بسام الكعبي يكتب.. هل يأتي الماضي غداً؟.. وليد دقة: نحلق الآن في سرمدٍ لا ينتهي!

03.04.2023 03:45 PM


تطل الصغيرة (ميلاد) من كومة صور لعلها تساند والدها الأسير وليد دقة؛ وقد احتفظ بصور كريمته الجميلة في زنزانة ضيقة في معتقل جلبوع؛ حاول بين جدرانها ضابط سجون الاحتلال تجريده من سحر ابتسامة تضيء عتمة عزله الطويل.

رأتْ (ميلاد) النور في مدينة البشارة (الناصرة) شمال فلسطين المحتلة صباح الاثنين 3 شباط 2020 بنطفة محررة؛ نجح وليد بتهريبها رغم الحواجز والجدران والأسلاك الشائكة، كما نجح في ذلك 88 أسيراً على مدار سنوات سابقة. وظف وزير الداخلية الإسرائيلي أرييه درعي حملة التحريض الفاشية ضد وليد، ورفض تسجيل (ميلاد) باسم والدها الأسير، ومنع إصدار شهادة ميلاد تحمل اسم (ميلاد وليد دقة)! بقصد حرمانها من حقوقها، وقطع الطريق على بريئة جميلة لزيارة والدها في السجن.

تمكنتْ زوجة وليد، المحامية والناشطة الحقوقية سناء سلامة، من تسجيل ابنتهما (ميلاد) في بطاقتها الشخصية، وكانت سناء قد حُرمتْ من زيارة زوجها منذ ظَهَر حملها، فيما اقتيد وليد للعزل الانفرادي بعد أن أبصرت رضيعته النور بأربعة أشهر؛ في سلوك ثأري يكشف مستوى الكراهية والعنصرية، وقد تعرض في زنزانته لابتزاز يستهدف التوقيع على وثيقة يقر بموجبها عدم تهريبه أي نطف! لكنه رفض قطعياً هذا الابتزاز، وتصدى له بشجاعة، مؤكداً أن (ميلاد) ابنته التي حلم بها منذ عشر سنوات ونسجها في خياله.. وباتت حقيقة مطلقة من ملامح وروح.

تحرر وليد من عزله الانفرادي عقب تهديد رفاقه بإعلان اضراب مفتوح عن الطعام، وذلك بسبب حاجته للمتابعة الصحية الدائمة: ظهرتْ أعراض مرض تخثر الدم على وليد أواسط العام 2009، ويتطلب تكثف الدم (بوليتسينيميا) أدوية خاصة، فحوصات دائمة، وسحب كميات من الدم كل شهر، تجنباً لنوبة قلبية تهدد حياة المريض، أو تعرضه لنزيف يشكل خطراً على المفاصل والشرايين.

تمكنتْ زوجته المحامية سناء من زيارته لأول مرة بعد ولادة (ميلاد) أواسط تموز 2020 في سجن جلبوع في غور بيسان جنوب بحيرة طبريا، وظلتْ (ميلاد) في البيت، وسيطرتْ على حديث شغل زوجين يفصل بينهما حاجز زجاجي منذ عقد زواجهما نهار 10 آب 1999.

رَصَدَ وليد (ميلاد) في نصه الفلسفي الفذ (الزمن الموازي) الذي كتبه بداية بصيغة رسالة نشرها سنة 2005 متزامنة مع مرور عشرين سنة على اعتقاله!  ثم طور الرسالة سنة 2011 ووضعها في صيغة مكتملة، وكشف في نصه تفاصيل نظام حياة الأسير التي تسير في زمن موازٍ للزمن الاعتيادي للبشر؛ وكأن لهم ساعة زمنية خاصة بهم تطوي أعمارهم بمعزل عن ساعات ترصد زمن الناس خارج الجدران، حيث ثبات عقارب الساعة في السجون، وغياب استخدام وحدات الزمن العادية كالدقائق "إلا حين يلتقي خطا زمان الأسرى وزمان الزوار عند شبك الزيارة".. يتلامس الزمنان المتقابلان للأسرى وذويهم لبرهة قصيرة جداً على الشبك، وفي حالة استثنائية، ويفترقان!

التقط مسرح (الميدان) في حيفا نص (الزمن الموازي) وتمكن المخرج الشاب بشار مرقص من صياغته سنة 2014 بقالب مسرحي على الخشبة؛ مستوحياً أحداث المسرحية من نص وليد: نجح الأسير (وديع) مع رفاقه بتصنيع آلة عود بالسر؛ للاحتفال بزواجه الوشيك من حبيبته (فداء) على أمل أن ينجبا طفلهما (ميلاد)، وتصعد دراما المسرحية إلى ذروتها عندما يناجي (وديع) طفله المنتظر (ميلاد) الذي لم يولد بعد.. وترتجف منه دولة مسلحة بالنووي من رأسها إلى قدمها!

وقارب مشهد مسرحي عذاب (وديع) بآلام السيد المسيح عليه السلام؛ عندما عاد من جولة تحقيق قاسية، مقيداً بالسلاسل، يقطر دماً، ويترنح تحت سلم خشبي على شكل صليب؛ في دلالة على درب الآلام التي يقاسيها (وديع) وبرمزية بالغة الدلالة على معاناة (وليد) ورفاقه الأسرى القدامى؛ الذين يحملون "صليبهم" منذ سنين طويلة جداً على ظهورهم، واكليل شوك يدمي جباههم العالية.. دون ندم أو لحظة انكسار.

فَجّر (الزمن الموازي) غضب الكيان المحتل، وهدد وزراء في حكومة نتنياهو المتطرفة بمنع عرض المسرحية ومحاكمة المسؤولين في مسرح (الميدان) الحيفاوي، تحت ذريعة أن النص يروي سيرة مقاتل أسير متهم بالمقاومة المسلحة ضد الاحتلال! وحرضتْ وزيرة "الثقافة" ميري ريغيف على المسرحية: "لن نمول من جيوبنا عروضاً مسرحية تتسامح مع قتلة اليهود"! وتم مطلع حزيران 2015 الإعلان عن تجميد موازنة المسرح، الذي تقدمه بلدية حيفا من أموال الضرائب والخدمات التي تجبيها من سكان المدينة العرب واليهود، إلا أن مؤسسة (عدالة) الحقوقية تمكنتْ أواسط نيسان 2016 من التصدي لإملاءات سياسية عنصرية، ونجح الناشطون الحقوقيون بإعادة ميزانيات مسرح (الميدان)، واحتفظ بحقه في الإنتاج الفني دون مسّ بالمحتوى، وبخاصة مضمون مسرحية (الزمن الموازي).

دوّن وليد في نصه: "قابعون في الزمن الموازي قبل انتهاء الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي وسور برلين، وقبل حرب الخليج الأولى والثانية والثالثة، وقبل مدريد وأوسلو، واندلاع الانتفاضة الأولى والثانية.. نحن جزء من تاريخ معروف بأنه فعل ماضٍ انتهى، إلا نحن ماضٍ مستمر لا ينتهي.. منْ يوقف الزمان؛ فهذا دمي الذي ينزف لدقائق، وتلك روح رفاقي التي تحلق لا عقارب الساعة".. وتظل ارادة الأسير وليد تطوع الألم حتى يطل الأمل؛ بانتزاع الحرية من سؤال الزمن "المستحيل": هل يأتي الأمسُ غداً؟ سيأتي الماضي غداً، في حالة استثنائية متفردة، استجابة لإرادة صلبة لا تعترف بالمستحيل.

قارب وليد بنصه (الزمن الموازي) بفلسفة عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (1925-2017) الذي اعتبر أن جوهر الأزمنة السائلة العيش في عصر اللايقين، وإدارة الخوف، في حين أن جوهر الحداثة السائلة السيطرة على الزمان! ذلك أن "المعاني تهبط في ظل الحياة السائلة من سمّوها لتسكن دائرة السوق وتغدو سلعاً" وفق الاشتراكي باومان: هاجر عالم الاجتماع إلى "إسرائيل" سنة 1953 وغادرها فور تكشف طبيعة كيان مغتصب، نهض على التطهير العرقي. حاضر بمادة الفلسفة في جامعة وارسو (1954- 1968) قبل عمله بدرجة أستاذ في جامعة لندن، وتأثره بمدرسة غرامشي الفكرية، وتزويده المكتبة العالمية، قبل رحيله، بسبعة وخمسين كتاباً في حقل الفلسفة وعلم الاجتماع.  قدم الفيلسوف باومان نقداً لكيان مغتصب استغل الهولوكوست لتسويق أكاذيبه وتمرير قمعه: "إسرائيل لم تكن مهتمة اطلاقاً بالسلام، بل كانت تستخدم الهولوكوست كذريعة لتغطية جرائمها" كما ورد في إحدى مقابلاته مع الصحافة البولندية سنة 2011.

اعتقل وليد أواخر آذار 1986 وحكم بالمؤبد مع رفاقه الثلاثة رشدي حمدان أبو مخ، إبراهيم نايف أبو مخ وإبراهيم عبدالرازق بيادسة، بتهمة الانتماء للجناح العسكري للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والمقاومة المسلحة ضد الاحتلال. حددتْ لجنة إسرائيلية أواسط تموز 2012 حكم وليد بالسجن 37 سنة، وصادق شمعون بيرس رئيس دولة "إسرائيل" على توصيات اللجنة بتحديد سنوات المؤبد بين 35 إلى 40 سنة بحق مجموعة من الأحكام المؤبدة التي استهدفت شباب المقاومة المسلحة من الداخل الفلسطيني.

لم تتمكن جدران السجن طوال 35 سنة من محاصرة إرادة وليد؛ وقد واجه الاعتقال الطويل والمرير بالكتابة، والانهماك بكفاح الحركة الأسيرة، وخاض كل نضالاتها، وشارك في اسناد حق الأسرى في التعلم، واهتم بدراسته الأكاديمية، ونال درجة الماجستير في العلوم السياسية.

أصدر سنة 2010 (صهر الوعي أو إعادة تعريف التعذيب) كشف في دراسته سياسة الاحتلال التي تستهدف معنويات الأسير في السجون؛ عبر إعادة صياغة عقله وفق رؤية إسرائيلية بصهر وعيه؛ ذلك أن التعذيب الجسدي لم يعد المستهدف المباشر. سجل وليد في وثيقته المحكمة: "باتت السجون الإسرائيلية اليوم بمثابة مؤسسات ضخمة لطحن جيل فلسطيني بكامله، بل أضخم مؤسسة عرفها التاريخ لإعادة صهر الوعي لجيل من المناضلين".

وثق سنة 2004 (يوميات المقاومة في مخيم جنين 2002) ورصد جغرافية المقاومة في كتاب (حكاية سر الزيت) سنة 2018 مبرزاً قضية الأسرى، والحكاية جزء من ثلاثية كتبها لليافعين لا زالت قيد الطباعة: (حكاية سر السيف) تناول فيها قضية اللجوء والتهجير القسري و(حكاية سر الطيف) حلق فيها عالياً بالشهداء أكرم الناس جميعاً. حَرّضَ في جغرافية المقاومة على تحطيم جدران الصمت حتى لا يتحول الوطن إلى سجن واسع؛ يكتفي فيه "المواطن" بالمشاهدة، ويستمتع بتكرار الفرجة المسرحية من خلال صندوق عجب؛ يصلبهم في زنازين متنقلة ويكشف زيف حريتهم، وحذرهم من خطر الاكتفاء بالمشاهدة صارخاً: "حذار أن تصبحوا أنتم زنازين متنقلة".

تعرض وليد أواخر أيلول 2016 للعزل الانفرادي بذريعة محاولة نائب الكنيست باسل غطاس تهريب هواتف خليوية للأسرى لدى زيارته وليد، وأضافتْ المحكمة سنتين سجن على حكم وليد، وأصدرتْ حكماً على النائب غطاس عقب تجريده من الحصانة البرلمانية. وتعرض أيضاً أواسط تشرين أول 2018 إلى عقوبات إدارة السجون بسبب (حكاية سر الزيت)، وصادرتْ كتبه وكتاباته، ونقلته من معتقل جلبوع إلى سجن مجدو، وواصلتْ عقابه بنقله كل عدة أشهر من سجن إلى آخر، بما يعرف بسياسة (الكعب الدوار) التي تمارسها إدارة السجون بهدف ارهاق الأسير!

شهد وليد نمر أسعد دقة النور مطلع كانون ثاني 1961 في مدينة باقة الغربية (المثلث الشمالي) داخل "الخط الأخضر". ضمتْ "إسرائيل" ست بلدات فلسطينية وثلاثة وعشرين قرية في المثلث الشمالي والجنوبي إلى الأرضي التي استولت عليها في أعقاب عدوان 1948؛ عقب توقيع اتفاقية (رودوس) مطلع نيسان 1949 مع الطرف الأردني، وتم بموجبه تحديد خط "الهدنة" على امتداد الضفة الغربية، وقد باتت تحت السيطرة الأردنية منذ أواخر نيسان 1950 عقب مصادقة البرلمان الأردني على قرارات اتفاق أريحا مطلع 1949: عقد مؤتمر أريحا بموافقة معظم "وجهاء" الضفة الغربية و"نخبها" المتنفذة، وفرض الجنسية الأردنية على اللاجئين وأبناء فلسطين في الضفة حتى قرار فك الارتباط بين الضفتين نهاية تموز 1988.

تلقى وليد بحزن شديد نبأ رحيل والده (نمر) سنة 1997 فيما واصلتْ والدته (فريدة) درب الآلام على بوابات السجون، وتميزتْ بحضورها القوي وشخصيتها المتماسكة، وقد حرصتْ على زيارة نجلها إلى جانب مجموعة من أسرى الدوريات العرب الذين تبنّت زيارتهم. للأسف، فقدتْ والدته المسنة (85 سنة) ذاكرتها بالتدريج، ولم تعد تقوى في الآونة الأخيرة على استعادة الأحداث والوقائع، ولم تعد قادرة على زيارة نجلها الأسير.

حَطَمتْ الحفيدة (ميلاد) جدران السجن، وستحتفي قريباً بانتصار والدها على القيد، استجابة لتغريدة والدتها سناء سلامة: "حررتْ ميلاد والدها من قيده مبشرة بميلاد التحدي. اليوم جاءتْ ميلاد إلى الدنيا في مدينة البشارة الناصرة لتكون ميلاداً للبشارة حاملة نور المحبة والسلام" ومبشرة بانتصار وليد ورفاقه قريباً على القيد والسجان؛ لتضع نهاية لتقاطع خطي الزمن الموازي وتلامسهما مؤقتاً على شبك الزيارة؛ وكأنهما زمن صلب في جهة الأسرى وزمن سائل في طرف الزوار! هل نعيش أزمنة مركبة منفصلة متداخلة بين سائلة وصلبة في نفس الوقت؟ هل تُغلق (ميلاد) الهوة الواسعة بين جدلية الماضي والحاضر في (الزمن الموازي)؟ ربما تروي لرفيقاتها اليافعات حكايات سر الزيت، وسر السيف، وسر الطيف، وتبشر بانتصار السردية الكفاحية بمواجهة الانكسار والعبث والتهميش، وتكشف عجز "برجوازية الأطراف" و"النخب" الطبقية المتنفذة، في انجاز مهام حركة التحرر الفلسطينية، وانشغال شرائحها العليا بالامتيازات الفردية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير