الفراغ الاجتماعي

غياب النخب وحضور الشارع

29.08.2022 03:38 PM

كتب: خالد باجس البرغوثي

يعيش الشعب الفلسطيني الان في أسوأ مراحله من حيث تراكم الازمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية  وهذا التراكم العمودي أدى الى توسع وانتشار هذه الازمات افقيا حتى طالت كافة الشرائح باستثناء من تسببوا فيها.

في هذه الاحرف اسلط الضوء على نظرية الفراغ والاحلال في المجتمع الفلسطيني تحديدا في الارياف.
باختصار كنا نعيش قبل انتفاضة 1987 ضمن منظومة قيم متعارف عليها ومتفق عليه من الجميع وكانت الاعراف السائدة ملجأ الناس لحل الاشكالات والخلافات ، في تلك الفترة كانت النخب التقليدية هي من تتولى سد الفراغ بديلا عن الدولة والقانون وكانت من وجوه العائلات ممن يمتلكون رأسمال اجتماعي او اقتصادي والمخاتير ورؤساء المجالس البلدية...الخ .

بدأت انتفاضة 1987 وبسرعة الرياح بدات النخب الوطنية والسياسية بأخذ دور القيادات التقليدية وأخذت دورهم الكامل وفرضت قوانين وأعراف جديدة  ضبتت من خلالها كافة اشكال العلاقات والاشكالات والسلوكيات للمجتمع الفلسطيني مشكلة منظومة من القيم فرضت نفسها في تنظيم العلاقات والسلوكيات في داخل المجنمع الفلسطيني  وصلت الى تقاليد الاعراس وطبيعة اللباس والاداب العامة والخلافات العائلية والحقوقية ... الخ
بعد قدوم السلطة على مركبة اوسلو  حصلت تغيرات ديموغرافية وجغرافية وظهور طبقات وعلاقات اقتصادية واجتماعية وسياسية رافقها ظهور سلوكيات وثقافات جديدة تسللت ببطء محدثة صدمة للثقافة السائدة ادت فيما بعد الى احداث تغيير بنيوي في المجتمع الفلسطيني .
هذا التغير البنيوي وما رافقة من أحداث سياسية كانتفاضة 2000 والانقسام والاعتقال السياسي وظهور الفوارق الطبقية  بشكل جلي وما ذكر سابقا  كان له التاثير والوقع القوي على محور المقال وهم النخب الوطنية  التي كانت تدير شؤون المجتمع الفلسطيني قبل وخلال بدايات اوسلو .
سحب البساط بشكل ناعم وسلس من تحت ارجل هذه النخب التي كانت غير مصدقة لما يجري وغير معترفة بالواقع الجديد كما حذث مع الكايد ابو صالح في مسلسل التغريبة ، بالاضافة الى ما سبق كانت من نتائج بحث اجريته لرسالة الماجستير  بعنوان (الاسرى الفلسطينيون من حرية السجن الى سجن الحياة) حول عزوف النخب الوطنية عن العمل السياسي والاجتماعي توصلت فيه الى أن الاحتلال فشل في ابعاد هذه النخب عن واجبها الوطني والاجتماعي ولكن التحولات التي تلت اوسلو  كانت السبب في هذا العزوف.

نعيش اليوم في حالة مشوهة من التناقضات والعلاقات والاوضاع التي لا يمكن وصفها الا بانها حالة تعاش ولا توصف النظام السياسي مشوه والاقتصادي مرهون والاجتماعي بدون منظومة قيم  وعولمة وتبعية وانفلات وقانون وعشائر وفردانية انانية وتفكل للروابط وانفلاش وطني ، هي حالة اللا حالة ، هذه الحالة تركت فراغ اجتماعي لم يأبه به النظام السياسي الفلسطيني بل احيانا يعززه وهذا حال الانظمة الشمولية، المقصود بالنظام السياسي  هو كل الفاعلين السياسيين  سلطة واحزاب ومجتمع مدني ،

في هذا الحضم الموجه والمفكك سوى من الفزعات والهبات الوطنية يعيش الريف الفلسطيني حالة فراغ من وجود هياكل اجتماعية تدير العلاقات بين الافراد والعائلات و(الاحزاب المتهالكة) حيث نشأت ظواهر وعلاقات وسلوكيات وقيم جديدة من افراز الجيل الجديد الذي شوهته المراحل سالفة الذكر  مضيفا اليه انضمام وانسياق بعض النخب الى هذه الثقافة الجديدة متساوقة مع حالة الفراغ بين الثقافتين . هذه الحالة المزرية كانت اعراضها هيمنة القوة والعنف والقتل والثار بكافة انواع الاسلحة وتفاقم الانقسامات في نفس المقسم اصلا فلم تعد العائلات عائلة واحدة بل تكتلات متنافسة في نفس العائلة وكذلك الاحزاب التي يعيش في داخلها تيارات متناقضة ومتصارعة، هذا الحالة هي نتيجة ومسبب في نفس الوقت وهي كرة ثلج متدحرجة نحو زيادة تعميق الازمة  الى ما يشبه بحالة الانفلات  باستثناء االتدخلات الامنية والقانونية شبه العقيمة والتدخلات الفردية غير المؤثرة .

هذه الحالة من الانفلات هي نتاج غياب النخب الوطنية والاجتماعية عن دورها الوطني والاجتماعي تاركة فراغ تم تعبأته من الشارع الذي انتجته التشوهات سابقة الذكر ، حيث تمكن الجيل الجديد الذي جمع بين العمل الوطني والانانية الفردية واللامسؤولية وقلة الوعي وتربية العولمة ومواقع التواصل الاجتماعي ...الخ فتراه تارة يواجه الجيبات العسكرية ببسالة وتارة يواجه زميله بنفس البسالة واحيانا بعنف اعلى، وكأن العنف ليس موجه للاحتلال فقظ بل للكل كنتاج لقيم مفككة مشوة  عشوائية الاهداف.

باختصار حالة من الفراغ الاجتماعي للأسف تراقبه النخب وتراقب اتجاهه وتغوله وتتلظى بناره حتى اصبح اقوى منها بل نجح في جرها جزئيا الى جانبه احيانا .

هذا الوصف السوداوي ما زال فيه بارقة امل حيث ان النخب الوطنية ما زالت على قيد الحياة وما زالت تمارس بشكل جزئي فعلا وطني ومشاركة سياسية، الامل ان هذه النخب ما زالت تؤمن بالثوابت الوطنية والقيم الوطنية الاجتماعية الاصيلة ، ما زالت تغار وتتاثر وتتفاعل مع القضايا الوطنية والاجتماعية ، هذه النخب تؤمن ان دورها سيعود بعودة المواجهة الوطنية الشاملة مع الاحتلال  هي تحلم بانتظار هذه اللحظة التي ستعيد لها مكانتها ودورها الفاعل والمؤثر، هذا الموقف النبيل وهذا الحلم العظيم كان له سلبية عملت عمل المخدر حيث طال الانتظار  وابتعد اصحاب الحلم عن الساحة التي لن يجدوها اذا تحقق حلمهم كقارب بلا مجاديف .

غياب النخب غياب للحق وللعدل غياب للقيم غياب للوعي غياب للتاريخ غياب للنضال والجهاد والكفلح  غياب للروح عن الجسد  هذا الغياب هو الفراغ الوطني والاجتماعي امام تغول الجهل والانفلات وثقافة الشارع
ان لم تملأوا الفراغ لن تشاركوا في الحلم ، واخيرا كما قال اينشتاين : اذا غاب الضوء حضرت العتمة. الفراغ هو الفجوة بين الحلم والوهم.

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير