ذوبان الأنهار الجليدية كيف تؤثر الظاهرة المرعبة في المناخ؟

03.06.2023 02:31 PM

وطن- زهرة خدرج

لا نبالغ حين نقول إننا أمام ظاهرة مرعبة باتت تهدد الحياة على كوكبنا. قد تستغربون حين نخبركم أننا نقصد ظاهرة ذوبان الأنهار الجليدية تحديداً، وقد تتساءلون في أنفسكم "هل حقاً لهذه الظاهرة تأثيرات تحمل في طياتها رعباً جيولوجياً وبيئيًا؟ أم أن ذلك محض مبالغات تدور في أذهان بعضٍ منا لا أساس لها من الصحة؟".

تُرى ما هي الأنهار الجليدية؟ وأين توجد؟ وما هي أهميتها؟ وما علاقتها بتغير المناخ؟
ماذا لو ذابت جميع الأنهار الجليدية على اليابسة؟ هل سيقودنا ذلك إلى ظهور النتائج الكارثية التي يحذّر منها العلماء والباحثون والخبراء؟ ما هي هذه التحذيرات؟

للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، دعونا نتعمق في الأنهار الجليدية، لنتعرف على هذه الظاهرة عن قرب في هذا التقرير.  
ما هي الأنهار الجليدية؟

تسقط الثلوج في مواسم الهطول على المناطق شديدة البرودة، وعام بعد آخر،  يتراكم الثلج ويتحول ببطء إلى طبقات من الجليد، تحتفظ الأرض بكمية منه للأعوام القادمة، وعلى مدار مئات آلاف السنين، يتراكم الجليد الصلب بكميات هائلة، تتشكل منها أنهار صلبة عملاقة تمضي في طريقها ببطء فتفتت الصخور وتنحت الجبال وتحفر الوديان، وتؤثر كثيراً في مناخ الأرض؛ فتساعد في تنظيم المناخ وضبط مستويات المحيطات.

تحتوي الأنهار الجليدية على كميات ضخمة من المياه العذبة تصل نسبتها إلى ما 80% من المياه العذبة في العالم، تُغطي حوالي 11% من مساحة اليابسة في العالم، وتؤدي إلى ارتفاع مستوى سطح البحر في العالم بحوالي 90 متراً (300 قدم) إذا ذاب كل الجليد الموجود فيها، ما يعني أن مدنًا مثل لندن ستضيع تحت المياه.
وقد تنبأت دراسة بأن نصف الأنهار الجليدية يمكن أن تختفي بحلول عام 2100 إذا استمرت انبعاثات الغازات الدفيئة بالنسبة المعتادة حالياً.

الأنهار الجليدية هي كتل جليدية ضخمة وسميكة تتشكّل على اليابسة من الثلج المتساقط الذي ينضغط جراء البرودة الشديدة على مدى قرون عديدة.
حين تهطل ثلوج كثيرة في الشتاء بكميات أكبر من أن تذوب صيفاً، ويتراكم الثلج المتساقط على شكل طبقات، ويتزايد وزن الطبقات العليا، ما يدفع البلورات الثلجية في الطبقات السفلى لأن تنضغط وتبدأ في الاندماج معاً ويتزايد حجمها تدريجياً حتى تتحول إلى كتل سميكة من الجليد.

الوزن الهائل للكتل الجليدية في الأسفل، والضغط بسبب قوة الجاذبية، يدفع هذه الكتل لأن تتحرك ببطء من المناطق الأعلى في القمم نحو المناطق الأقل ارتفاعاً في السفوح، بسرعات تتفاوت عادة من عدة سنتيمترات إلى عدة أمتار  سنوياً.
يراوح عمر الأنهار الجليدية ما بين بضع مئات إلى آلاف السنين، ومعظم الأنهار الجليدية اليوم هي بقايا الصفائح الجليدية الضخمة التي غطّت الأرض في العصر الجليدي الذي انتهى منذ أكثر من 10000 عام.
تتغذى الأنهار الجليدية تغذية أساسية من تساقط الثلوج، وتتلاشى بالذوبان والجريان السطحي أو عن طريق تكسّر وانفصال الجبال الجليدية.

كي يظل النهر الجليدي ثابت الحجم، يجب أن يكون هناك توازن ما بين الثلج الداخل (المتراكم سنوياً) والخارج (الاجتثاث- الذوبان وانفصال الجبال الجليدية).
إذا كان هذا التوازن الشامل إيجابياً (ربحاً أكثر من خسارة)، فسوف ينمو النهر الجليدي؛ أما إذا كان سلبياً فسوف يتقلص النهر الجليدي.

الجبال الجليدية:
كتل ضخمة من الجليد انفصلت عن أطراف نهر جليدي، ثم انزلقت إلى مياه المحيط، وتتكون الكتلة من مياه عذبة متجمدة تحوي داخلها أيضاً حجارة ضخمة ورواسب وحصى، يحملها الجبل الجليدي ويقطع بها مسافات طويلة داخل المحيط، وعندما يذوب الجبل الجليدي تستقر حمولته في قاع المحيط.
وتمثل ظاهرة الجبال الجليدية مع وجود الضباب أكبر خطر طبيعي على السفن التي تبحر في تلك المناطق.

أين تقع الأنهار الجليدية؟
الجواب: تقع في جميع أنحاء العالم وفي جميع خطوط العرض تقريباً، في الإكوادور وكينيا وأوغندا وغينيا الجديدة والأرجنتين وألاسكا ونيوزيلندا والدنمارك وجرينلاند وكندا وباكستان والصين، وتوجد الأنهار الجليدية حتى عند أو بالقرب من خط الاستواء، وإن كان ذلك على ارتفاعات عالية.

لا يقتصر تواجد الأنهار الجليدية على القارة القطبية الشمالية كما يتبادر لأذهاننا للوهلة الأولى، بل تتواجد في كل القارات، وتوفر جزءًا مهمًا من المياه العذبة التي يستهلكها البشر.

بيدَ أن هذا المورد الذي لا غنى عنه بات مهدداً اليوم، إذ أخذت الأنهار الجليدية في التقلص بمعدلات متسارعة نتيجة تغير المناخ، وصارت تفقد في المعدل حوالي 58 مليار طن من الجليد سنوياً، وتساهم بما يقارب 5% من ارتفاع منسوب البحار في العالم وفقاً لأحدث تقرير نشرته اليونسكو بعنوان "الأنهار الجليدية المدرجة في قائمة التراث العالمي: حرّاس التغيّر المناخي".
قارة إفريقيا ليس فيها الكثير من الأنهار الجليدية، لكن على قمة جبل كليمنجارو يوجد أحد أكثر الأنهار الجليدية دهشة في العالم، وقد تقلّص هذا النهر الجليدي بسرعة في القرن الماضي، واليوم لم يتبق منه سوى 18% فقط، فحجمه يزداد هامشياً عند تساقط الثلوج، ولا يزال تدهور هذا النهر الجليدي مستمراً حتى اليوم.

النهر الجليدي أليتش هو أكبر نهر جليدي في جبال الألب، وأطول الأنهار الجليدية في سويسرا، ويبلغ طوله 23 كيلومتراً، أما سمكه فيبلغ 900 متر، ويحمل 11 مليار طن من الجليد، ما يُعد كمية مهولة من المياه الصالحة للشرب، "أليتش" الآن يشهد تناقصاً وتسارعاً مخيفاً في معدل ذوبان ثلوجه بسبب تغير المناخ.

ما أهمية الأنهار الجليدية؟
يعمل الجليد غطاءً واقيًا فوق الأرض والمحيطات، إذ يعكس الحرارة الزائدة إلى الفضاء ويحافظ على برودة الكوكب.
من الناحية النظرية، يظل القطب الشمالي أكثر برودة من خط الاستواء لأن المزيد من حرارة الشمس تنعكس على الجليد، وتعود إلى الفضاء، إضافة إلى هذا الدور العظيم، هناك فوائد أخرى للأنهار الجليدية تزيد من أهمية وجودها على كوكب الأرض، منها:

* السياحة والاستمتاع:
تستمر الأنهار الجليدية في التدفق وتشكيل المناظر الطبيعية في العديد من الأماكن على الأرض ما يجتذب السياح والمتنزهين لتلك المناطق، لكن، أهميتها لا تقتصر على المناظر الخلابة؛ إذ تعمل الأنهار الجليدية خزانات عملاقة تحبس المياه التي تتساقط على شكل ثلوج على ارتفاعات عالية في المواسم الرطبة لتطلقها على هيئة مياه ذائبة في مواسم الجفاف والحر. وبهذه الطريقة، يبقى في الأنهار الموجودة في أحواض الأنهار الجليدية إمدادات ثابتة من المياه على مدار السنة.

* نقل الرواسب والمواد الغذائية من التربة والصخور إلى البحيرات والمحيطات والأنهار:
ذوبان الأنهار الجليدية في مواسم الذوبان يحمل في طياته تأثيراً غير مباشر على الحياة البرية ومصايد الأسماك، حيث يوفر العناصر الغذائية للبحيرات والأنهار والمحيطات، ما يؤدي إلى ازدهار العوالق النباتية التي توفر القاعدة للسلاسل الغذائية المائية والبحرية، كما أن الذوبان التدريجي للأنهار الجليدية يحافظ على موائل النباتات والحيوانات.

* توفير المياه السطحية ومياه الشرب:
توفر الأنهار الجليدية مياه الشرب في بعض المناطق التي تحافظ على الحياة لكلٍ من الناس والحياة البرية.
على سبيل المثال، يستمد نهر أمو داريا أحد الأنهار الرئيسة في آسيا الوسطى، جزءاً من إمداداته المائية من ذوبان الأنهار الجليدية.
وغالباً ما يعتمد الأشخاص الذين يعيشون في المناخات القاحلة بالقرب من الجبال على ذوبان الجليد للحصول على المياه لجزء من العام، مثل سكان الهيمالايا في جبال الأنديز، الذين يعتمدون كثيرًا على المياه الجليدية.

* ري الحقول: تروي المياه التي تنهمر من الأنهار الجليدية الذائبة المحاصيل الزراعية.

* توليد الطاقة الكهرومائية من المياه الذائبة.

* الكشف عن تغيرات المناخ:
تعد الأنهار الجليدية مؤشراً مهماً للكشف عن تغيرات المناخ في انحسارها أو نموها أو تقدمها، ما يمكِّن الباحثون من رصد التغيرات في درجات الحرارة والهطول، وتحديد ارتفاع مستويات سطح البحر بقياس فقدان الجليد في الأنهار الجليدية، والعلاقة هنا طردية بين ذوبان الأنهار الجليدية وارتفاع مستويات البحار.

ماذا يعني ذوبان وتقلص الأنهار الجليدية على اليابسة؟
منذ أوائل القرن العشرين، تذوب العديد من الأنهار الجليدية حول العالم بسرعة بسبب الأنشطة البشرية، وتحديداً منذ الثورة الصناعية، فقد أدى ارتفاع نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون والغازات الدفيئة الأخرى إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض 1.1 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، ونتيجة لذلك، أخذت الأنهار الجليدية تذوب بسرعة. ويتوقع العلماء أنه إذا استمر انبعاث الغازات الدفيئة في الارتفاع دون رادع، فقد يصبح القطب الشمالي خالياً من الجليد في الصيف بحلول عام 2040 بسبب استمرار ارتفاع درجات حرارة المحيطات والهواء بسرعة.

تحاول الأنهار الجليدية التكيف مع درجات الحرارة الآخذة في الارتفاع بالذوبان بوتيرة ثابتة، وهو ما يتسبب بتقلص النهر الجليدي وارتفاع منسوب مياه البحر، ما يؤدي بدوره إلى زيادة تآكل السواحل وزيادة العواصف حيث يؤدي ارتفاع درجة حرارة الهواء والمحيطات إلى حدوث فيضانات وعواصف وأعاصير ساحلية أكثر تواتراً وشدة.

كما تمتلئ البحيرات الجليدية المحاذية للأنهار الجليدية، وتفيض على ضفتيها وتتسبب بفيضانات كارثية في اتجاه مجرى النهر.
مثال حي على المخاطر الناجمة عن ذوبان الأنهار الجليدية ما حدث في باكستان في نهاية عام 2022.
الأنهار الجليدية الموجودة فيها والتي يزيد عددها على 7200 نهر جليدي باتت عرضة حالياً للذوبان بسبب ارتفاع درجات الحرارة العالمية المرتبطة بتغيرات المناخ، وظهر ذلك جلياً في الفيضانات التي حدثت في نهاية عام 2022، وأدت إلى غرق ثلث مساحة باكستان بعد أن كانت البلاد عرضة لموجة من الأمطار الموسمية الشديدة دفعت الجداول والأنهار الممتلئة أصلاً بالمياه القادمة من الأنهار الجليدية الذائبة، إلى فيضانات فتاكة.

فيضانات شهدنا بأعيننا على الشاشات والمحطات الإخبارية شدة شراستها وقدرتها على التدمير، فيضانات اقتلعت العمارات والجسور والشوارع وأغرقت المزارع والحقول ودمرت قرى بأكملها.

خطر آخر يحمله ارتفاع درجات الحرارة وذوبان الأنهار الجليدية في طياته، وهو ارتفاع حرارة التربة الصقيعية، وهي طبقة من جليد مخفي يغطي 20% من سطح الأرض، وبحسب دراسة فإن هذه التربة هي أحد العوامل الرئيسة لثبات الجدار الصخري.
فعندما ترتفع حرارة التربة الصقيعية وتتغير خصائص محتواها الجليدي، يقل ثبات الجدران الصخرية، وتزداد حدة الانهيارات والسقوط المتكرر لكتل كبيرة من الصخور في الفترات الدافئة.

هل يمكن إنقاذ الوضع من كارثة وشيكة؟
ما دام العالم يُنتج الكثير من غازات الدفيئة التي تسبّب الاحتباس الحراري وليس مستعداً لتغيير نمطه الحياتي والتخلي عن الممارسات التي تؤذي البيئة وتدمرها، ستستمر الأنهار الجليدية في فقدان حجمها إلى أن تختفي تماماً في المستقبل القريب، وربما سيندم البشر حينها، لكن ما جدوى الندم بعد أن تحل الكارثة؟

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير