تخرجت ولكن غير قابل للتوظيف..

سام بحور يكتب لوطن: ماذا تفعل عندما تدرك أن شهادتك لا تجلب لك وظيفة؟!

28.05.2023 02:17 PM

 

 

التخرج من الجامعة بحد ذاته في مجتمعنا له شأن كبير حقا إذ يكبر جيل اليوم ويتعلم في ظل واحدة من الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية غير المستقرة، إن لم يكن أكثرها، والتي يمر بها شعبنا في تاريخنا المعاصر، فإن الضرر البنيوي الذي يعانيه هذا الجيل واضح لجميع من يراه.

قبل عامين، كتبت مقالًا بعنوان (تخرجت من الجامعة؟ تهانينا، بس شو يعني!)  حاولت فيها إرشاد خريجي الجامعات الجدد لدينا حول كيفية كتابة السيرة الذاتية لزيادة فرصهم في العمل. ولقي إقبالا إذ قرأه الآلاف، ولكن لا تزال ذات الأخطاء التي أشرت إليها في المقال تظهر في السير الذاتية للخريجين الجدد الذين يقدمون لوظائف في الشركات.

بعد التأمل في عشرات الخريجين الجدد الذين تم تعيينهم في وظائف خلال العامين الماضيين ولم يستمرو بها حتى لأسابيع، بل أحيانًا أيام، استنتجت أن القضية أعمق وأخطر بكثير من عدم تدريب خريجي الجامعات على كيفية كتابة السيرة الذاتية أو حتى اتخاذ خطوات أساسية تجاه ترويجهم الذاتي لقدراتهم..

إن افتقار الخريجين إلى أكثر المهارات الأساسية ليس بأمر جديد، ولكن يجب أن تتوحد جهودنا لتصحيح هذا الخلل، من أجل النماء بمشروعنا الوطني وزيادة فرصنا للتحرر.

إذا كانت هناك حاجة إلى أي دليل آخر على أن المشروع الوطني، ومعه نظام التعليم العالي لدينا، في محنة شديدة، فلن يحتاج المرء لأكثر من مشاهدة المناظرة الانتخابات الطلابية الاخيرة في جامعة بيرزيت، وهي مشابهة لما سبقها في الأعوام الأخيرة، ليدرك بأنه إن وصفت هذه المناظرة بأنها مثيرة للشفقة فلن نوفيها حقها بهذا الوصف. وحقيقة أن إدارة الجامعة أصرت على أن هذه المناظرة كانت جزءا من "حفل زفاف ديمقراطي" لا تبشر بالخير لإحياء المشروع الوطني.

الانتفاضة الأولى

أود أن أشير ليس فقط إلى جيل اليوم، ولكن إلى الأضرار البنيوية التي لحقت بالجيل الذي ولد خلال الانتفاضة الأولى عندما كان التعليم أحد القطاعات التي استهدفها الاحتلال الإسرائيلي.

كان آباء هؤلاء الأطفال حديثي الولادة في الانتفاضة الأولى هم الجيل الأخير الذي اعتز بالتعليم كما جرى العرف في مجتمعنا فعندما أغلقت إسرائيل الجامعات، عمل المجتمع المحلي على فتح مقرات للدراسة في الفنادق والمنازل.

بالإضافة إلى التعليم الرسمي، كان لدى هؤلاء الطلاب الجامعيين خلال الانتفاضة الأولى مجتمع مدني أصيل ونابض بالحياة، تحفزه، بشكل أساسي، الأحزاب السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية الفاعلة والمتعددة الأقطاب، مما أضاف الكثير إلى تعليمهم الرسمي. يتضح كل هذا في عمق المعرفة التي يمتلكها هذا الجيل في التاريخ الفلسطيني، والحركة الوطنية الفلسطينية، ناهيك عن المعرفة العامة الواسعة بالعديد من الموضوعات مثل الدين والعلوم وغير ذلك.

لم يكن مصدر هذا التعليم المتعدد المستويات هو الجامعة ومنظمة التحرير الفلسطينية فحسب، بل كان سببه أيضًا الوحدة الأسرية القوية، التي غرست القيم اللازمة منذ صغرها للسماح لهؤلاء الطلاب الجامعيين بأن يصبحوا مواطنين منتجين ونشطين.

تمكن المجتمع المحلي في ذلك الوقت من الحفاظ على قيم أخلاقية عالية وقبل كل شيء، كان متحدا في مشروع وطني واضح، مشروع للتحرر والاستقلال.

الجيل الذي ولد خلال الانتفاضة الأولى هم آباء اليوم.

وتأتي مرحلة أوسلو

عندما فرضت اتفاقيات أوسلو على الفلسطينيين، تفكك كل ما تم تحقيقه على صعيد التعليم الذي كان بمثابة عماد المجتمع وذلك عند استلام السلطة الوطنية الفلسطينية، حديثة المنشأ في حينها، لقطاع التعليم العالي.

أولا، لم يعد المجتمع موحدا في رؤية واضحة للمشروع الوطني وفُقدت البوصلة التي وجهت الفلسطينيين لعقود، كل هذا أدى إلى ما أسميه، أمركة مجتمعنا وبدأ المزيد والمزيد من القادة السابقين، واحدًا تلو الآخر، في مجتمعنا يهتمون فقط بالحفاظ على الذات والتقدم الذاتي، بأي ثمن.

ثم تم إنشاء وزارة التعليم العالي، ليتم دمجها لاحقًا مع وزارة التربية والتعليم، ثم يتم فصلها إلى وزارتها الخاصة مع إضافة "البحث العلمي" إلى اختصاصها. وما كان هذا التخبط التنظيمي إلا مؤشرا على الأحداث القادمة.

اختفى ذلك القطاع الأهلي النابض بالحياة والقائم على المجتمع المحلي والذي كان موجودًا قبل إنشاء السلطة الفلسطينية، ليستبدل بمنظمات غير حكومية مسيرة بأموال المانحين ويقودها خريجو الانتفاضة الأولى، الذين أصبح العديد منهم مغيبا بسبب عملية أوسلو ما دفعهم للبحث عن مؤسسات لاحتوائهم.

حاول العديد من خريجي الانتفاضة الأولى أن يتولوا مناصب حكومية في بيروقراطية السلطة الفلسطينية فقط ليجدوا أنفسهم مجبرين للعودة إلى مظلة المنظمات غير الحكومية حيث شهدوا تدهورا في تمويل القطاع العام وقدراته، ناهيك عن الكفاءات.

والأهم من ذلك، أن الأطفال حديثو الولادة في الانتفاضة الأولى، الذين نشأوا في فترة أوسلو، عاشوا الانتفاضة الثانية وشهدوا عدوان الاحتلال الإسرائيلي الذي لا ينتهي بل يزداد، واختبروا بشكل مباشر النسيج الأسري الممزق وغياب الهدف الوطني لديهم.

تتطلب كل من هذه الديناميكيات تحليلها المنفصل، لكن هذه الخلفية تعني فقط أن خريجي اليوم لم يسقطوا من السماء، بل خرجوا من سياق، وهذا السياق يجب فهمه، ولكن لا يعني هذا أبدًا أن يصبح عذرا لأننا لطالما كان، ولا يزال، لدينا القدرة الكاملة على تعديل الوضع وإرشاد الخريجين إلى المسار الصحيح.

في حين سيكمن البديل عن إصلاح مسار التعليم في المزيد من اللجوء إلى سوق العمل في إسرائيل، وهو تهديد استراتيجي لوجودنا كشعب ومجتمع.

تخرجت ولكن غير قابل للتوظيف

وبالتالي، ما هي الخيارات المتاحة لخريجي اليوم عندما يدركون بسرعة أن شهادتهم الجامعية ليست ذات قيمة على صعيد المعرفة   كما اعتقدوا هم أو آباؤهم؟ والأسوأ من ذلك، أنهم يكتشفون أن شهادتهم لا يمكنها أن تجلب لهم وظيفة.

لا توجد إجابة واحدة على هذا الواقع الصعب، واسمحوا لي أن أقترح نقطة انطلاق.

تقبل حقيقة أن تربيتك (ربما) وتعليمك (بالتأكيد) لم يعلماك بعض المهارات الأساسية، مثل التواصل والتفكير النقدي والانضباط والقراءة والكتابة، وبالنسبة للبعض، الأخلاق. كل هذه المهارات هي قابلة للتعلم، ولكن عليك أولًا أن تعترف أنك لا تمتلكها، وهو تحدٍ لكثير من الذين يعيشون على اعتداد زائف بالنفس.

تقبل الحالة المحزنة لعالم اليوم، حيث تكون وسائل التواصل الاجتماعي هي مصدر المعلومات الرئيس إن لم يكن الوحيد. لقد عادت الآن كل مهام القص واللصق المذهلة التي استخدمتها في الجامعة لتطاردك في مسارك المهني. وفي حال كنت ممن يتشبثون بالهاتف المحمول، فأنك بذلك تفتقد حياتك الخاصة بالرغم من الفائدة التي يمكنك الحصول عليها من وسائل التواصل الاجتماعي، حتى الولايات المتحدة "العظيمة" ترى هذا الخطر في هذا التقرير الإخباري الذي نشر مؤخرا، "وزير الصحة الأمريكي: نحتاج إلى حماية الأطفال من مخاطر وسائل التواصل الاجتماعي على الفور" (3).

تقبل حقيقة أن السياق الذي تلقيت فيه تعليمك كان فاسدًا، وأنه قد يكون لديك شهادة في تخصص معين، ولكن قد لا يكون لديك أساسيات هذا التخصص. هذا التقبل يمنحك الحالة الذهنية اللازمة لتلحق ما فاتك. إذا كنت متخصصًا في المحاسبة ولا يمكنك الإجابة على سؤال من المبادئ الأساسية للمحاسبة، ، أو إذا كنت متخصصًا في اللغة الإنجليزية أو الترجمة وكانت سيرتك الذاتية مليئة بالأخطاء الإملائية، أو إذا كنت متخصصًا في التسويق ولا يمكنك تسمية ثلاث شركات في السوق، أو إذا تخرجت من أي تخصص ولا يمكنك استخدام برنامج الوورد، يجب أن تنظر في المرآة وتتخذ قرارًا استراتيجيًا لتصحيح مسارك.

تخلص من الفردية الخاصة بك واخرج للمجتمع، قد يكون هذا المجتمع مجتمعك الجغرافي، أو مجتمعك المهني، أو مجتمعك السياسي، وما إلى ذلك والمثل الأفريقي الشهير الذي يقول "إن تربية طفل يتطلب قرية "، صحيح تماما لذا توقف عن محاولة أن تكون رامبو وافعل ذلك بنفسك.

وبهذه العقلية:

قم بإعداد السيرة الذاتية الخاصة بك، واحدة حقيقية، تكتبها بنفسك، وليس من قبل صديق، وليس عن طريق أداة ChatGPT. سوف يشكو معظم الخريجين الجدد من أنه ليس لديهم ما يضعونه في سيرتهم الذاتية. إذا كان هذا صحيحًا، فأنت لست فاعلا ومن الأفضل لك تجاهل السيرة الذاتية والانتقال إلى الخطوات التالية في الوقت الحالي.

افهم أن التخرج من الجامعة هو البداية وليس النهاية من حيث صلته بالمعرفة. إذا رفضت أن تستمر في التعلم مدى الحياة، فإن المعرفة التي تمتلكها على وشك أن تنتهي مدة صلاحيتها. اذهب وابحث عن الموارد اللازمة لتضمن استمرارية اكتساب المعرفة في مجال خبرتك أو اهتمامك. اشترك في قوائم النشرات الإخبارية المتعلقة بمجالك، قم بشراء كتاب أو استعارته، وانضم إلى الجمعيات المهنية، واقرأ، ثم اقرأ، ثم اقرأ مرة أخرى. لا تتوقف أبدًا عن القراءة.

احصل على تدريب احترافي (هذه النقطة ليست هي نفسها ما ذكر أعلاه) لسد الفجوة بين تعليمك الغير مكتمل وما تحتاجه القوى العاملة، فإن التدريب المهني سيخدمك بشكل جيد. ولكن لا تنخدع  في أي تدريب، وخاصة تدريب المانحين المجاني أو التدريب الممول، فمعظم هؤلاء المانحين لا يضعون مصلحتك أو مصالحنا الفضلى في الاعتبار. بدلًا من ذلك ادرس خيارات التدريب، واعلم ما سوف يوفرونه في الواقع، ومن سوف يقوم بإعطاء التدريب. بالرغم من أن عدد كبير جدًا من السير الذاتية تدرج العشرات من الدورات التدريبية ولكن عندما للمتقدم وأسمع إجابة السؤال الأول المطروح في المقابلة، أدرك أن الأمر كله مجرد خدعة.

والعمل الأكثر قيمة الذي يمكنك القيام به، الآن، وغدًا، وإلى الأبد، هو التطوع. نعم، نريد جميعًا العمل فور التخرج، ولكن عندما تقبل كل ما سبق، فإن إحدى الطرق للسير على الطريق الصحيح هي التطوع لاكتساب خبرة عمل على أرض الواقع. كما هو الحال مع التدريب، لا تقبل على أية فرصة تطوعية بل تحقق من أن المنظمة سوف تسمح لك حقًا بالتعلم. إذا كنت تذهب للتطوع لمجرد أن تكون قطعة جمالية في مكتب شخص ما، فأنت تهدر وقتك وكرامتك. وإذا وجدت فرصة عمل تطوعي، خذ الأمر على محمل الجد، كما لو كانت وظيفتك.

بالطبع، هناك الكثير لقوله ولكن هذه نقطة بداية.

علما بأن هناك دوما استثناء لكل ما ذكر أعلاها، لذلك أنا لا أحاول بأي حال من الأحوال التعميم لكن لدي خبرة كافية مع العديد من الشركات لأكون واثقًا من أن الكثيرين قد يستفيدون من هذا التحليل.

مبروك على تخرجك. الآن، ابدأ في التعلم!

--

سام بحور هو مستشار أعمال فلسطيني أمريكي ومعلق سياسي مستقل من رام الله/البيرة في فلسطين المحتلة. قام بتوثيق محاولة لإنشاء جامعة في قبرص بعنوان، تصدير التعليم الفلسطيني إلى الفلسطينيين: توثيق خطوة أخرى إلى الأمام .(4)  ويكتب في مدونة  ePalestine.ps. @SamBahour

(1) https://epalestine.blogspot.com/2021/06/you-graduated.html
(2) https://www.youtube.com/live/wPZrGd8UpuE?feature=share&t=2644
(3) https://www.cnbc.com/2023/05/23/us-surgeon-general-we-must-protect-kids-from-social-media-risks-now.html
(4) https://www.jadaliyya.com/Details/37749/Exporting-Palestinian-Education-to-Palestinians-Documenting-Yet-Another-Step-Forward

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير