رحلة مع التين في أرض فلسطين.. من تين عجلين إلى البقيعة

18.07.2022 09:20 AM

وطن- عمر عاصي

حكاية فلسطين مع التين عمرها 6500 عام، حكايةٌ غنية بالتفاصيل التي اندثرت أو تكاد، كـ "التين الفائق" الذي وجده "الرحالة المقدسي" في قرية يبنا المُهجرة قضاء الرملة، ومثلها حكاية التين الصحراوي "الجميز" الذي وجده في عسقلان وبه تميزت غزة أيضًا.

  ومن القصص المثيرة، حكاية بستان التين في قرية صطاف المهجرة التي يُفاخر الصهاينة بحفظ أصناف تينها بعد طرد أهلها منها، وتين سلواد وصناعة القطّين المهددة بالزوال بعد أن كان يُشار إليها بالبنان، وليس أعجب من هذا إلا حكاية بيع المستوطنين للتين المنهوب عند مفترق حوارة، وصراع التين العناقي في قرية تل من أجل البقاء.
وكذلك حكايا تصدير التين من طولكرم إلى مصر، ثم أخيرًا حكايا ما تبقى من حلاوة تين البقيعة ومجد الكروم قضاء عكا وحكايات "اقتصاد القطّين" على أطراف جبل كنعان عند قريتي كفر برعم والجاعونة قضاء صفد، وكيف صمدت هذه الصناعة في قرية الجِش في أقصى شمال فلسطين، كُلها حكايات تُلخص قصة فلسطين بواحدة من ألذ وأجمل فاكهتها- التين!

غزة وعسقلان والتين الصحراوي

مع أننا لا نجد التين في جنوب فلسطين، وبالأخص في المناطق الصحراوية، إلا أننا عندما نبحث عن التين في بلاد الجنوب و"ديرة بئر السبع"، سنجده يُذكر مع ذكر خربة أم التين والتي تُسمى "إرديحة"، بينما صارت تُسمى بعد الاحتلال بخربة ـريحافا (חורבת רחבה)، وهي عبارة عن أبنية متهدمة لم يبق لتينها ذكرًا إلا في التسمية.

فالتين يحتاج إلى ظروف مناخية لا تجتمع في الصحراء غالبًا. علمًا أن هناك مواقع كثيرة في فلسطين ارتبطت تسميتها بالتين، تصل بحسب الباحث الجغرافي شكري عرّاف إلى 46 موقعًا حمل اسم التين في فلسطين، منها القرى ومنها العيون والمغاور والخِرب مثل "عين التينة" التي تطلق على العديد من العيون في الجليل شمال فلسطين وكذلك "وادي التين" بالقرب من "طيبة بني صعب" و"نزلة التينات" و"تل التينة" و"خربة أم التين" وغيرها.

من هناك ننتقل إلى غزة، وإلى حيث قيل "إذا بدّك تاكل تين، روح على الشيخ عجلين".
و"الشيخ عِجلين" هو حي يتربع على ربوة عالية في الناحية الجنوبية الغربية لمدينة غزة، ويشتهر بزراعة العنب والتين ويُمكن لمن يمر في مفترق الشيخ عجلين في موسم العنب والتين أن يجد التين حاضرًا، حيث يُعد هذا المفترق معرضًا دائمًا للفاكهة والخضار الموسمية.

وفي هذا السياق، لا بد أن نذكر بأن التين العجلوني المنتشر في فلسطين، تعود تسميته بحسب العديد من الباحثين إلى مدينة عجلون الأردنية وليس إلى عجلين في غزة، فقد اشتهرت وما زالت هذه المدينة الأردنية بهذا الصنف "العجلوني" من التين وهو من الأصناف المحبوبة لدى الفلسطينيين، كما اشتهرت أيضًا مدينة السلط بالتين السلطي وهو أقل انتشارًا.
والمثير أن نذكر هنا، بأن غزة وجنوب فلسطين اشتهرا بنوع من التين، يُسمى بـ"التين الصحراوي" كما يسميه بعضٌ وهو "الجميز" الذي يعد أكثر صمودًا وتحملًا للعطش والحرارة، وقد انتشر في فلسطين في الفترة المملوكية، كما يشير المؤرخ مصطفى كبها، ويوضح ذلك قائلًا: "استقدم المماليك أشجار الجميز من مصر لزراعتها في درب السلطان، الذي كان يستخدمه حجيج المركب الشامي، يستظلون بظلاله الوارفة للراحة من عناء السفر".

غزة وعسقلان والتين الصحراوي

مع أننا لا نجد التين في جنوب فلسطين، وبالأخص في المناطق الصحراوية، إلا أننا عندما نبحث عن التين في بلاد الجنوب و"ديرة بئر السبع"، سنجده يُذكر مع ذكر خربة أم التين والتي تُسمى "إرديحة"، بينما صارت تُسمى بعد الاحتلال بخربة ـريحافا (חורבת רחבה)، وهي عبارة عن أبنية متهدمة لم يبق لتينها ذكرًا إلا في التسمية.

فالتين يحتاج إلى ظروف مناخية لا تجتمع في الصحراء غالبًا. علمًا أن هناك مواقع كثيرة في فلسطين ارتبطت تسميتها بالتين، تصل بحسب الباحث الجغرافي شكري عرّاف إلى 46 موقعًا حمل اسم التين في فلسطين، منها القرى ومنها العيون والمغاور والخِرب مثل "عين التينة" التي تطلق على العديد من العيون في الجليل شمال فلسطين وكذلك "وادي التين" بالقرب من "طيبة بني صعب" و"نزلة التينات" و"تل التينة" و"خربة أم التين" وغيرها.

من هناك ننتقل إلى غزة، وإلى حيث قيل "إذا بدّك تاكل تين، روح على الشيخ عجلين".
و"الشيخ عِجلين" هو حي يتربع على ربوة عالية في الناحية الجنوبية الغربية لمدينة غزة، ويشتهر بزراعة العنب والتين ويُمكن لمن يمر في مفترق الشيخ عجلين في موسم العنب والتين أن يجد التين حاضرًا، حيث يُعد هذا المفترق معرضًا دائمًا للفاكهة والخضار الموسمية.

وفي هذا السياق، لا بد أن نذكر بأن التين العجلوني المنتشر في فلسطين، تعود تسميته بحسب العديد من الباحثين إلى مدينة عجلون الأردنية وليس إلى عجلين في غزة، فقد اشتهرت وما زالت هذه المدينة الأردنية بهذا الصنف "العجلوني" من التين وهو من الأصناف المحبوبة لدى الفلسطينيين، كما اشتهرت أيضًا مدينة السلط بالتين السلطي وهو أقل انتشارًا.

والمثير أن نذكر هنا، بأن غزة وجنوب فلسطين اشتهرا بنوع من التين، يُسمى بـ"التين الصحراوي" كما يسميه بعضٌ وهو "الجميز" الذي يعد أكثر صمودًا وتحملًا للعطش والحرارة، وقد انتشر في فلسطين في الفترة المملوكية، كما يشير المؤرخ مصطفى كبها، ويوضح ذلك قائلًا: "استقدم المماليك أشجار الجميز من مصر لزراعتها في درب السلطان، الذي كان يستخدمه حجيج المركب الشامي، يستظلون بظلاله الوارفة للراحة من عناء السفر".

ولعلّ أشهر جميز في فلسطين، هو جُميّز عسقلان، فقد ذكره الرحالة والعلّامة شمس الدين المقدسي البشاري في كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، بينما كان يجوب البلاد بحثًا عن "خصائص البلدان"، فقال في عسقلان: "تقع على البحر جليلة كثيرة المحارس والفواكه ومعدن الجميز".

تين يبنا والرملة "أحسن التين"

على ذكر الرحالة المقدسي البشاري، فإن تين الرملة وفاكهتها عمومًا قد أبهرته حينما زارها قبل حوالي 1000 عام، فقال: "ولا ألذ من فاكهتها". وعندما يذكر قرى الرملة (على السهل الساحلي الفلسطيني)، يصف قرية يبنا بقوله: "بها جامع نفيس، معدن التين الدمشقي الفائق".

وقد هُجّرت هذه القرية عام 1948، بعد أن كانت من أكبر قرى فلسطين ولم يبقَ منها إلا بضعة معالم، ولا ندري ماذا حلّ بتينها الفائق.
إلى جانب التين الدمشقي، في حديثه عن خيرات فلسطين يذكر المقدسي صنفًا قديمًا من التين، لا يزال حاضرًا في أسواقنا حتى اليوم، ويعد من الأصناف المميزة، هو التين السباعي (إسباعي)، وما يميز هذا الصنف أن ثمرته "خضراء مشوبة بالبنفسجي والأبيض، كروية الشكل، قشرتها تتشقق بعد النضج ولبها أحمر قرنفلي، طعمها حلو مائل للحموضة ذو نكهة جيدة" بحسب وصف منشور لوزارة الزراعة الفلسطينية حول "شجرة التين" تحت عنوان "التين الحماضي".

فالحماضي هو نفسه السباعي وهو نفسه الحماري، كما جاء في كتاب "شجرة التين" للباحث الدكتور محمد سليم إشتية وزملائه، فتسمية هذا الصنف تختلف من منطقة لأخرى. علمًا أن التين السباعي، وبعد البحث، يُعد الخيار الأنسب لمن يرغب بزراعة التين وليس عنده مكان إلا لشجرة واحدة.
بالعودة إلى الرملة وتينها الدمشقي، نجد أن المقدسي لم يكن وحده المُعجب بهذا التين، فهذا الرحالة الفارسي ناصر خسرو يذكر في كتابه الشهير "سفر نامة" هذا التين الفائق قائًلا: "وفي الرملة صنف من التين ليس أحسن منه في أي مكان، يُصدّر منها إلى جميع البلاد".

ويبدو أن لتين الرملة تاريخ عريق، ففي كتابه "مصادر الاقتصاد الفلسطيني من أقدم الفترات الى عام 1948" يذكر الباحث شكري عراف بأن المنطقة الممتدة من اللدّ إلى عمواس كانت تنتج التين الجيد منذ أيام الرومان، كما أنه كان وافر الإنتاج أيضًا في قرى الجليل وغيره.

وقبل أن نُغادر الرملة، لا بُد أن نذكر بأن هناك قرية من قرى الرملة تُدعى "التينة"، وهو دليل آخر بأن للتين حكاية مع الرملة وقراها، وهي حكاية "تاريخية"، حيث لا نجد اليوم ذِكرًا خاصّا للتين في الرملة وقراها التي هُجرّت ودُمرت بعد عام 1948، ولكنها تبقى حكاية مثيرة خاصة أن الرملة تقع في السهل الساحلي، بينما التين يجود في الجبال، كجبال رام الله ونابلس والجليل.
بساتين حفظ التين في قرية صطاف المهجرة

نغادر الرملة، صعودًا إلى جبال القدس ورام الله، حيث للتين نكهته وحكاياته وقد تميزت بها قرى مثل "أبو غوش" وكذلك "عين كارم" ولكن لحكايته في قرية صطاف المُهجرة نكهة مُختلفة، حين أقام الصندوق القومي لـ "إسرائيل" بساتين للتين، حُفظت فيها الكثير من أصناف التين الأصلية وتصل إلى 90 صنفًا، باعتبارها أصناف "أرض إسرائيل".
وكل هذا بعد طرد وتهجير السكان الأصليين، وعمومًا فإن أسماء أصناف التين تفضح كُل محاولة لطمس تاريخ المكان.
فمن يقرأ عن التين الزراقي والإسوادي والإخضاري والإصفاري بل والإشحيمي والخرطماني والعناقي وحتى الإغزالي والشناري والعدسي والخروبي والموازي، وهي مكتوبة باللغة العبرية لا بُد وأن يعلم بأنها كُلها عربية فلسطينية.

للوصول إلى بستان التين، يُمكن النزول في موقع السيارات ثم السير في المسار الأزرق وهو مسار دائري، طوله 3 كيلو متر تقريبًا ويستغرق مدة تتفاوت من ساعة إلى ساعتين.

ويمر في محطات عديدة مزروعة بالكثير من الخيرات التي تميزت بها أرض فلسطين كالعنب والتين والزيتون والرمان واللوز والبلوط.
ويُعد الموقع من المعالم السياحية البيئية المهمة لكل مهتم بالزراعة والطبيعة في أرض فلسطين.
بحسب موقع سفراوي، وهو دليل سياحي فلسطيني، فإن قرية صطاف التي هجّر أهلها في نكبة 1948 تحولت مع الوقت إلى منطقة زراعية، وهي اليوم "منطقة زراعية تخطف الأنفاس على بعد ٢٠ دقيقة من مدينة القدس".
ويشير "سفراوي" إلى اشتهار هذه المنطقة لآلاف السنين بزراعة اللوزيات وأشجار التفاح والزيتون"، كما ينصح زواره ألا يفوتوا على أنفسهم فرصة زيارة القرية إذ يوجد فيها العديد من المسارات التي يُمكن ممارسة المشي واستكشاف الجبال فيها، وكذلك بالإمكان السباحة في البرك المائية هناك، وهو ما يجعل زيارة "صطاف" من "أفضل الأنشطة التي يمكن ممارستها في القدس" بحسب الموقع.

سلواد أم القُطّين

من صطاف إلى سلواد، في قضاء رام الله، وهي أكثر الأقضية إنتاجًا للتين في فلسطين، فالكثير من قرى رام الله مثل بيرزيت والمزرعة القبلية وبيتلو والمزرعة الشرقية ورمون اشتهرت بزراعة التين.
لكن سلواد كانت الأكثر حضورًا، فقد بلغت مساحة الأراضي المزروعة بالتين عام 1987 حوالي 4340 دونمًا ولهذا حظيت بلقب "سلواد أم القطّين"، والقطين وهو من أشهر المنتجات الزراعية الريفية في فلسطين تاريخًا؛ بَيد أن صناعته تلاشت بالأخص مع الاعتماد على القطين المستورد من تركيا تحديدًا، وهو ما أضر بهذه الصناعة، حتى صارت نادرة بل ومهددة بالزوال، فاليوم لا يعمل فيها إلا ثلة قليلة كما تشير التقارير.

عندما نتحدث عن القُطين، لا بُد أن نذكر بأن هناك أصنافًا مُحددة يُصنع منها، وهناك أصناف لا تصلح لذلك.
وأشهر الأصناف الملائمة لهذه الصناعة هي الخروبي الذي تتميز ثماره بقشرة سميكة، خروبية اللون، ومتوسطة الحلاوة، ويمتاز بالإثمار المبكر وقد يثمر في عمر لا يتعدى ثلاث سنوات، ومنه يُنتج أفضل القطّين.
وأخبرنا أبو إبراهيم السلوادي الذي يُلقب في سوق الفلاحين بــ "خبير التين" عن صناعة "التشعاميس" من التين الخرطماني، قائلًا: "هي من ألّذ ما يؤكل في الشتاء بعد غمسها بالطحين وزيت الزيتون".

قرى كثيرة أخرى في رام الله، عُرفت بتينها المميز، مثل التين السوادي في سُردا وبيتونيا التي كانت تنتج في الأربعينيات أكثر من خمسمائة قنطار قطين سنويًا، وكذلك قرية بيتين التي انبهر أعضاء صندوق استكشاف فلسطين عام 1882 بمشهد تينها الأخضر وصخورها وأراضيها المحروثة فوصفوا المشهد بأنه "مُلفت جدًا" (very striking).

بسطة تين على مفترق حوارة عرفها "صاحب الأرض"

نغادر رام الله إلى نابلس، ومحطتنا الأولى عند مستوطنة يتسهار الصهيونية والتين المسروق، فقبل بضعة أعوام نشرت مواقع إخبارية فلسطينية خبرًا عن مجموعة من المستوطنين فتحوا "بسطة" تين منهوب من أراضي فلسطينية على مفترق حوارة.
أحد التصريحات التي صدرت يومها لم تكن من السلطة الفلسطينية بل من فلاح فلسطيني يُدعى إبراهيم مخلوف قال لموقع ألترا فلسطين: "هؤلاء المستوطنون يبيعون التين، وما هو واضح في الصورة ثلاثة أنواع من التين، تين سوادي وتين بياضي، اللذان التقطهما المستوطنون من أرض أبي مثقال، بينما التين العناقي فهو من أرض والدي".

المثير في هذا التصريح، هو قدرة هذا الفلاح على التمييز بين الأصناف (عن بُعد) وهي مسألة لا يقدر عليها إلا صاحب أرض ومن عاش مع التين لحظة بلحظة.

ولو سُئل المستوطنون "اللصوص" عن "بضاعتهم" لما عرفوا غالبًا ما يقصد بهذه المسميات التي يعرفها أصحاب البلاد الأصليين.

ولعل مثل هذا الموقف يؤكد ضرورة العناية بهذه المعرفة بالأصناف والمسميات كما الخبرات الزراعية في مجال التين، وهي خلاصة آلاف التجارب التي تراكمت منذ أن عرف الفلاح الفلسطيني التين قبل حوالي  6500 عام، وهذا ما تؤكده البحوث الأثرية التي أجريت على تسع حبات تين متفحمات عُثر عليها عام 2006 في قرية جلجال في الأغوار.

إمبراطورية التين العناقي "تِل"

في تِل، يُعد التين من أهم الموارد الاقتصادية للقرية، حتى أنه صار يُسوّق باسمها علامة تجارية عالمية (Tell)، وتمامًا كما نقصد بالبرتقال الشموطي عند الحديث عن برتقال يافا فإننا نتحدث عن التين العناقي عند الحديث عن تين تِل، وهو صنف مميز و"نادر" يتركز انتشاره في منطقة نابلس وقرية تِل تحديدًا.

وبحسب المهندس الزراعي نور الدين إشتية، فإنه يُقدّر بأن نسبة تتفاوت من 70% إلى 80% من أشجار التين في تِل هي من التين العناقي، وهي من الأصناف المتأخرة التي يبدأ قطافها بعد منتصف آب، ويتميز بعنق طويل نسبيًا بين الحبة والساق ولهذا يُسمى عناقي، ومما يميزه كذلك حلاوته وكُبر حجم الثمرة.

سابقًا، كانت قرية تل تصدّر 15 طن من التين يوميًا في الموسم، وهو ما شكل موردًا اقتصاديًا مميزًا إلا أن التمدد العمراني والتضييقات الإسرائيلية على تسويق التين منذ عام 2016، أضرَّ هذا القطاع إلى حد كبير بالأخص بعد منع تصديره إلى الأراضي المحتلة عام 1948، واليوم يُقدّر حجم الإنتاج لما يقرب من ( 2- 3 طن ) يومياً فقط، حتى المحاولات الكثيرة التي كانت تُبذل للنهوض بهذا القطاع مثل مهرجان التين توقفت هي الأخرى يا للأسف.

موانئ طولكرم.. وتصدير التين إلى مصر!

الحقيقة أن إنتاج التين لم يتضرر في قرية تل فحسب، ففي قرية رامين، وهي أشهر بلاد قضاء طولكرم زراعة للتين في يومنا هذا، لم يعد موسمه كما كان سابقًا، وقد كانت هناك محاولات لتسليط الضوء على إنتاجه في القرية بمهرجان خاص للتين أُقيم عام 2009، ولكن يا للأسف لم يستمر، بسبب غياب إستراتيجيات خاصة لتسويق التين، أو على الأقل دعم صناعة القطّين في القرية ودعمه منتجًا بلديًا عوضًا عن التين التركي.

عندما نُفتش في صفحات تاريخ قرى طولكرم، نجد أن بلدة "طيبة بني صعب" في الأراضي المحتلة عام 1948 كانت تزرع التين بأصنافه، وكان أهلها يعشقون التين الخضاري خصوصاً فيقولون "الخضاري سلطان التين"، ونجد أنها كانت تزرع أصنافًا أخرى عديدة مثل الفلنطاعي والقراعي والمدني التي أصبحت من صفحات التاريخ، تمامًا مثل الوثائق التي يذكرها الباحث صدقي عبدالقادر في كتابه "الطيبة بنت كنعان"، فيذكر أن هناك وثيقة وُجدت في جمارك ميناء البولاقية (إحدى موانئ الطيبة)  تشهد بتصدير 71 قنطارًا من التين من هذا الميناء إلى مصر وذلك في عام ( 1775-1776م).

وبالبحث في المراجع نجد صحيفة الدفاع الفلسطينية تتحدث في عددها الصادر يوم 28 أيلول 1941 بعنوان "رسالة حيفا التلفونية: إرسال كميات من التين إلى مصر"، جاء فيها أنه جُفّفت كميات كبيرة من التين وقد لُفّت في أوراق لامعة لإرسالها إلى مصر والبلاد المجاورة، ويبدو أن تحسين صناعة هذا الصنف تزداد يومًا بعد يوم، وقد أقبل المزارعون على زراعة كميات كثيرة من شجر التين.

المؤسف، أن نجد بعد كُل هذه السنين، أن النكبة لم تقتصر على الإنسان والبُنيان فقط، بل حتى أشجار التين التي تُحاصر ولا تجد من يُعنى بتسويقها بعد أن كانت تصل من فلسطين إلى مصر، بينما اليوم لا يُمكن نقلها من نابلس إلى يافا ومن رام الله إلى الرملة، إلا بشقّ الأنفس.

تين الجليل

التجوال بين الكُتب والأوراق بحثًا عن أخباره وحكايته، هي وسيلة لتسليط الضوء على شيء من "عالم التين". كان التين واحدًا من أهم مواردها الاقتصادية، بينما اليوم يُهمل إهمالاً شنيعًا، وأسوأ ما في الأمر أننا نتحدث عن كُل هذا في أرض التين والزيتون.

من لم يتأمل ما كَتب الرحالة عن بلادنا في آخر ألف عام، قد لا يُدرك أهمية التين، فقد انبهر معظمهم بنموه في البيئات الصخرية الصعبة، والتي يصعب أن ينمو فيها شيء، ولكن التين كان يقاوم كُل الظروف لينمو، ويعطي "عسلًا" !
أحد الرحالة الذين زاروا بلادنا قبل 700 عام تقريبًا، يُدعى العثماني، ذكر في كتاب "تاريخ صفد" بأن أفضل التين كان في منطقة عكا، وفيها كانت هناك عدّة قرى اشتهرت بزراعة التين مثل قرية البصّة المهجرة وكذلك قرية البقيعة التي كان يُضرب فيها المثل بحلاوته "أحلى من تين البقيعة" وكذلك قرية مجد الكروم، ولكن إنتاج التين تراجع إلى حدٍ كبير فيها وأصبحت كرومه فيها نادرة.
أما منطقة صفد، فما زالت تحافظ على شيء من عزّ تينها، بالأخص عندما نتحدث عن قرية الجِش التي اشتهرت بصناعة القطّين، فحتى الأربعينيات من القرن الماضي كان التين هو المحصول الثالث من حيث الأهمية في القرية بعد التبغ والحنطة.
وكان القطّين المنتج من صنف "بياضي" مصدرًا اقتصاديًا مهمًا للقرية، وقد تناقلوا هذه الصناعة جيلًا بعد جيل، وكانت لهم طرقهم الخاصة التي تميّزهم، وإضافة إلى القطين فقد برعوا في إنتاج "دبس التين" الذي يباع في القرية.
في قضاء صفد أيضًا، ازدهرت في قرية كفر برعم "المهجّرة" صناعة القطّين.

وبحسب المؤرخ مصطفى كبها فقد اعتاش سكان القرية في الماضي من الزراعة وتربية المواشي، حيث بلغ المعدل السنوي لإنتاج زيت الزيتون 600 جرة زيت، في حين بلغ إنتاج التين (الطازج والمجفف) 35 قنطاراً، والعنب 25 قنطاراً، هذا فضلاً عن بساتين فواكه أخرى أنتجت ستة قناطير من الفاكهة.

قرية الجاعونة المُهجرة والمجاورة كانت هي الأخرى تعتمد اعتمادًا كبيرًا على التين والزيتون في اقتصادها، فتذكر المصادر بأنه في أواخر القرن التاسع عشر، كانت الجاعونة عبارة عن قرية مبنية بالحجارة، وكان عدد سكانها يتفاوت من 140 إلى 200 نسمة يعملون في زراعة التين والزيتون.

وفي ورقة بحثية حول "تاريخ التين في الأرض المقدسة" نُشرت عام 1965، ورد بأن أكثر التين الموجود في الأراضي المحتلة عام 1948 يتركز في مناطق الجليل الغربي (قضاء صفد تاريخيًا).
ومعظم هذا التين ينقسم إلى خمسة أصناف، 40% من صنف "صفاري"، 20% من صنف "بياضي"، 10% صنف "خروبي"، 15% من صنف "سوادي" و 10% من صنف خرطماني.

ومن الجدير بالذكر أن الأصناف "صفاري وبياضي وخروبي" هي أصناف ملائمة للتجفيف وصناعة القطّين، بينما صنف خرطماني هو أكثر الأصناف شيوعًا في فلسطين بل ويُعد من أفضلها للتناول طازجًا.

ختامًا، اليوم دخلت على زراعة التين أصناف كثيرة حديثة، مثل الصنف الذي يُدعى "برازيلي" وأُدخل إلى منطقة الأغوار حديثًا منذ عام 2000، كما أن هناك صنف "ناصري" (نتسراتي بالعبرية) أُدخل إلى فلسطين بواسطة رُهبان جاءوا من إيطاليا إلى دير القبيبة، ومن هناك انتشر في معظم أنحاء فلسطين.

ولا تزال الأصناف المعروفة بأنها محسنّة، تدخل وتحل محل الأصناف الأصلية المتوارثة والتي صارت عرضة لخطر الاندثار بعد أن صمدت آلاف السنين أمام ظروف طبيعة بلادنا القاسية، تمامًا كما أُهملت زراعة التين بعد أن كانت أهم الموارد الغذائية والاقتصادية مُنذ حوالي 6500 عام!

حكاية التين في فلسطين غنية بالتفاصيل التي اندثرت أو تكاد، كـ"التين الفائق" الذي وجده "الرحالة المقدسي" في قرية يبنا المُهجرّة قضاء الرملة، ومثلها حكاية التين الصحراوي "الجميز" الذي وجده في عسقلان وبه تميزت غزة أيضًا.
ومما يثير في حكايا التين حكاية بستان التين في قرية صطاف المهجرة التي يُفاخر الصهاينة بحفظ أصناف تينها بعد طرد أهلها منها، وتين سلواد وصناعة القطّين المهددة بالزوال بعد أن كان يُشار إليها بالبنان.

وليس أعجب من هذا إلا حكاية بيع المستوطنين للتين المنهوب عند مفترق حوارة، وصراع التين العناقي في قرية تل من أجل البقاء.
وحكايا تصدير التين من طولكرم إلى مصر، ثم أخيرًا حكايا ما تبقى من حلاوة تين البقيعة ومجد الكروم قضاء عكا وحكايات "اقتصاد القطّين" على أطراف جبل كنعان عند قريتيّ كفر برعم والجاعونة قضاء صفد، وكيف صمدت هذه الصناعة في قرية الجِش في أقصى شمال فلسطين.

كُلها حكايات تُلخص قصّة فلسطين بواحدة من ألذ وأجمل فاكهتها- التين!

 

خاص بأفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير