سيارات غزة المتهالكة تهدد حياة مواطنيها والسرطان أول المخاطر

27.07.2023 11:03 PM

وطن- آلاء المقيد

تلوث الهواء معضلة حقيقية يُعاني تبعاته الصحية والبيئية، قطاع غزة الذي يعد أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم (مليونان و375 ألفًا و259 نسمة، يسكنون مساحة لا تزيد على 365 كيلومترًا مربعًا).

وترتبط ظاهرة تلوث الهواء المنتشرة عالميًا بأسباب عديدة، منها الانبعاثات السامة لعوادم المركبات ووسائل النقل، وفي قطاع غزة يزيد الطين "بِلة" عوادمُ المركبات المتهالكة التي مضى على صناعة بعضها أكثر من 30 عامًا، ولاتزال تواصل سيرها في الشوارع والأماكن المأهولة بالسكان.
وبينما تؤرق مشكلة التلوث عامة الناس والجهات المعنية بشئون الصحة والبيئة، يرى سائقو هذه المركبات أنه "لا سبيل أمامهم سوى مواصلة عملهم، نتيجة عجزهم ماديًا عن شراء سيارة جديدة تحميهم من ملاحقة شرطة المرور، وتذمر المارّين".
وبالرغم من الإجماع على الآثار الصحية الخطرة لعوادم السيارات التي تضر بالإنسان والبيئة معًا، إلا أن الاهتمام حكوميًا ومن المراكز البحثية ضعيف، إضافة إلى عدم توفر الأجهزة الخاصة في قياس معدلات تلوث الهواء، ونسب الانبعاثات السامة.
وأهم الانبعاثات الغازية السامة التي تخرج من عوادم المركبات عالميًا هي غاز أول أكسيد الكربون، وغاز ثاني أكسيد الكربون، وأكاسيد الكبريت، وأكاسيد النيتروجين، والرصاص، وغيرها من المخلفات الكيميائية.
لا إحصاءات دقيقة
يقول أيسر طُعمي؛ القائم بأعمال مدير دائرة إحصاءات البيئة في الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني لـ "آفاق البيئة والتنمية" إن انبعاثات عوادم السيارات ووسائل النقل، من العوامل البارزة التي تساهم في ظاهرة تلوث الهواء.
ولا يتوفر إحصاءات دقيقة ومفصّلة عن معدلات تلوث الهواء الانبعاثات السامة لكل محافظة؛ نظرًا لعدم توفر أجهزة القياس اللازمة لذلك، لكن طُعمي يشير إلى أن قطاع الطاقة عمومًا يساهم بنحو 3 ملايين و867 ألف طن بما يُعادل 73% من إجمالي الانبعاثات السامة في الضفة والقطاع.
في حين يساهم قطاع النقل عامةً بـ 67% من إجمالي الانبعاثات الغازية السامة في الضفة والقطاع، وفق معطيات الإحصاء.
ويُضيف طُعمي أن هناك الكثير من الانبعاثات الغازية السامة التي تخرج من عوادم المركبات، التي تنتج من عمليات احتراق الوقود، أبرزها غاز ثاني أكسيد الكربون، وغاز الميثان، وغاز أكسيد النيتروز.
وأعرب عن أمله بأن يكون هناك تعاون مع الجهات ذات العلاقة مثل وزارتي الصحة والنقل، وسلطة جودة البيئة؛ لاستيراد الأجهزة التي يُمكن بواسطتها قياس الانبعاثات الغازية السامة بدقة، خاصة مع تزايد الإصابة بالأمراض الرئوية والربو والأورام الخبيثة.
لهذا يُغض النظر عن السيارات المتهالكة
تبلغ عدد المركبات في قطاع غزة نحو 81 ألف مركبة من جميع الأنواع، منها قرابة الـ 6 آلاف مركبة متهالكة يزيد عمرها على 20 عامًا، وفقًا لما تحدث به الناطق باسم وزارة النقل والمواصلات في غزة أنيس عرفات.
ويذكر أن 61% من إجمالي عدد السيارات مرخصة، مضيفًا أن الاحتلال يمنع إدخال المركبات العمومية (النقل العام) إلى قطاع غزة منذ عام 2007.
الأوضاع الاستثنائية التي يمر بها القطاع جراء الحصار الإسرائيلي، دفعت "النقل" إلى غض النظر عن السيارات المتهالكة والقديمة التي لا تصلح للاستخدام، كما يقول.
"هل من مشاريع قدمتها الدول المانحة والمؤسسات الدولية العاملة في القطاع لدعم خطة إتلاف السيارات القديمة وتعويض أصحابها؟" (تسأل مراسلة آفاق البيئة والتنمية)، فيجيب عرفات: "يا للأسف؛ لم تُطرح الفكرة إطلاقًا".
ويزيد بقوله: "مئات العائلات في قطاع غزة تعتاش من السيارات القديمة، وإعدامها يعني زيادة نسبة الفقر، وهذا سبب كفيل بدفع الوزارة لغض الطرف عنهم".
إلى جانب ذلك يقرّ بعدم وجود وعي مجتمعي حول مخاطر تلوث الهواء على البيئة والصحة، رغم ارتفاع نسبة الإصابة بالأمراض الصدرية والسرطان.
وقيّد الحصار وزارة النقل في التعامل مع السيارات القديمة - تبعًا لعرفات- لكنها تخضع للفحص تمامًا كالسيارات الحديثة، وفي إطار ذلك يشير إلى "اصطدام الخطط التطويرية بعقبة الحصار ومنع إدخال الأدوات اللازمة إلينا".
وأكد الناطق باسم الوزارة وجود خمسة مراكز للفحص (الدينموميترات) في قطاع غزة التي تخضع لرقابة كاملة.
ويوضح أن هناك كاميرات تَنقل إلى قسم الرقابة في الوزارة نقلًا حيًا ومباشرًا وعلى مدار الساعة بشأن كيفية عمل موظفي هذه المراكز، مشددًا في حديثه أن أي مخالفة يرتكبها العاملون في هذه الأماكن، تلحق بهم عقوبات قد تصل إلى الفصل من العمل.
إجراءات التحقق من سلامة المركبة
وللاطلاع أكثر على عمل هذه المراكز، زارت مراسلتنا مركز فحص "السامر" في مدينة غزة، الذي يضم مهندسين وفنيين وإداريين، ويخضع جميعهم لدورات متخصصة تؤهلهم للعمل بكفاءة ومهنية.
يقول سامي التري فاحص فني مركبات، إن مهمتهم تتمثل في التحقق من "سلامة معايير الحالة الفنية للمركبة" للسير على الطريق، عبر فحص بطاريتها، وشبكة الكهرباء، والأضواء الأمامية والخلفية والإطارات، ومحركاتها وكفاءة عملية احتراق الوقود.
يوميًا تزور قرابة 20 سيارة مركز "السامر" للفحص، ويُخبرنا التري أن من 100 سيارة هناك 10 متهالكة تأتي إليه للتحقق من سلامتها، وهذا العدد قليل.
وعن الإجراء المتبع لفحص عوادم السيارات بمراكز "الدينموميترات"، يفيد أن الدخان المنبعث من السيارة يُفحص بالعين المجردة، وفي حال لوحظ انبعاث دخان كثيف منها، تُحوّل إلى جهاز الفحص الخاص، الذي يقيس نسبة الكربون وثاني أكسيد الكربون في دخان العادم.
ويردف التري قائلًا: "إذا زادت نسبة الكربون في دخان العادم على 50%؛ تُرّسب السيارة وتُفرض القيود عليها إلى أن يجري صاحبها صيانة المحرك"، مؤكدًا أن هذا الفحص يتضمن تشديدات خاصة على السيارات القديمة.
لكن ما يجب الإشارة إليه، أن محرك السيارة ليس من الأساسيات التي تُفحص أولًا، كما أن أنموذج المخالفات الذي تستخدمه شرطة المرور في حملات الرقابة الميدانية السنوية والعشوائية في الشوارع، لا يحتوي على بند متعلق بالعادم.
وتبرر وزارة النقل وشرطة المرور ذلك بالقول: "عادةً ما تسلك المركبات القديمة طرقًا التفافية وداخلية، والأماكن الزراعية البعيدة؛ هربًا من الرقابة وحملات التفتيش".
إضافة إلى ما سبق، لُوحظ أن المركبات في قطاع غزة تخضع للفحص حسب نوعها مرة أو مرتين سنويًا فقط، تبعًا لقانون المرور الفلسطيني، وهذا يُقلل فرص ضبط المركبات غير السليمة ومراقبتها دوريًا.
ماذا يقول المواطنون؟
كثيرون من سكان القطاع يتذمرون عند مرورهم بجانب السيارات القديمة التي يعود تصنيع بعضها إلى أكثر من 25 عامًا، وهناء عبد الرحمن (أم حسن) واحدة منهم، فهي تعاني ضيق تنفس دائم ناتج عن إصابتها بمرض القلب.
تقول المرأة التي تقطن مخيم الشاطئ غرب غزة، إن عوادم السيارات تضاعف أزمتها الصحية، إذ يلازمها السعال والاختناق الشديد عند خروجها من المنزل، وفي بعض الأحيان تضطر للذهاب إلى المستشفى.
وتلفت النظر إلى أنها لم تعد تخرج من منزلها إلا لقضاء الاحتياجات الضرورية لعائلتها، مطالبةً بالتدخل من الجهات المعنية لوقف "قتل الناس بالبطيء" على حد تعبيرها.
أسامة علي من شمال قطاع غزة، لا يُعاني من أي أمراض صحية، لكنه يؤكد أن دخان السيارات لا سيما القديمة منها، يخنقه، مضيفًا: "الدخان الذي يخرج من المركبات يكدّر الجو لفترة ليست بسيطة".
ويصف هذه السيارات بـ "غير المريحة" للراكب"، وأن أثرها السلبي يمتد ليشمل الأصحاء وليس المرضى فقط، وفي الوقت نفسه لا يجور على سائقيها، بقوله: "نحن نعيش في مدينة تُعاني الويلات، فلا مصدر رزق آخر لهم، وهذا يدفعني لتقبل وجودهم".
ويرى أن الدور الأكبر يقع على عاتق الجهات الحكومية والدول المانحة، مستطردًا: "يجب العمل جديًا بما يضمن توفير بديل لمالكي هذه المركبات، قبل التوجه لفكرة إتلافها؛ لأن نسبة الفقر لا تحتمل الارتفاع أصلًا".
أما الطالبة الجامعية أفنان بارود ترفض ركوب السيارات القديمة لأنها "مزعجة وغير مريحة ولا أمان فيها"، مسترسلةً: "لا أعاني الأمراض، لكن الدخان الأسود المنبعث منها يُسبب لي حالة اختناق شديد، وأحيانًا أشعر بالغثيان".
وانتقدت "التساهل غير المبرر"، حسب رأيها، من الجهات الحكومية مع أصحاب هذه السيارات، مشيرة إلى أن ذلك ساهم في زيادة أعدادها، وبالتالي زيادة المخاطر الصحية والبيئية.
عوادم السيارات إنذار موت
من جانبه، يرى المختص في شؤون البيئة م. عطية البرش عوادم السيارات في قطاع غزة لا سيما المتهالكة منها بمثابة "إنذار موت" للإنسان والبيئة والحياة النباتية على حدٍ سواء، ما يضع الجميع أمام مسؤولية كبيرة؛ من أجل العمل للتقليل والحد من هذه الملوثات ونسبها.
ويشرح البرش لـ "آفاق البيئة والتنمية" أن خطر السيارات القديمة يكمن في عدم قدرة محركاتها المتهالكة على حرق الوقود كاملًا، وبالتالي خروج دخان كثيف وانبعاثات سامة إلى الهواء، عدا عن أصوات الضجيج الصادرة من أبواقها التالفة.‏
وتعد انبعاثات عوادم المحركات التي لا تُرى بالعين، وفق تقارير صحية عالمية، سببًا مباشرًا للإصابة بالأمراض الرئوية والربو، والأورام الخبيثة، وعلى المدى البعيد قد يُصاب الإنسان بسببها بالصداع، والاكتئاب، وفقدان الذاكرة.
وعند الحديث عن قطاع غزة، يجب التنويه إلى أن السنوات الست الماضية شهدت ازديادًا في نسبة الإصابة بأمراض السرطان، حيث ارتفع معدل الإصابة من 89 إلى 91.3 حالة لكل 100 ألف نسمة، حسب تقرير صادر عن وزارة الصحة في فبراير/ شباط الماضي.
وفي عام 2022 وصل 6 آلاف مريض سرطان إلى مستشفى الصداقة التركي في غزة، وسط توقعات بتسجيل نحو 2000 حالة جديدة في عام 2023 الجاري، بينما بلغت نسبة الوفيات بسبب السرطان نحو 12.5% من إجمالي وفيات سنة 2021.
وتتأثر الزراعة أيضًا بالانبعاثات الغازية السامة، وعن ذلك يتحدث البرش: "سقوط جزيئات أكاسيد النيتروجين والرصاص على عروق أو أغصان النباتات يُسبب موتها أو تلف أجزاء كبيرة منها، وعدم نضوجها وسقوط أوراقها واصفرار بعضها، إضافة إلى تأثيرها ‏على طبقة الأوزون".
ويُلقي البرش المسؤولية الأساسية على سلطات الاحتلال، قائلًا: "كان لدينا مختبر متنقل لمراقبة تلوث الهواء الناجم عن عوادم السيارات والمصانع، لكن "إسرائيل" قصفته عام 2008، والآن أصبحنا عاجزين عن ذلك".
ومنذ ذلك الحين يضع الاحتلال العراقيل أمام استيراد الأجهزة اللازمة لمراقبة جودة الهواء، ويتساءل البرش باستنكار عن دوافع ذلك.
محذرًا الجميع: "التحدي القائم كبير لأجل مراقبة التلوث الناجم عن عوادم السيارات".
ومن جهة أخرى، فإن عدم توفر طرق مرورية مؤهلة وبعيدة عن الأماكن السكنية في القطاع، يساهم في زيادة أثر الانبعاثات الغازية، كما أن الزحف العمراني على حساب المساحات الخضراء يعيق تجدد الهواء، يقول المختص البيئي.
وفي ضوء ذلك كله، يطالب البرش بتكثيف حملات التوعية في المجتمع والمؤسسات التعليمية سواء المدارس أم الجامعات، لتعريف الناس بمخاطر هذه الظاهرة على الصحة والبيئة، وبسبل مشاركة الفرد إيجابًا في الحد من انتشارها.
وفي ختام حديثه، يهيب بالجهات المعنية زيادة المساحات الخضراء لرفع نسبة الأكسجين في الجو، داعيًا المواطنين إلى استخدام البدائل الآمنة في التنقل، مثل المشي وركوب الدراجات الهوائية بدلًا من المركبات.

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير