خالد منصور يكتب.. ليلة من ليالي أم الزينات

26.11.2022 11:54 AM


 

    الشمس توشك على الغروب، والبرد قارص والرياح تزمجر وتكاد تقتلع الأشجار من شدتها، والسماء ملبدة بالغيوم السوداء القادمة مباشرة من البحر. أزقة البلدة وساحاتها شبه مقفرة، بعض السكان يمرون بسرعة-- عابرين إلى بيوتهم وكأن هناك من يطاردهم.. يدخلون بيوتهم ويقفلون أبوابها الخشبية بإحكام شديد.. بضعة كلاب تتراكض بين البيوت.. ساحة البلدة الرئيسية حيث الجامع خالية من الناس-- رغم أنها في أوقات أخرى تضج من كثرة المتواجدين.. وفقط دكان أبو عباس اللحام  لم يغلق أبوابه بعد-- ويبدو أن أبو عباس بانتظار زبون قرر أن يسدد ما عليه من ديون، وليعطيه بعضا من القمح سدادا لدينه.. كل المؤشرات تنذر بليلة عاصفة شديدة المطر.. جدتي وأمي حلبتا البقر والغنم باكرا.. ويتفقدن بحرص كبير خمّ ( كن ) الدجاج وأبراج الحمام وبيوت الأرانب.. وتضعان ما يكفي من العلف للجميع.. ثم تحكمان إغلاق النوافذ والأبواب عليها خوفا من تسلل بعض الحيوانات البرية إليها.. ويحضرن كمية كافية من ( قرامي ) حطب الزيتون والسنديان والزعرور-- التي كنّ قد جمعنها في الصيف من أحراش الكرمل المحاذية للبلدة.. ويدخلنها إلى داخل العقد الكبير.. ويشعلن مصباح الكاز نمرة ( 2) الذي كان الفلاحون في بعض الأحيان يملؤنه بزيت الزيتون.. أما جدي حمد المنصور ( أبو حسن ) فكان يجلس منهمكا وقد شمّر قمبازه-- أمام موقد نار عظيم.. ويتناول الحطب من مركاس (وهو كناية عن كومة الحطب التي تخزن داخل البيت ).. وبالنسبة له فان ترتيب الموقد يعتبر متعة عزيزة ولأجل إطالة أمد تلك المتعة فانه كان يواصل إضافة الحطب إلى النار ( وزها ) لوقت طويل.. وكان يزيد عليها الحطب بين الحين والآخر لتزداد اشتعالا فتضيء المكان.. ويستمر بعمله إلى أن تتحول قرامي الحطب إلى جمر احمر.. وبعدها يتناول كمية من القهوة الخضراء من الكفّور ( وهو وعاء خاص مصنوع من نبات السّعد ) ليضعها بالمحماص ويتفنن بتحميصها.. ثم يبدأ بدقها وطحنها بالمهباش.. بدقات عذبة ذات لحن موسيقي.. ويهزج مع الطحن بأهازيج شعبية قديمة-- بعضها بدوي وبعضها الآخر ريفي-- ثم يبدأ بإعداد القهوة وتجهيزها في الدلة أولا-- ثم في الإبريق.. إلى إن يصبها في المصب النحاسي الصغير.. وما هي إلا لحظات ويبدأ سمّار الليل المعهودين بالتوافد على ديوان جدي.. وبالغالب يكونون من أقاربه ومن جيرانه.. وكلهم متلفّعون بالبشت.. المصنوع من شعر الماعز أو من وبر الجمل.. ويتلثمون بالكوفية السمراء.. وينتعلون أحذية الكاوتشوك التي صنعها لهم كندرجي البلد أبو حنا-- المسيحي الوحيد الذي يعيش في البلدة-- والذي كان يعمل هو وزوجته في كل شيء-- من الخياطة إلى الطبابة إلى الحلاقة إلى صناعة الأحذية.. وديوان جدي كباقي دواوين البلدة.. يكون كالعادة مجهزا دوما بما يهيئ للضيوف الراحة وحتى الاسترخاء والنوم في بعض الأحيان-- حيث فرشات ووسائد القطن.. والمساند المصنوعة من القش..
    تبدأ السهرة بان يقوم جدي بصبّ فنجان القهوة-- السادة-- الفنجان الأول الذي تتبعه عشرات الفناجين على مدى السهرة.. ويخرج كل واحد من الساهرين علبة دخانه العربي ويضعها أمامه.. ليبدأ بلف السجائر بمتعة لا تضاهيها متعة.. ثم يبدأ الحديث عن أحوال أهل البلدة عن أفراحهم وأحزانهم ( من مرض ومن تعافى..؟؟ ومن سافر ومن عاد..؟؟ ومن يعتزم تزويج ابنه..؟؟ وعن طوشة فلان وفلان وخلاف العائلات وعن وعن..الخ ).. ثم عن المطر المتواصل بلا انقطاع لأكثر من ثلاثة أسابيع.. وعن السيول التي جرفت بطريقها الأراضي.. وكيف تسببت بنفوق بعض الأبقار والأغنام.. ويكملون الحديث عن مشاق رعاية الأبقار والأغنام.. وكيف أن مخزون الحشائش والتبن والشعير قد قارب على النفاذ.. وماذا سيفعلون إن لم يتوقف المطر ( وهبّط البقر ).. وينتقلون لأحاديث عن الموسم القادم براحة نفسية.. لأنهم قد أتموا قبل المطر حراثة الأرض وبذارها بالقمح والشعير والعدس والكرسنة.. ويتناقشون في كم زرع كل واحد منهم من الأرض.. ويلومون بعضهم على ترك بعض موارس الأرض بدون فلاحة.. ويطول الحديث ويتنوع.. فيتحدثون عن ظلم وجبروت الأتراك والانجليز.. وكيف كانوا يتصرفون كمحتلين برابرة ينهبونهم ويستولون على محاصيلهم.. ثم يدخلون في الحديث عن فصائل الثوار.. عن القسام والسعدي وأبو درة وعن المعارك التي وقعت مع الانجليز أو مع عصابات الهاجاناة.. ويتحدثون عن الشجاعة والقوة ( المرجلة ) وعن الرجال الأوائل الخارقين.. الذين كانوا يشبّهونهم بالزير سالم وعنترة العبسي من شدة باسهم وفروسيتهم.. عن مطلق الشقيري وعن الشوشاري .. ويكملون بالحديث عن غزوات قبائل الصقر الأردنية لأراضي المرج.. وعن تصدي عشائر التركمان لهم. .ويطول الليل وتشتد الأمطار في الخارج.. وتسمع أصوات الرعود وعصف الرياح وتختلط معها أصوات الثعالب والواويات والكلاب الضالة.. لكن الديوان يكون عندها قد أصبح مثل الفرن من شدة حرارة موقد النار ومن اختناقه برائحة الدخان.. ومع شرب الشاي تارة والقهوة تارة أخرى.. يأخذ الحديث مجرى آخر حيث قصص الأساطير والخرافات .. عن الغولة العجوز ذات الشعر الطويل والعيون التي تقدح شررا والأسنان الطويلة الحادة اللامعة والتي ظهرت لبعض السكان ولاحقتهم في الليل حتى حدود البلدة.. وعن مغارة المعلقة المليئة بالأرواح.. وعن المكان المسمى بمقتل أبو زينة.. حيث يصر بعض السكان على القول أنهم شاهدوا الميت وهو يخرج من قبره وانه لاحقهم لمسافات طويلة.. ويمرّون في أحاديثهم على مراهنات بعض رجالات القرية وتحديهم لبعضهم-- على من يذهب في منتصف الليل الشديد السواد ليصل إلى مغارة المعلقة النائية المخيفة فيدخل إلى جوفها-- حيث بقايا عظام وجماجم بشرية يقال أنها تعود للإنسان الأول-- ويدق هناك وتدا ويعود.. وتكون للفائز مكافئة مجزية.. ثم تبدأ حلقة المرح والضحك.. حيث يلعبون لعبة المنقلة والسيجة.. لكن اللعبة الأكثر حركة وتسلية فكانت لعبة الصينية ( صينية قهوة عليها فناجين مقلوبة وتحت واحد من تلك الفناجين إشارة وعلى اللاعبين أن يعرفوا تحت أي الفناجين توجد الإشارة ) والذي يخطئ عليه تقبل الجزاء-- إما ضربا بالحزام أو ضربا بالكفوف-- أو أن يقوم البعض بالركوب على ظهره-- وعلى المغلوب أن يطلق صوتا كصوت الحمار أو الجمل أو الثور.. وتستمر السهرة والضحك واللعب حتى بعد منتصف الليل.. ويفكر السمّار بالعودة إلى منازلهم لكن جدي يثنيهم عن ذلك بالقول لهم أن المطر شديد وان الليل  حالك شديد السواد والرياح تجر الجمل.. وتغريهم السهرة ويستمتعون بالدفء.. فيتمددون على ظهورهم حيث يراقبون بعض الزواحف التي تسير على جدران المنزل وسقفه-- المبني من الطين والحجر-- آمنة هناك هادئة..
    آه يا أم الزينات كم يخيل إلي انك كنت الجنة.. آه على تلك الليالي التي أحببتها من كثرة ما روى لي أبي القصص عنها.. كان يقول لي دوما.. رغم قسوة حياتنا هناك كفلاحين-- إلا أننا كنا سعداء جدا فيها-- لأنه كان لدينا استقرار وهداوة بال مطلقة.. ولأننا كنا نعيش على أراضينا وننعم بأرزاقنا.. كان يقول لي كل ليالينا كانت مؤنسة وحافلة بالمرح والفرح.. ففي ليالي الصيف ننام على البيادر وفي الكروم وإذا ما زوّج احدهم ولده كانت كل البلدة تعيش أسبوعا أو أكثر من الأفراح وليالي السمر.. وكذلك أيضا كانت ليالي الشتاء رائعة.. حيث يتجمع الأهل والأصدقاء في الدواوين وحول المواقد ودلال القهوة.. وحيث تعمر الجلسات بالأحاديث الشفوية والقصص والسير.. بسيطة وبدون تعقيدات الحياة العصرية وما جلبته من راديو وتلفزيون وكمبيوتر وتلفون وجوال..
    آه يا أم الزينات ويا فلسطين... لأجل تلك الحياة-- ولأننا حرمنا منها-- سنظل نحقد على الغزاة الغاصبين.. وسنظل نحلم بإعادة تلك البلاد إلينا نحن أهلها وأصحابها الأصليون.. وسنظل متشبثين بحقنا المقدس في العودة.. ونعمل ما في وسعنا من اجل إحقاق ذلك الحق-- مهما طال الزمن ومهما كبر الثمن..

-خالد منصور- عضو المكتب السياسي في حزب الشعب الفلسطيني

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير