أم الفحم بلدة "المائة عين وعين"!

15.05.2023 02:50 PM

وطن- عمر عاصي


تحظى العيون في فلسطين بحضور بديع في الوجدان الشعبي، فالكثير من القرى الفلسطينية بُنيت حول العيون، وكلما كانت العيون أغنى وأوفر ازدهر العُمران أكثر، وهو ما نجده في "أم الفحم" التي أصبحت اليوم من أهم المُدن في الداخل الفلسطيني، حيث عُرفت تاريخيًا بوفرة العيون؛ حتى أنه كان لقبها "بلدة المائة عين وعين"، فقد بلغ عدد ينابيعها أكثر من 20 عينًا على حدودها التي نعرفها اليوم.

بينما أحصت الدراسات  التي تطرقت لأم الفحم وبناتها الثلاثين (أي 30 قرية تابعة لها) نحو 65 عينًا وينبوعًا، وهذا يعكس الخصائص الجيولوجية الفريدة لهذه الينابيع التي يمكن تصنيفها بأنها ينابيع صدعية أو طبقية ، ولكن يا للأسف أُهمل وجف الكثير منها، مثلها مثل نسبة كبيرة من حوالي 150 عينًا كانت في منطقة جبل الكرمل وكتلة أم الفحم، التي شكلّت 10% من مجمل العيون في فلسطين وتُقدّر بــ 1500 عين بحسب الموسوعة الفلسطينية الصادرة عام 1984.

20 عين ماء وأكثر
في عام 1872 عندما زار كوتشنر وأصحابه أم الفحم نصبوا خيامهم عند "عين البير"، وعدّوا "القرية" من أهم المواقع في منطقة البحث، وكانت وفق تعبيرهم "قرية متحضرة modern village"، وهي مقسّمة إلى أربعة أحياء بحسب العائلات (جبارين، محاميد، محاجنة، إغبارية) ولفت انتباههم أن فيها 80 مسيحيًا من ضمن حوالي 500 نسمة يسكنون فيها، كما أن أكثر ما لفت انتباههم بأنها غنية بالمواشي والخيل، وكذلك غنية بالزيتون والحمضيات كالبرتقال والليمون والبوملي الكبير جدًا (very large shaddocks)، والأهم في سياقنا هذا أنهم ذكروا بأن للقرية 20 عين ماء وأكثر .

"أم خالد" آخر رئة خضراء
في تقارير كوتنشر وزملائه من عام 1882، ذُكر "الشادووك" الكبير في أم الفحم، ومع أن الترجمة الشائعة للشادوك هي البوملي إلا أنه قد يكون المقصود هو الأترج، فقد اشْتُهِرت أم الفحم به، وهو ما نجده في الكثير من الكتابات العبرية التي تناولت أم الفحم، حيث يظهر أترجها بأنه ذو جودة عالية وهو "أفضل من أترج يافا"، وكان العديد من التجار اليهود يقصدون المدينة بحثًا عن أترجها الفاخر.
ولعل أبرز شاهد هو أننا لو بحثنا اليوم عن "عين خالد" في الخرائط الإسرائيلية الرسمية لما وجدنا هذه التسمية العريقة، بل نجد "عين سابير עין ספיר"، وقد اُختيرت هذه التسمية بسبب الحاخام يعقوب هاليفي سابير الذي زار أم الفحم عدة مرات عام 1854 بهدف الحصول على أترجها الفاخر، وقد وثّق الكثير من تفاصيل البلدة كغابات البلوط المحيطة فيها، وعيون الماء الجارية ومنها "عين خالد" التي حُرّف اسمها ليصبح "سابير".

حتى يومنا هذا، لا يعترف أهالي أم الفحم بهذه التسمية الصهيونية وبالأخص الحاج محمد توفيق جابر محاميد، الذي يملك واحداً من البساتين المميزة عند هذه العين، التي يُمكن اعتبارها "آخر رئة خضراء" في هذه المنطقة من المدينة. ومع أن معظم أشجار الحمضيات والرمان قد اختفت إلا أن ما تبقّى منها لا يزال يعطي المكان سحرًا لا سيما أنه محاط بغابة إسمنتية، ولا تزال هذه البساتين تُزرع بالملوخية التي يعشقها أهالي أم الفحم، التي ارتبطت زراعتها بالمياه، فكما أن قرية صفوريّة اشتهرت بملوخيّتها بفضل عيونها، فإن أم الفحم كانت تزرع الملوخية وتحرص على أكلها وتخزينها طيلة العام وبخاصة أيام الجُمعة. 
عين الوسطى "كأنها ماء زمزم"

من المؤسف اليوم ومع مد شبكات المياه والاستغناء عن العيون، بل وسنّ القوانين الإسرائيلية التي تلاحق كل من يحاول الاستفادة منها، غياب العيون عن الحيز، بعد أن طُمست الكثير منها، وهو فقدٌ لا يشعر به جيل اليوم بقدر ما يشعر به الكبار الذين يذكرون كيف كانت عين المغارة "فردوسًا"، بينما اليوم اختفت وراء المباني الشاهقة، وكذلك عين التينة التي سُميّت منطقة باسمها، بينما كثير من أبناء المدينة لا يعرفونها.
ومن المثير أن نجد بأن العين التي تعد حديثة نسبيًا وسُميت "الوسطى" لأنها تقع بين عين المغارة وعين التينة بقيت حاضرة حتى الآن، وهي عين محظوظة لأنها وجدت من يصونها ويرعاها.

أخبرنا الحاج مصطفى محاميد (الترك) بأن عين الوسطى كانت عبارة عن مغارة، وذات يوم لاحظ أبوه وأعمامه فوران المياه من تحت الأرض في الشتاء، وذلك في حدود عام 1915، فبدأوا الحفر حتى وصلوا إلى العين التي زُرعت حولها البساتين.
ويتذكر محاميد كيف كان والده يزرع السفرجل ويذهب لبيعه في الناصرة قديمًا، وقد استمر الاهتمام بالعين رغم تزايد المباني حولها، وحتى حين بدأ بناء مسجد الهجرة (وادي النسور) قبل 45 عامًا شُيّدت غرفة باطون حول العين لحفظها وإيصال المياه لمكان يسهل الاستفادة منها لكل عابر سبيل.

كما أن أبا هاشم يحرص على تنظيفها كل عام ويعتبرها أفضل ماء، حتى أنه يقول من شدّة تعلقه بالعين "أشعر وكأنها ماء زمزم"، وهو يوصي أبناءه والأحفاد بحفظها، فهي "نعمة من الله" ينبغي تقديرها وليس إهمالها ونكرانها".

عين النبي وعيونٌ كأنها لم تكن
عندما نسأل كِبار السن في المدينة عن أهم عيونها، فإن الإجابة هي "عين النبي"، التي كانت من أغزر العيون.
ويشير المؤرخ مصطفى كبها في الجزء الثاني من موسوعة "لكل عين مشهد" حول التسميات في قضاء جنين الانتدابي (تحت النشر) إلى أن هذه العين كانت تقع شرق النواة التاريخية لأم الفحم على جانب الطريق الانتدابي القديم الذي ربط أم الفحم بيعبد.

ويُضيف بقوله: "أُحيطت في فترة الانتداب بمجموعة من كروم الزيتون".
وعن سر التسمية يفيد أنها سُمّيت "عين النبي" جراء روايات تحدثت عن إقامة أولياء صالحين إلى جانبها، وهذا منح مياهها مميزات علاجية، ومن المؤسف أن هذه العين طُمست ولم يعد إليها سبيل، علمًا أنها كانت مصدر شرب رئيس للبلدة.

عيون كثيرة طُمست أو لم يعد الوصول إليها سهلًا، ومنها "عين المغارة" التي تنبع من داخل مغارة، ومن هنا جاء اسمها ، بل إن الصهاينة أطلقوا عليها "عين عميحاي" في خرائطهم، وبحسب بعض النشطاء فهي تقع خلف مبنى لمجمع تجاري، واليوم ليس بالإمكان الوصول إليها. 

ومن العيون التي لم يبقَ إلا اسمها هي "عين جرار"، والتي يُعتقد أنها سمُيت كذلك نسبة لآل جرار الذين حكموا المنطقة عام 1735م ، حتى "عين العيون" التي عُرفت بأنها لم تكن عينًا واحدة بل عدة عيون صارت من الماضي، وحين تجوّلنا في المنطقة بصحبة المصور موسى محاميد لم نستطع الوصول لأيّ منها، إذ تحوّلت اليوم الكثير من بساتينها إلى مرافق صناعية ومبان ولم يعد من الممكن الوصول إلى العيون الثلاثة (عين أم الغزلان، والعين الفوقا، والعين التحتا).

لعل الكارثة الكُبرى التي يُمكن أن نراها ونحن نبحث عن العيون في مدينة أم الفحم كانت في الطريق إلى "عين أم الدب"، والتي تتواجد بين مدينة أم الفحم وقرية الطيبة في الضفة الغربية عند المنطقة المعروفة بــ "وادي الحرامية"، ورغم فظاظة التسمية إلا أن المنطقة يُمكن أن تكون من أجمل المناطق، ومع ذلك تحوّلت مع الوقت إلى مكب نفايات عشوائية رغم وقوعها تحت أعين الجنود الإسرائيليين الذين يراقبون الحدود عند جدار الفصل العنصري، فبدلًا من الاستمتاع بالطبيعة الخلابة هناك، فإن مشاهد النفايات تؤذي النفس وتجعلنا نستشعر حجم المأساة البيئية في هذه المنطقة التي حباها الله بعدد وافر من العيون والخيرات. 

في هذه الجبال التي تكسوها النفايات اليوم، كانت أشجار اللوزيات في الماضي تجعلها تبدو وكأنها عروس ترتدي ثياب زفافها البيضاء لكثرة الأزهار وبالأخص في أواخر شهر شباط .

ومن الجدير بالذكر أن أم الفحم عُرفت تاريخيًا بصنف بديع من اللوز يُسمى "حسن الأسعد"، ولا زال مشهورًا تحت مسمى "لوز أم الفحم" إلا أن زراعته اختفت فيها تقريبًا.

وما دُمنا نتحدث عن الآهات والنكبات، لا بد أن نذكر نكبة "عين الشرايع" التي تطرّق لها فؤاد عبد النور في كتابه "المثلث.. الأرض والإنسان"، نقلًا عن "مجلة القنديل" عدد أيار 1989 التي اختصت هذه العين بتحقيقٍ صحفي يسرد كيف فُجرّت بالديناميت من أجل قطع الماء عن السكان وإجبارهم على الرحيل.

ويسرد الكاتب حكاية فيلم وثائقي بعنوان «على أرضنا On Our Land» من إخراج الباحثة والمخرجة السينمائية البريطانية أنطونيا كاتشي Antonia Caccia  ويتحدث عن "الشرايع" وأم الفحم، والمعاملة العنصرية للاحتلال الصهيوني مع الفلسطينيين.
ويعود تاريخ الفيلم لسنة 1982، أما اليوم فإن "عين الشرايع" أُهملت وهُجّر حوالي 24 شخصًا كانوا يسكنونها، وحتى "مسار المشي" الذي كان يمر قربها أصبح الوصول إليه صعبًا. 

عين الزيتونة وأسئلة لم يُجب عنها بعد
في تاريخ 22.2.2013 نشر موقع بلدتنا في أم الفحم تقريرًا يكشف عن حدوث انشقاق جبلي تحديدًا لحفرة مياه بعمق 40 مترًا، وقد صاحب هذا الانشقاق صوت ضخم أثار ذعر بعض السكان الذين شاهدوا كيف تساقطت الأشجار في الحُفرة. 
وصرّح السُكان حينها أن هذا الانشقاق حصل بعد انقطاع مياه النبع لمدة سنتين على التوالي، وقد عادت المياه إلى مجاريها بعد الانشقاق، لدرجة أن بعضهم اعتبر أن في الأمر مُعجزة.

وفي هذا الصدد، لم نجد أي تقرير علمي أو مهني يوضح الأمر، أو يُعقّب على الحدث بالأخص أنه اُستعين بكميات هائلة من الحجارة ومواد الردم لطمر الحفرة دُون أي رجوع للخبراء والمختصين، بحسب ما علمنا.

عين الشعرة واستصلاح العيون والينابيع
إذا كُنا نبحث عن بصيص أمل آخر لما تبّقى من عيون هذه المدينة، وكيف بالإمكان استصلاحها لتكون ملاذًا لسكان المدينة فإن منتزه "عين الشعرة" يُمكن اعتباره من النماذج التي تستحق الدراسة، فهذه العين وبعد أن كانت مهملة أصبحت مكانًا ترفيهياً للعائلات بالقرب من المياه التي تتجمع في برّكة صغيرة بعد أن تنزل من ارتفاع 6 أمتار تقريبًا، وأحيانًا تظهر كما لو كانت شلالًا صغيرًا. 
ومن الجدير بالذكر أن الطريق المحاذي للعين هو من الطرق القديمة التي كانت تؤدي إلى قرية الطيبة في الضفة الغربية، وكانت تسمى "طريق النزهة" لكثرة البساتين والرياحين على جوانبها، بينما اليوم صارت محاطة بالبيوت الخرسانية، كما يذكر الخبير الزراعي محمد إغبارية "أبو رباح".

برفقة أبي رباح، زرنا كذلك متنزه عين المعلقة ومنتزه آخر حول "عين إبراهيم"، ومما يُلاحظ أن العين لا تحظى بحضور خاص في هذه المتنزهات، أو أن مصمم المتنزه لم يُولِ اهتمامًا للعين، ففي "عين المعلقة" تخرج المياه من ثلاث مواسير من حائط خرساني كان يُمكن تصميمها بشكل مختلف لتكون أكثر جاذبية.

وفي "عين إبراهيم" لا تبدو حاضرة عند من هم داخل المنتزه، كونها موجودة على جدار خارجي، وفوق هذا، قد تتراكم حولها النفايات والأوساخ أحيانًا، علمًا أنها تعد من أهم عيون المدينة.
البحث عن "رئة خضراء" وسط غاباتنا الإسمنتية

قبل أن نختم جولتنا، لا بُد أن نعترف بأن استصلاح العيون والينابيع من المسائل التي اعتنى بها أسلافنا؛ فلولا العيون والمياه لما وُجدت الكثير من قرانا ومدننا.
واليوم، من يتأمل أم الفحم من أعالي جبل إسكندر وهو أعلى جبل في المنطقة، ويبلغ ارتفاعه 521 متراً، يرَ كيف أصبح الإسمنت يغزو كل مكان، في حين يبقى البحث عن رئة خضراء كبساتين "عين خالد" أو ربما متنزه "عين الشعرة" مهمة صعبة، بينما يُمكن لاستصلاح العيون والينابيع التي وهبنا الله إياها أن يمنحنا فرصة فريدة كي نحظى بالمزيد من المساحات الخضراء وسط غاباتنا الأسمنتية الصماء.

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير