فواز عطية يكتب لوطن .. واقــع مـــدارس القـــدس بيـــــن التهويـــد للمناهـــج وانهيـــــار القيــــم

14.08.2022 08:57 AM

أُضيف صرخاتي وآهاتي مع باقي الصرخات والآهات لعدد كبير من أهالي وأبناء البلد، الذين يئنون بحسرة وألم على ضياع الثوابت وذوبانها بمنظومة خطط لها على مدار سنوات، ضمن ما يُسمى بأسرلة المنهاج الفلسطيني في القدس الشريف، أي تهويد التعليم العربي الفلسطيني بمحو القيم والمبادئ القائمة على مفاهيم وطنية في محاولة لإنهاء الرابط والبعد العربي للشعب الفلسطيني بالشعوب العربية، ولشطب ذاكرة النكبة والعودة ولإزالة أي مفهوم يتعلق بالبعد الديني والتاريخي للقدس خاصة وفلسطين عامة.

من فلم يعد لمصطلح "الستاتيكو" الخاص بشأن التعليمي في القدس الشريف، أي اعتبار أو قيمة قانونية محليا أو عالميا، في ظل الانهيار الذي يلاحق غالبية المجتمع الفلسطيني من عدة جوانب منها التعليم، الذي لا حول ولا قوة له إلا بالله!
لا أدري هل باتت الكتابات والمناشدات وورشات العمل فارغة من أي مضمون وفاقدة لأية فاعلية أو تأثير، أم أن الآذان تلوثت وصُمت أم أن القلوب قد أُقفلت، الأمر الذي وجدت من خلال مسؤوليتي المجتمعية امام الله ثم امام أهلي وأبناء بلدي، أن أخُطَّ هذه الكلمات لعلها تكون حجة لي لا عليّ ليوم يُسئل الصادقين عن صدقهم.
بغض النظر عن شخصية وزراء التعليم في دولة الاحتلال، سواء من تبوء سدة الحكم منهم كنفتالي بينت أو من تباها بتشدده ضد العرب كأمثال جدعون ساعر أو غيرهما، حيث تم ذكرهما على الهامش ليس لأهميتهما بقدر أنهما الأكثر تطرفا في الأفكار والعداء الصريح للقومية العربية.
لكن جدير بذكره، أن الاستراتيجية الإسرائيلية لدولة الاحتلال لا تقوم على أشخاص، وانما تقوم على دراسات وخطط ممنهجة مدروسة طويلة الأجل، وما على الأشخاص إلا أن يطبقوها ضمن المدد التي تُحدد، وبالتالي لا بئس من تطبيقها من خلال بعض المتزمتين وكل من يكنُ العداء لأي عربي.
لعل من نافلة القول، أن أهم إطار للاستراتيجية الإسرائيلية يكمن في استغلال الفرص، لذلك نجاح تلك الخطط مرهون في عامل ضعف الطرف المقابل ومدى حاجته للمساعدة، الأمر الذي يُستغل وضع الرمق الأخير من الحياة، ويتم سكب شربة ماء بطعم غريب، لكن الملهوف على الماء لا يأبى للطعم بقدر لهفته على استمرار الحياة.
إن واقع إحلال المنهاج الإسرائيلي بالكامل محل المنهاج الفلسطيني، بدأ باستغلال النقص الشديد في عدد الصفوف الدراسية في القدس على مدار أعوام خلت، نتيجة التنامي لعدد الطلاب بصورة ملفتة بسبب التكاثر الطبيعي لسكان القدس ومحيطها، وفي السياق المتصل تشديد إجراءات التراخيص من قبل بلدية الاحتلال، لاستصدار رخصة بناء أو في سبيل استصدار رخصة ترميم حتما زاد من حجم المعاناة، في الوقت الذي تعتبر تقنيات التعليم الحديث شبه معدومة في معظم المدارس العربية.

لذلك وجدت بلدية الاحتلال أن أنسب طريقة للسيطرة على التعليم الفلسطيني، وغسل أدمغة أبنائنا من الصف التمهيدي حتى بلوغهم الصف الثاني عشر، يكمن في بناء المدارس الحديثة في الأحياء العربية تحت مسمى تطوير مرافق شرقي القدس، فأول طريق مُهد لأسرلة التعليم العربي الفلسطيني "أي تهويده" ضمن مناهج إسرائيلية تتنافى والفكر القومي العربي، بتقديم تسهيلات لأصحاب الأراضي في الأحياء المحيطة بالقدس القديمة، قد تصل في بعض الأحيان الاعفاء الكلي أو الجزئي من رسوم التراخيص من أجل البناء الخاص أو بزيادة نسبة البناء، مقابل تخصيص جزء من الأرض لبناء المدارس وعلى نفقة بلدية الاحتلال، علما أن نفقات بناء تلك المدارس ليست من جيوب الاحتلال كما يتم تصويره للناس، وهذه حقيقة يجب أن يعيها كل أهالي وأبناء القدس، لأن رصد ميزانيات البناء لعدد من المدارس الملفت للانتباه، خلال مدة 10 سنوات الماضية في محيط القدس، وبتقنيات بنيوية حديثة من حيث التصميم العمراني وما يتبعه من تخصيص ميزانيات للتطوير التكنولوجي في التعليم، في حقيقته هو من جيوب أهل وأبناء القدس على مدار 55 عاما، نتيجة دفعهم لما يُسمى بضريبة الأرنونا على مدار تلك السنوات.

فتخصيص بعض مما دُفع على مدار 5 عقود من أجل تحسين صورة بلدية الاحتلال، أمر مدروس ومخطط له، ضمن استراتيجية تطبق منذ 11 عاما بصورة علنية وواضحة، في ظل قطع موارد الدعم العربي للتعليم الفلسطيني، وفي ظل انتكاس مد يد العون من السلطة الفلسطينية لتخصيص ميزانيات دعم ومؤازرة للمدارس الخاصة والأهلية والعامة.
لست في مقام الحديث عن الميزانيات المخصصة من بلدية الاحتلال للأسرلة التعليم العربي الفلسطيني، في سبيل تغيير المنهاج الفلسطيني، لأنني لا أرغب في إحداث صدمة للقارئ الكريم، لكن لو طبقت السلطة الفلسطينة مقولة " قليل دائم خير من كثير منقطع"، لكانت النتائج اليوم بدوام القليل من الخير والدعم المادي لمدارس القدس أكثر ثمارا من كثير منقطع.
كما أنني لست في مقام جلد ولوم لبعض المدارس الفلسطينية في القدس، نتيجة هرولتها لتطبيق المنهاج الإسرائيلي، من أجل الحصول على الدعم المادي المغري، مقابل تطبيع المنهاج الإسرائيلي كلية أو جزءا في مدارسها، لكن ما يدعو للاستغراب والاستهجان أن هناك مدارس خاصة وأهلية، تتقاضى رسوما باهظة جدا من الطلبة الملتحقين في صفوفها، ناهيك على التفنن في زيادة الأقساط السنوية عاما بعد عام، نتيجة التغيير في الكتب والقرطاسية بإضافة دفتر هنا وكتاب هناك، وحديثا أدخل ومن العام المنصرم التقنيات الحديثة، بإلزام الطلاب لا سيما طلاب المرحلة الابتدائية الدنيا، لاقتناء أجهزة وحواسيب تساعد على التعليم الإلكتروني وبمبالغ باهظة، دون أدنى رقابة ومسائلة فيما إذا كانت تتوافق مع صحة الأطفال، ودون رقابة فيما إذا كانت تشكل تلك الأجهزة إضافة ملحوظة ومميزة للتعليم الوطني.

إنني لست ضد التطور والحداثة، منوها في هذا المقام - أن طبيعة رسالتي المهنية أصلا تتطلب وتقوم على الحداثة ومواكبة التطور-، لكن سؤالي لإدارة تلك المدارس هل ولي الأمر ملزم ببرنامج تعليمي من خلال تقنية الأجهزة بشراء 3 أو 4 أو 5 أجهزة إن كان لديه العدد المذكور من الأطفال؟ وهل تلك الوسيلة تعتبر من ضمن الأعباء المادية الإضافية الملحة والملزمة للأهل لتضاف على كاهلهم من أجل تعليم نموذجي؟ وهل ظهرت فجأة الضرورة الملحة للتعليم الإلكتروني بعد الخروج من جائحة عالمية، علما مازالت البشرية اليوم تعاني من تباطئ النمو الاقتصادي!

ألا تعتبر تلك التقنية تتنافى تنافيا كليا، مع تعليمات إدارة تلك المدارس في كل نهاية عام، من خلال الوصايا والتعليمات التي تنهال على رؤوس الأهل بضرورة عدم مجاراة متطلبات الأبناء وضرورة تنشئتهم على القناعة والقليل؟ ألا تتنافى تلك الطلبات بشراء تلك التقنية مع واقع سبب وهدف توحيد الزي المدرسي للطلاب والطالبات، لعدم احداث شعور بالفرق بين الطلبة في مستوى المعيشة؟ ألا تعد تلك التقنية من باب الإسراف والبذخ في ظل تباطؤ النمو العالمي، وفي ظل عدم توفر زيادة الدخل لأهل وأبناء القدس مع الزيادة في قيمة الشراء نتيجة رفع الأسعار بصورة جنونية للطعام والشراب والكهرباء والبترول وغير ذلك؟ أم أن أهل القدس يعيشون بمعزل عن العالم يتمتعون بالترف والبذخ، مما يستدعي ترفيه وتنعيم أولادهم بتقنيات التعليم التكنولوجي أسوة بتعليم أطفال اليابان الذين يعيشون على الدعم الحكومي السخي!
وأخيرا، صُدمت يوم أمس وأثناء شراء الكتب والقرطاسية لأحد أبنائي، بأن تلك المدرسة ألغت إحدى أهم اللغات وهي اللغة الفرنسية، ولدى مراجعتي المسؤول زاد من دهشتي وآلامي ما أدلى به من تصريح صاعق وأمام الأشهاد، بأن مستوى الطلاب للمرحلة المتوسطة متدني جدا في اللغة الفرنسية، ولا يمكن تدريس تلك المادة، إلا للطلاب الذين يرغبون بتقديم مستوى التعليم الخاص بما يسمى "الدلفDelf ".
فأي مستوى وصلنا إليه في تلك المدارس، تعليم خاص على خاص في ذات المدرسة، ومن المسؤول عن هذا التدني في ظل دفع الأهل الغالي والنفيس من أجل تعليم أولادهم في تلك المدارس، التي تمتاز عن قريناتها باللغة الفرنسية، لتكون لغة إضافية كسلاح إضافي أثناء مواجهة أبنائهم للحياة العملية، ولماذا تتقاضى تلك المدارس رسوما باهظة وقد أُفرغت من تسميتها ومضمونها؟
يبدو أن الأمر قد فاق كل توقع، فأصبح أهل وأبناء القدس كمن وقع بين مطرقة صحراء التهويد وسندان ظلم بعض إدارات المدارس، التي تأبى تشكيل لجان أولياء الأمور لتكون بعيدة عن كل نقد ومحاسبة ومراقبة، وبعضها يختار لجان أولياء الأمور ضمن مقاس وقالب معين، لضمان الولاء لسياساتها دون أن تكون مختارة بنظام ديمقراطي من خلال الانتخابات.

غني عن بيانه، أن تسليط الضوء لواقع بعض المدارس في القدس، لا يشكل إلا حالة صحية للتشخيص السليم، كما وغني عن بيانه أن بعض تلك المدارس امتازت بالمهنية التعليمية العالية والفريد من نوعه، لا سيما ما تم تحقيقه على الصعيدين التربوي والتعليمي، وبالتالي فهي من ممتلكات ومقدرات الشعب الفلسطيني التي نفتخر بها، لكن ذلك لا يشكل عاصم لها من النقد البناء دون الانتقاص من تحمل مسؤوليتها الوطنية اتجاه أبناء شعبها، فالنقد هدفه زيادة التطوير والبقاء على ذات المستوى في أدنى الحالات.
في النتيجة، ورغم التشخيص للواقع الأليم سابق الوصف، إلا أنه مازلت هناك فُسحة أمل لوضع حد لتهويد مناهج التعليم، والارتقاء بالتعليم في القدس بالطرق التالية:
1-  على وزارتي القدس والتعليم العالي تحمل مسؤوليتهما اليوم قبل غد، بإيجاد رقابة وطنية على أعمال تلك المدارس، والعمل في الميدان، لأن المكوث في المكاتب وإجراء اللقاءات المكتبية وأخذ الصور وتحميلها على صفحات التواصل الاجتماعي لا تسمن ولا تغن عن اللقاءات الميدانية، فوزير القدس اليوم مطالب بعقد لقاءات مع مدراء القدس الأهلية والخاصة والعامة، دون تباطئ أو تأخير وقبل افتتاح العام الدراسي الحالي، لتدارك تهويد المنهاج الفلسطيني، ومطالب بإيجاد كل الدعم للمدارس المذكورة، ووضع الخطط والميزانيات الخاصة لمنع كارثة وطنية محققة فيما لو تباطئ العمل، وإدراج ذلك بجلسة مجلس الوزراء الفلسطيني في كل جلسة يعقدها، ضمن ما يسمى بعناقيد التطوير.
2- لا ضير من تعليم اللغة العبرية فقط في المدارس الفلسطينية في القدس، سواء العامة أو الخاصة أو الأهلية، ليتكمن الطالب من اتقان اللغة العبرية انطلاقا من القول المأثور:" من تعلم لغة قوم أمن شرهم".
3- ضرورة تشكيل لجنة أولياء الأمور، والضغط على إدارات المدارس من خلال وزارة التعليم العالي، لتقديم أفضل سبل التعليم في القدس لأبنائنا الطلبة.

4- تقديم موازنات إضافية للمدارس في القدس، ومراجعة أقساط المدارس الأهلية والخاصة على وجه الخصوص، ولتشكيل لجنة وطنية مشهود لها بالاستقامة والنزاهة، ولا ضير من إضافة الأقساط السنوية على الطلاب بنسب معقولة، إن كانت تحقق الصالح العام، شريطة زيادة رواتب الكادر التعليمي والإداري فيها.
5- تعزيز ثقافة العمل التطوعي بين الطلبة.
6- إشراك المؤسسات التجارية العاملة في القدس من أجل دعم التعليم، بتشجيع التبرع للمدارس الفلسطينية في القدس، مقابل حوافز تشجيعية لتلك المؤسسات بتخفيض فاتورة الضرائب وتقديم التسهيلات ائتمانية في حال رغبتها بتوسيع النشاطات التجارية بفوائد بسيطة جدا، وبأن يكون للقطاع التجاري نسبة تمثيل في لجنة أولياء الأمور بصورة لا تتنافى ومبادئ التعليم.
7- تفعيل نظام التبرع من مختلف أطياف الشعب الفلسطيني بمختلف القطاعات، لدعم التعليم في القدس ومواجهة تهويد المنهاج الفلسطيني.
8- طرح واقع منهاج التعليم الفلسطيني المقدسي امام المحافل الدولية، وليكون جزءا من خطاب السيد الرئيس امام الجمعية العامة للأمم المتحدة في الشهر القادم محل تركيز، وبيان سبب تهديد الاحتلال بسحب التراخيص لبعض المدارس في القدس، لرفضها تطبيق المنهاج التهويدي الجزئي والكلي، وبيان واقع وحقيقة التعليم الإسرائيلي الذي يقوم على انكار حقوق الشعب الفلسطيني وتحقيره.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير