علاقة الغزيين ببحرهم الملوث تنتعش صيفاً في المدينة المتعَبة

18.07.2023 08:51 PM

وطن- فاطمة زكي أبو حية

41 كيلو مترًا هي المتنفس الوحيد تقريبًا لأكثر من مليونين و300 ألف نسمة، يضيق بهم الشريط الساحلي الصغير، يتوزعون على مساحته البالغة 360 كيلومترًا مربعًا، في قطاع غزة، حيث الحصار يُطبق على أنفاس أهله منذ 16 عامًا، يصعب إيجاد بدائل يتوجه لها المواطنون بحثًا عن الترفيه والعمل، فتوفير أماكن كهذه يحتاج رؤوس أموال لتأسيسها، ويتطلب اقتصادًا نشطًا ومستقرًا يخلق أوضاعًا مادية جيدة تساعد الناس على الاستفادة منها، وهذا لا يتوفر في أرضٍ أرهقها الاحتلال وضنك العيش.

هذه الحالة أسسّت علاقة قوية بين الغزّي وبحره، فداخل مياهه وعلى شاطئه، يمارس حياته بكل تفاصيلها، العمل بالصيد والتجارة والاستثمار ولو بعائد مادي متواضع، والترفيه والتخفيف من أعباء الحياة، والرياضات باختلاف أنواعها، والتصوير وإبراز جمال المدن المُتعبة، وغير ذلك الكثير من التفاصيل التي نرصدها في هذا التقرير.

لكن المؤسف، أن هذه العلاقة على قوتها، تشوبها مشكلة تلوث البحر، حيث المياه العادمة ومخلفات بعض المصانع، لا مكان لها سوى مياهه، مع العلم أن التلوث قلّ في السنوات الأخيرة عن سابقاتها بسبب محطات المعالجة، ففي بعض السنوات وصل الأمر إلى التحذير من السباحة على طول الساحل لخطورته على الصحة، وهو ما يجعل بعض الأهالي يمنعون أبناءهم من السباحة على مدار العام، ومنهم من لا يوافق عليها إلا في أماكن محددة وفق خريطة نسب التلوث.

خيار أول

من أبرز المشاهد على بحر القطاع، التجمعات، فعلى شاطئه تجتمع العائلات، ويلتقي الأصدقاء، وتنظم العديد من المؤسسات فعالياتها.
هنا تتفق العائلات على اللقاء هربًا من ضيق البيوت وحرارتها العالية في أوقات انقطاع التيار الكهربائي، ويقضون يومهم كاملاً أو بعضه، حتى أن بعض العائلات لم تعد تنظم ولائم المناسبات الخاصة بها إلا على الشاطئ.
الأمر من أبسط ما يكون، وتحقيق السعادة مُتاح بتكلفة قليلة جدًا، لا داعي لوجبات جاهزة، ولا لأماكن فاخرة، يمكن أن تعدّ صاحبة البيت طعامًا بنفسٍ طيب مما يتوفر في مطبخها، فيما الجلوس على "الكورنيش" مجانًا، أما ألعاب الأطفال والتسالي فهي كثيرة وبأسعار زهيدة.

بالطريقة ذاتها يلتقي الأصدقاء، الإناث يجتمعن في ساعات النهار غالبًا، مراعاة لعادات المجتمع، ومساءً يلتف الشباب حول الطاولات.
وبين المجتمعين هنا وهناك، قد تجد شخصًا يجلس بمفرده، يحتسي فنجان قهوة وأمامه حاسوبه المحمول، في مشهد يوحي بأنه ينجز شيئًا من أعماله، أو تجده يمد بصره في الأفق الأزرق، فهو ربما يتخذ قرارًا مهمًا أو يصفّي روحه من أعباء الحياة.
وقد يقطع صوت الحياة النابضة في هذا الازدحام، صوتٌ أكثر انتظامًا، إن أنصتّ له ستسمع عبارات افتتاحية لفعالية في الاستراحة المجاورة، ربما غذاء عمل لموظفي مؤسسة، أو حملة توعوية لفئة معينة، أو ترفيه لأبناء الشهداء.

ولأن البحر هو الاقتراح الأول الذي يتبادر إلى الأذهان لكثير من التجمعات، فقد كان مكانًا مناسبًا لأولى فعاليات مبادرة "سين"، وهي مبادرة جديدة أطلقتها صديقتان غزّيتان.

تقول إحداهما "لميس الطويل" إنها عاشت سنوات طويلة خارج فلسطين كانت فيها خيارات الترفيه لا حصر لها، ما شكّل لها صدمة عندما عادت للقطاع، فالأماكن محدودة ومتشابهة، ومن هنا فكرت بإطلاق مبادرة ترفيهية وعملية بعيدًا عن تخصصها في الهندسة المعمارية.

وبعد تفكير طويل مع صديقتها، قررتا إطلاق مبادرة ريادية بعنوان "سيــــــن"، "تهدف لتنظيم فعاليات ترفيهية لتعزيز التواصل الإيجابي وتخفيف الضغوط الحياتية، جزءاً من جهود التعافي بعد الحروب والتحديات الصعبة، وتعزيز التواصل الاجتماعي لمختلف الفئات، بتنفيذ عدة أنشطة متفرقة متمثلة في رحلات ترفيهية وتعليمية".

أمام هذه الأهداف، كان من البدهي أن تختار الشابتان الشاطئ مكانًا لتنفيذ الفعالية الأولى، التي نُفّذت قبل أيام.
توضح الطويل: "اخترنا المكان بعدما كوّنا عينة مصغرة لدراسة الحالة، واطلعنا على احتياجات أغلب معارفنا في هذا الصدد"، مبينة: "البحر خيار أول، كونه يخدمنا من ناحية العلاج النفسي والاستشفاء، ومرغوب عند الجميع تقريبًا".

باب رزقٍ مفتوح

أينما نظرت على الشاطئ، ستجد باحثين عن الرزق، يبيعون أي شيء يخطر على البال، يتجولون بين المصطافين لعرض بضاعتهم، أو يصفونّها على "بسطة" أو في "كشك".

ستجد أيضًا، أطفالاً يبيعون البالونات، وشبابًا يشوون الذرة، وفتيانًا يحركون عربات مزودة بصور وأضواء ملونة تصدح منها الأغاني ليجذبوا انتباه الصغار علّهم يطلبوا أخذ جولة فيها مقابل شيكل واحد أو اثنين، ستجد أبًا وأبناءه يتقاسمون كميات من الملابس ذات الأسعار المتواضعة؛ كل منهم يقصد مجموعة من الناس يقنعها ببضاعته وأسعارها.

العمل على الشاطئ يتنوع بين مطاعم وفنادق فاخرة، ومشاريع صغيرة للغاية، يكفي لتأسيسها ثمن بعض أكواز الذرة، وترويجها لا يحتاج لأكثر من رائحة الشواء التي تتسلل لأنوف المصطافين فتدفعهم للشراء.

الشاب "وسيم القصاص" واحد من هؤلاء الذين لم يستسلموا للبطالة، اختار أن يبيع "الاكسسوارات" في منطقة تعجّ بالاستراحات، بعد أن أرهقه العمل في الأسواق بسبب ملاحقة البلدية، بما أنه ليس لديه ترخيص للبسطة.
اتفق مع صاحب استراحة على الوقوف على الرصيف المقابل لها، حيث الرصيف يدخل ضمن المساحة المُستأجرة وبالتالي لن تلاحقه البلدية، كما يقول لـ"آفاق".

منذ ثلاث سنوات، يضع "البسطة" في نفس المنطقة، ولا ينقطع عنها إلا في الأيام التي تشهد أمطارًا غزيرة في الشتاء.
على امتداد ثلاثة أمتار تقريبًا، يرصّ اكسسوارات تراوح أسعارها بين دولار واحد و25 دولارًا، لفئات عمرية مختلفة، وبعد التجربة أدرك أن الشاطئ مكان مناسب لترويج أي بضاعة، وبأي ثمن، حيث يتوافد المواطنون إليه على اختلاف أعمارهم ومستوياتهم المادية.
ويوضح القصاص: "تختلف الحركة الشرائية باختلاف التوقيت وظروف القطاع، فالبيع في الصيف أفضل منه في الشتاء، وكذلك في وقت صرف الرواتب".

ويشير إلى أن كثرة الناس في المكان ليست كافية لضمان النجاح، فالتجارة عملية متكاملة، منها المهارات التسويقية، والترويج للبضاعة عبر مواقع التواصل الاجتماعي".                                                                                                                     

بيئة عمل تتغير يوميًا

أماني شعث، مرتبطةٌ بالبحر منذ كانت تقيم خارج فلسطين، حتى أنها سكنت بيتًا محاذيًا للشاطئ، وبعد عودتها للوطن، نسجت علاقة وطيدة مع شاطئ غزة، فاختارته لتأسيس مشروعها الخاص، وهو "كشك" لبيع "البرجر".
كسابقها، ترى شعث أن الشاطئ مكان مناسب لصنع فرص عمل، ولكن بشرط الالتزام بمتطلبات النجاح، مثل دراسة الجدوى، وتقديم منتج عالي الجودة.

وتقول إن العمل في مكان مفعم بالحيوية يختلف عن كل الأعمال التي خاضتها سابقًا، مضيفة: "لا يخلو أي عمل ناجح من التعب والضغط، الفرق هنا يكمن في التغيرات اليومية، مثل اختلاف الطقس بين يوم وآخر".

الرياضة والهواية وكل شيء

بعد الفجر، نرى المشاة على الكورنيش، يسابقون الشمس، ليقطعوا أطول مسافة ممكنة قبل أن تلاحقهم بحرارتها، ويتكرر المشهد بعد انكسار أشعتها، المشاة فرادى وجماعات، ذكور وإناث، كبار وصغار، عائلات وأصدقاء.
هذا جزء من ارتباط البحر بممارسة الهوايات والرياضات، رياضاتٌ مائية كالغوص وركوب الأمواج، أو رياضات على شاطئه، كركوب الخيل، وهوايات مثل التصوير، وهي هواية يستثمرها بعضٌ لجني الأرباح، مثل بيع الصور، أو إعداد محتوى رقمي.
كثيرٌ من الصور الجميلة التي تخرج من القطاع، يكون البحر مكوّنها الأساسي، الكل هنا يلتقط الصور، الصغار والكبار، الهواة والمحترفون، أصحاب الهواتف المتواضعة، وحاملو الكاميرات عالية التقنية.

ما سبق، وأكثر، جمعه "محمد أسعد"، وهو مصور صحفي وموثق للبيئة البحرية الفلسطينية، يمارس السباحة والغوص، ويصوّر، ويوثّق، وينشر في مواقع التواصل، وقناته في "يوتيوب".

يقول عن علاقته بالبحر: "كوني مصورًا صحفيًا أغطي أحداثًا وحروبًا أرهقت روحي، فالبحر مُتنفس ومكان لتفريغ الطاقة السلبية، والاستجمام، وممارسة هواية الصيد، والأهم أنه مكان لجمع المعلومات كوني موثقًا للبيئة البحرية في فلسطين، وأحاول قدر الإمكان أن أنقل المعلومات للجمهور عبر مواقع التواصل والتقارير الصحفية، خاصة أن معظم الغزيين لا يعرفوا بحرهم من الداخل".
يركّز أسعد في عمله التوثيقي على عدة نقاط، منها "النشرة الجوية والمناخ البحري"، وفيها يوضح لمتابعيه حالة المياه والأمواج يوميًا، ويرصد الأنشطة البحرية على الشاطئ، مثل الرياضات، والاستراحات وطرق بنائها لمقاومة الموج، وكذلك يتحدث عن البيئة البحرية مثل الأسماك الموجودة أصلاً، أو الدخيلة والسامة، ويُعرّف الناس بطرق طهيها، إما بوصفات جديدة تمامًا أو بتطوير الوصفات المعروفة.

ويوضح: "يتفاعل الناس بدرجة كبيرة مع ما أرصده، وأخصص أغلب وقتي للرد على تساؤلاتهم".
"ولأن قطاع غزة حالةٌ خاصة في كل شيء بحكم الاحتلال والحصار، فإن الاستمتاع بالبحر والتعامل معه ليس سهلاً" يقول أسعد مبينًا: "معدات الغوص مثل الملابس والكشافات ممنوعة منذ عام 2014، لذا ألجأ للغوص الحر، اعتمادًا على طول النَفس من دون أكسجين، وأستخدم كاميرا صغيرة بإمكانات متواضعة جدًا، لأنني أفعل كل شيء بجهدي الخاص، بينما الأمر أكبر من ذلك ويحتاج لمؤسسات تضطلع بدورها في هذا الجانب".

الجانب المعتم

الصورة ليست وردية دومًا، فثمة مشاهد مزعجة للنفس، ومؤذية للبيئة، منها المتسولون يرهقون المصطافين بطلب المال والطعام، وأغلبهم من الأطفال.

أما الإزعاج الصوتي، فحدّث ولا حرج، حيث تتداخل أصوات الباعة، كل منهم يروّج لبضاعته، بصوته الجهوري، أو بمكبرات الصوت، وألعاب الأطفال تتحول إلى "سماعات متنقلة" تبثّ الأغاني.
بين المصطافين، تتحرك الجِمال والخيول برغم الخطر الذي قد تحدثه، بعضها يأتي بها أصحابها للاستمتاع بركوبها، وبعضها يتخذون منها مصدر رزق، يجلس عليها الأطفال في جولات قصيرة مقابل مبلغ مالي بسيط.
كذلك السيارات والدراجات النارية، بقودها بعض الشباب بتهور يعرّضهم للخطر، وبسبب هذا السلوك وقعت العديد من الحوادث سابقًا لهم وللمصطافين.

من أصعب المشاهد المتكررة بكثرة، الحيوانات التي يجرّها أصحابها داخل المياه لغسلها، يفعلون ذلك بين تجمعات المواطنين في أثناء السباحة، غير آبهين برأي المحيطين بهم.
قرار منع هذا السلوك يتجدد في كل صيف تقريبًا، لكنه لا يغير حقيقة الاستمرار به، ففي بداية يونيو المنصرم أعلن المتحدث باسم الشرطة في غزة العميد أيمن البطنيجي قرار "منع اصطحاب الحيوانات والتجول بها على الشاطئ أو إدخالها مياه البحر؛ حرصًا على سلامة المواطنين، وتفاديًا لإزعاج وإيذاء المصطافين".

وقال إن الشرطة ستكثف المتابعة لتنفيذ القرار، وستتخذ إجراءات فورية وميدانية بحق مخالفيه.

توقعاتٌ لم تتحقق

يقول المهندس محمد مصلح مدير عام وحدة حماية البيئة في سلطة المياه وجودة البيئة إن نسب المناطق المسموح السباحة فيها والمناطق الممنوعة، تقاربت مع نسب العام الماضي، حيث بلغت نسبة المناطق المسموح السباحة فيها 70% من طول الشاطئ، بينما تُحظر السباحة في 30% الباقية.
ويضيف لـ "آفاق": "توّقعنا تحسنًا يرفع نسبة المناطق المسموح السباحة فيها إلى 85%، ولكن التلوث الحاصل أثرّ سلبًا".
مشيرًا إلى أن المنع يكون في مناطق تصريف المياه العادمة أو المعالجة جزئيًا.

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير