اصدقاء موسميون...بقلم: خيري منصور
ما من صديق شتائي وآخر صيفي وثالث خريفي أو ربيعي، فالأصدقاء ليسوا معاطف نرتديها أو قمصاناً نستبدلها، لكن عصرنا جعل من الأصدقاء، كما الحلفاء، كائنات موسمية، حيث لا قيمة إلا للكسب ولا بقاء إلا للأقوى، وفق داروينية سياسية جديدة، وإن كانت حلقتها المفقودة قد عثر عليها أخيراً، من حذفوا الفارق بين التقليد والتقريد، فلا بأس أن يصبح حليف الأمس عدو الغد اللدود، ولا بأس أن يتحول الأصدقاء إلى أعدقاء لا تكاد تفرق بين تكشيرتهم وابتسامتهم، كما قال المتنبي عن نيوب الليث .
في الماضي غير البعيد افتدى أصدقاء أصدقاءهم ودفع حلفاء ثمن الهزيمة مع حلفائهم، لأن الحسابات كانت من طراز آخر، لكن ما إن تحول التلوّن والتأقلم نمطَ إنتاج حديث، حتى أصبحت مفردات مثل الفروسية والمناقبية مجرد كلمات هاجعة في القاموس، وإن غادرته فمن أجل إغواء مؤقت لضحية رومانسية يسهل اصطيادها بأي طُعْم .
نعرف بالطبع أن التاريخ لم يكن يوماً بريئاً من الخداع واصطناع الحيل والأحابيل، لكن هناك فترات تفيض فيها هذه الصناعة، وبالتالي تتحقق نبوءة أورويل فتصبح الكلمات تعني نقيض دلالاتها، بحيث يتحول مَنْ يثرثر عن السلام على مدار اللحظة، رجلاً آخر يحشد ويشحذ مخالبه وهو يتهيأ لحرب مباغتة .
ومن يُفرط في الحديث عن الحب والتعايش، هو في حقيقته ثعلب يتظاهر بالنوم، أو ثعباناً يتظاهر بالموت .
إن ما يشكو منه البشر في أيامنا ليس الدهر وصروفه، كما كان يشكو الأسلاف، فهم حتى لو كانوا يعانون فائض العافية والعلم والمال، يتحدثون عن الاغتراب والشعور بالعزلة، وقد يكون من المثير أن نسبة الانتحار تصل ذروتها في شمالي أوروبا مثلاً لأسباب لا علاقة لها بالجوع أو شُح الحرية، وإن كانت وثيقة الصلة بالاكتئاب والعزلة وفقدان الهدف .
الحليف الموسمي يحلب الضرع حتى آخره، وما إن يجف حتى يقضمه بنابه أو يعفّ عنه، والصديق الموسمي له حاسة شم كلبية ومدربة، بحيث يحزر منسوب القوة والضعف لدى من يقترب أو يبتعد عنه، وحين جعل أسلافنا من الخِلّ الوفي مستحيلاً ثالثاً، إضافة إلى الغول والعنقاء، فلأنهم جرّبوا وتجرّعوا مرارات تجاربهم، رغم أن أحوالهم لم تكن بهذا السوء الذي يطفو على أحوال المعاصرين . ولو أردنا الاستغاثة بعلماء النفس والاجتماع لتفسير هذه الظواهر الكارثية، لوجدناهم يجمعون، إلى حد ما، على هاجس الامتلاك وسُعار الاستهلاك الذي حول الكائن إلى إسفنجة ما إن تُعصر حتى تفتح آلاف الأفواه بانتظار ما تمتصه مجدداً .
يقول إريك فروم صاحب كتاب “الخوف من الحرية”، وفي كتاب آخر أعقبه، إن رهان الإنسان الذي عبّر عنه شكسبير وهو أن يكون أو لا يكون، أصبح في أيامنا رهاناً مضاداً وهو أن يملك أو أن يكون، ويسخر فروم من حديث الناس المعاصرين عن الأمراض، فهم عندما يقولون عندنا صداع أو ألم في المعدة، إنما يحرصون على إضافة الأمراض إلى الملكية، حتى لو كانوا لا يدركون ذلك . الصديق الموسمي قابل للخُلع بلغة أجدادنا العرب، وقابل للاستبدال كثوب أو قبعة أو حتى حذاء، وكذلك الحليف الذي تنتهي صلاحيتهُ لمجرد أن يضعف قليلاً .
هكذا لم تصبح الموسمية مفردة مكرسة للرياح أو الفاكهة فقط، فقد شملت الإنسان من رأسه حتى أخمص قدميه.
عن جريدة الخليج
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء