي المستصلحة 38.3 كيلومتراً مربعاً؛ تُمثل الأراضي المستصلحة في أبو شروف الكفراوي فقط نصفها بنسبة 49 في المئة، يليها مركز سيوة بنسبة 21 في المئة، ثم بهي الدين بنسبة 16 في المئة، ثم المراقي بنسبة 13 في المئة، ثم أغورمي بما يقارب واحداً في المئة.
بناء على ذلك، في مدينة سيوة الواقعة بمنتصف الواحة، زادت مساحات الأراضي المُغدقة بالصرف بنسبة 1101 في المئة بين 1990 و2021. تليها أراضي المراقي؛ حيث زادت مساحات الأراضي المغدقة بالصرف بنسبة 774 في المئة خلال الفترة نفسها.
ثم أراضي بهي الدين بنسبة 666 في المئة، ثم أغرومي بنسبة 226 في المئة، أما منطقة أبوشروف-الكفراوي التي شهدت أعلى زيادة في مساحات الأراضي المستصلحة والواقعة على أطراف الواحة، تراجعت فيها مساحة الأراضي الغدقة بالصرف بنسبة 68 في المئة.
يؤكد تحليل البيانات -الذي قمنا به من خلال صور الأقمار الاصطناعية- حدوث زيادة بنسبة 251 في المئة في مساحات الأراضي الزراعية في الواحة، يوازي ذلك تناقص حجم الأراضي الصحراوية بنسبة 4 في المئة، خلال الفترة ما بين 1990 و2021.
يقول دكتور أشرف مصطفى، رئيس قسم علوم التربة والمياه بكلية الزراعة جامعة الإسكندرية، والمشرف على دراسة تقييم حساسية منطقة شرق واحة سيوة للتصحر: "إن كل محاولات إخراج المياه خارج سيوة لم تؤتِ ثمارها، كلها عبارة عن مشروعات على الورق فقط، وفي السنوات الأخيرة اشتركنا -كجامعة الإسكندرية- في مئات الاجتماعات لحل أزمة الصرف، ولكن لم نفلح".
في كانون الثاني/يناير 2022، بدأت الحكومة -ممثلة في عدة جهات تنفيذية- تنفيذ مشروع جديد لتطوير إدارة منظومة الري والصرف؛ لحل مشكلة الصرف الزراعي "بشكل جذري"، كما تروّج البيانات الصحفية الصادرة عن وزارتي الري والزراعة.
يقوم المشروع الجديد على صرف المياه الزائدة خارج الواحة، وتحديداً في منطقة شمال شرقي سيوة، من خلال قناة مدفونة من الخرسانة المسلحة، مدعومة بمحطات رفع وشبكة توزيع وخزانات. تستهدف نقل مياه الصرف الزراعي، حتى منخفض "عين الجنبي" خارج نطاق واحة سيوة.
الرحيل الأول لأسرة علي حيدر، يتشابه مع ما حدث معه في حزيران/يونيو الماضي؛ فكانت مياه الصرف الزراعي تظهر على فترات ومراحل متباعدة، لكنّها كانت تتزايد في كل مرة عن الأخرى.
يتمنى على حيدر نجاح المشروع القائم حتى لا يترك بيته وأرضه للمرة الثانية؛ لكنّه لا يثق في تحقيق ذلك حتى يصبح أمراً واقعاً، يقول حيدر: "الوعود كتيرة والمهم النتيجة". بينما عمر راجح، المتحدث باسم قبائل سيوة، مُتفائل بالمشروع الجديد، الذي يراه حلاً لأزمة الصرف في الواحة، وسيمكّنه مستقبلاً من إعادة استصلاح أرضه وأراضي والده، التي دمّرها الصرف. في المقابل، فإن الحكومة -ممثلة في وزارتي الري والزراعة- مستمرة في استراتيجيتها، التي انتهجتها الحكومات السابقة على مدار 30 عاماً، في استصلاح مزيد من الأراضي الزراعية بالواحة، مع الإعلان عن مشروعات لتطوير منظومة المياه بالواحة، والتي لم تنجح في تحقيق أيّ جديد حتى تاريخ نشر هذا التحقيق.
نشر هذا التحقيق بالتعاون بين مجلة آفاق البيئة والتنمية وشبكة أريج (إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية)