مشاريع إعادة تدوير الأقمشة في غزة.. تعددت الأسباب و"التوقف" واحد
وطن- فاطمة زكي أبو حية
عند البحث عبر الإنترنت عن إعادة تدوير الأقمشة والملابس في قطاع غزة، تظهر تقارير صحفية عدة، تسلط الضوء على مشاريع واعدة تتبنى هذه الفكرة، أصحابها يتحدثون عنها بحماس، شبابٌ لديهم أحلام كبيرة بتحقيق نجاحات شخصية وإنجازات مجتمعية وبيئية، يعلنون عزمهم على استخدام بقايا الأقمشة الجديدة، أو تجديد الملابس المستخدمة.
وبالبحث مجددًا عن أسماء تلك المشاريع، على الأغلب لن تجد لها أثرًا، وفي أحسن الأحوال ستجد صفحة في أحد مواقع التواصل الاجتماعي تحمل اسم المشروع، وقد مرّت سنوات على آخر منشور نُشر فيها، أما أولئك الشباب المتحمسون، فإن تعثّرت بحساباتهم في مواقع التواصل، ستجدهم منشغلين بقضايا أخرى، ومنهم من يتضح من منشوراته أنه غادر القطاع بحثًا عن العمل في بلد آخر.
في هذا التقرير، نتساءل عن مصير تلك المشاريع، وأسباب عدم استمرار معظمها.
البيئة وأسباب أخرى
إيناس الغول، مهندسة زراعية متخصصة في مجال التنمية الريفية، انتبهت ذات مرة، وكان هذا عام 2020، لكمية النفايات الكبيرة من القماش والجلود المتراكمة في إحدى مناطق محافظة خان يونس، وعرفت من سكان المنطقة أنهم لا يجدون طريقة للتخلص منها.
زارت الاتحاد العام للصناعات الفلسطينية، واطلعت على ما فيه من إحصاءات، فوجدت أن القماش يحتل نسبة كبيرة جدًا من نفايات القطاع، ولا يُعاد تدويرها أبدًا، فتعمّقت في الموضوع، ووجدت المزيد من المعطيات التي شجعتها على إطلاق مشروعها بعد سنة كاملة من البحث والدراسة.
تقول صاحبة مشروع "إبرة وصنارة" لإعادة تدوير الأقمشة والجلود: "نحو 180 طنًا من هذه النفايات تُحرق سنويًا في الأحياء السكنية، فأغلبها لا تصل إلى المكبات، بل يستخدمها الناس لإشعال نيران الأفران، وهذا يفاقم ضررها على الإنسان والبيئة".
وتضيف لـ "آفاق البيئة والتنمية" عن أسباب اختيارها فكرة المشروع: "إلى جانب تنظيف البيئة بطريقة عصرية، وتحويل الشيء القبيح إلى جميل، فإن المشروع يساهم في تمكين السيدات، وتعليمهن حرفة الخياطة، وكذلك يساعد على تقليل الفجوة التي سببّتها العمالة في الداخل المحتل، دربّتُ 17 امرأة، وقد عملن في المصانع فور انتهاء تدريبهن، وهذا كسر حاجز الرفض بشأن عمل النساء في المصانع".
ترى الغول أن قطاع غزة بيئة مناسبة لتنفيذ مشاريع إعادة التدوير، حيث الاستهلاك الكبير الذي ينجم عنه نفايات بكميات كبيرة من مختلف الأنواع، "لكن ثمة عقبات تجعل الاستمرار صعبًا، وهذا يحتاج لإرادة من صاحب المشروع، وحسن إدارة، ودعم من الجهات المختصة".
ومن تجربتها تقول: "تكاليف المشروع ليست هينة، والجهات المانحة لا تغطي أغلب الاحتياجات، فأي تمويل لا يوفر مقرًا، ولا وسيلة نقل، ولا نظام الطاقة الشمسية لمواجهة انقطاع الكهرباء".
وتمضي في حديثها: "أواجه مشكلة في الترخيص، فمسمى "إعادة تدوير" ليس موجودًا ضمن تصنيفات الترخيص، رغم أهميته، ومع أنه صار من الأساسيات في الدول العظمى، وبطبيعة الحال فإن مشكلة الترخيص هذه؛ تعني تحجيم العمل".
ومن الصعوبات التسويق، فهذا النوع من المشاريع ليس كغيره، إذ لا يكفي الترويج للمنتج، بحسب الغول التي توضح: "أعمل في خطين متوازيين، الأول تسويق المنتجات للفئة المدركة للمشاكل البيئية وطرق مواجهتها، وهي محدودة جدًا، والثاني هو رفع الوعي المتصل بالبيئة، وخاصة في موضوع إعادة التدوير".
وفي مقابل العقبات، توجد مميزات تساعد على إنجاح بيع المنتجات للجمهور بسعر منخفض، موضحة بالقول: "نستخدم أقمشة غير مستخدمة مسبقًا، فبعض الناس قد يرفضون فكرة اقتناء مُنتج مصنوع من ملابس ارتداها أشخاص آخرون".
صفة تراها الغول عملة ذات وجهين، ميزة وعيب في الوقت نفسه، وهي المرونة في التصنيع، فالأقمشة تدخل في أصناف كثيرة، ما يعني أن منتجات المشروع متنوعة، وهذا هو الوجه الجيد، أما الوجه الآخر، يتمثل في كون التنوع يرفع التكلفة، حيث لكل منتج متطلبات ونفقات خاصة به.
وبعد مرور سنتين على مشروعها، تعطينا الزُبدة: "لولا الإصرار ما كان ليستمر حتى اليوم، بدلًا من أن أجني الأرباح منه، فإنني أنفق عليه من راتب وظيفتي الأخرى، لكن التصميم جزء من شخصيتي، وعلى أي حال كنت أعرف صعوبة الطريق عندما قررت السير فيه".
وفي السياق ذاته تواصل كلامها: "تفتر الهمة من حين لآخر، وتحدث إخفاقات في الرحلة، ولا أجد من يشجعني أو يقدرّني، لكن التراجع غير موجود في قاموسي".
وتطالب الغول الجهات المختصة بالتدخل لتذليل العقبات، نظرًا لأهمية هذه المشاريع اجتماعيًا وبيئيًا واقتصاديًا.
إقبالٌ ولكن..
مع بداية جائحة كورونا، خاضت غدير السقا تجربة إعادة تدوير القماش، فأطلقت مع فريق شبابي مشروع "كيس بلدي"، لإنتاج حقائب قماشية تصلح بديلًا عن الأكياس البلاستيكية.
تقول السقا لـ"آفاق": "منبع الفكرة كان توفير بديل آمن يمنع نقل الفيروس، وأردنا أن يكون البديل صديقًا للبيئة، خاصة أن القطاع يستهلك كميات كبيرة جدًا من هذه الأكياس".
وتضيف: "دمجنا القماش الجديد تمامًا في بقايا الأقمشة التي كنا نشتريها من المصانع والخياطين".
ولقي المشروع بعد انطلاقه إقبالًا كبيرًا، لكونه يساعد على الحماية من العدوى، كما أنه يقدم تصميمات عصرية، وخاصة بأصحابها، لا سيما أن هناك من يرغب بحمل قطعة لا يملكها سواه، إضافة إلى زيادة وعي الشباب بأهمية استخدام المنتجات الصديقة للبيئة".
وتلفت إلى أن الإعلام والحاضنة التي تبنّت المشروع ساهما في نشر الفكرة وتعريفها للناس.
ومع ذلك، فإن المشروع الذي انطلق عام 2020 لم يستمر بالوتيرة نفسها، ما يزال مستمرًا، ولكن بشكل محدود للغاية، فبعض أعضاء الفريق سافروا واستقروا خارج القطاع، والبقية لديهم انشغالات أخرى، وهؤلاء لا يسوّقون لعملهم في مواقع التواصل كما كانوا سابقًا، ولكن إن وصلهم طلب لتصميم حقيبة ينفذونه.
ومن واقع تجربتها، ترى السقا أن نجاح مشاريع إعادة تدوير القماش يحتاج لحملات توعية وتثقيف لتعَلق الفكرة في الأذهان، ويزيد تقبل الناس لها وتوجههم نحوها، عبر تقديم تصاميم مميزة، يمكن أن تكون تصاميم شخصية، تشبع رغبة الفرد بالتميز، مبينةً: "أيًا كان سبب استخدام القطعة المُعاد تدويرها، فإن من يستخدمها سيشعر مع الوقت أنه تحوّل من شخص استهلاكي لصديق للبيئة، وبالتالي سيستمر في هذا الاتجاه".
الوضع الاقتصادي
يقول محمد حمدان رئيس نقابة العاملين في النسيج والملابس والجلود والخياطة؛ إن السنوات الأخيرة شهدت انطلاق عدد من المشاريع المتخصصة في إعادة تدوير الأقمشة والملابس، لكنها لم تستمر بسبب الأوضاع الاقتصادية في القطاع.
ويضيف في حديثه لـ"آفاق": "مصادر الأقمشة متعددة، منها مصانع الملابس، وورش الخياطة، ومصانع الأثاث، لكن كمياتها تتفاوت بين وقت وآخر بسبب تأثير الاستيراد على الإنتاج المحلي، ما يعني عدم استقرار كمية إنتاج مصانع الملابس، وبالتالي عدم ثبات كميات المخلفات الناتجة عنها".
تساءلنا عن دور النقابة، وكان جوابه واضحًا: "النقابة تعاني بسبب الوضع الاقتصادي والانقسام السياسي وتبعاته، لذا ليس سهلاً أن تدعم تلك المشاريع".
أسباب الفشل
من جانبه، يقول أحمد النبريص مدير المشاريع في الاتحاد العام للصناعات الفلسطينية إن مخلفات النسيج الصادرة عن مصانع الملابس تنقسم لنوعين، الأول يبدأ قبل الإنتاج أصلاً، ويتمثل في الأقمشة التي يستوردها أصحاب المصانع ولا يستخدمونها، ولا يتخلصون منها لكونها كلفتهم أموالاً، وبالتالي يخزّنونها لفترات طويلة.
فيما النوع الثاني هو بقايا الإنتاج، وتتمثل في قصاصات ما بعد الخياطة، والمنتجات التالفة، مبينًا أن نسبة الهدر في مرحلة التصنيع تصل في بعض المصانع إلى 15% من كمية الأقمشة المستخدمة.
ويخبرنا: "تجارة الملابس القديمة التي تستورد من الخارج "البالة" تنتج نفايات نسيجية أكبر من المصانع، إضافة إلى الملابس التي يتخلص منها المواطنون".
ويؤكد أن قطاع غزة بحاجة ماسة لمشاريع إعادة تدوير الأقمشة والملابس، لأسباب بيئية واقتصادية.
"نُفّذت مشاريع عديدة من هذا النوع، لكن الاستمرار لم يكن حليف الغالبية العظمى منها، ليس لعيب في الفكرة وإنما لأسباب أخرى، منها عدم كفاية الدراسة المسبقة للمشروع، وضعف التمويل، وقلّة أفكار التدوير بطريقة تجذب المستهلك، ولأن تدوير الملابس القديمة يجعلها أغلى سعرًا من نظيرتها الجديدة أحيانًا"، بحسب حديث النبريص.
ويردف قائلًا: "عدم تأسيس المشروع كما يتوجب من كل النواحي، وتوفير التمويل اللازم، هو بمثابة الحكم عليه بالفشل قبل أن يبدأ"، لافتًا إلى أن هذا النوع من التدوير يتطلب تكلفة عالية، ولا يتناسب مع المشاريع الصغيرة.
ولضمان نجاح مشاريع تدوير الأقمشة والملابس، يقول النبريص: "لا بد من تقديم التمويل الكافي، والتدريب الفني والمهني، وتوفير بيئة معززة قانونيًا واقتصاديًا، وربط المشروع بشركاء يساعدونه على النجاح".
وعن قبول المجتمع للمنتجات المعاد تدويرها، يوضح: "هذا يتوقف على طبيعة المنتج، فمجتمعنا يستخدم منتجات مُعاد تدويرها حقًا، مثل حشو الأثاث، وهو بقايا أقمشة حُوّلت لفتات الحشو، لذا لا بد من منظومة إنتاج متكاملة تستخدم الأقمشة والملابس في منتجات وتطبيقات كثيرة".
مرحلة التصميم والنفايات
يسلط الضوء على هذه المشكلة كتالوج "تحديات القطاع الصناعي في مجال الاقتصاد الأخضر والدائري" الصادر عام 2021 عن مشـــــروع "تحســــــين صمود المشــــــاريع متناهية الصــــــغر وخلق فرص سبل العيش المستدام في قطاع غزة– سوا" الذي تنفذه وكالة التنمية البلجيكية بتمويل من الاتحاد الأوروبي، وبالشراكة مع الاتحاد العام للصناعات الفلسطينية.
بحسب الكتالوج، فإن مشكلة تراكم نفايات النسيج تُعزى إلى ميل تجار مواد النسـيج وأصحاب المصـانع لاستيراد كميات كبيرة من الأقمشــة منخفضــة التكلفة، دون الاهتمام بنوعها وحاجة السوق لها، ما يؤدي لبقاء كميات كبيرة منها في المخازن، وبسبب التخزين لفترات طويلة، وفي حرارة غير مواتية يتلف كثير منها.
ومن أهم العوامل المؤثرة في كمية النفايات، مرحلة التصميم، إذ تُهدر كمية تراوح بين 10 و12% من القماش عند القص والتركيب الذي يتضـــمن تصميم "موديل" الملابس، وكذلك، الاعتماد على الطرق التقليدية في العمل.
ومما ينبه له الكتالوج: "لا يوجد مفهوم موثوق لإعادة التدوير، عادة يُتخلّص من أصناف الملابس المســتخدمة أو غير المسـتخدمة وكذلك قطع النفايات من القماش مع نفايات صلبة أخرى، وتُرسل إلى مدافن القمامة أو مصانع الحرق. ليس هنالك تجميع أو فرز للمنسوجات التي يتخلص منها الناس وفقًا لحالتها أو أنواع الألياف المستخدمة".
خاص بآفاق البيئة والتنمية