الدكتور محمود الفطافطة... المفكر الذي لا يعرف الهدوء

24.06.2022 12:57 PM

 كتب د. محمود الفروخ : حياته بين الكتاب والكتابة والناس، يقرأ ليناقش، يكتب ليوقظ، يُدرب ليخلق نماذج وقدوات، يُدرس ليصنع رواد ومؤثرين، يتنفل بين خرائط العالم لينهل من التجارب والمعارف. غرف الزمن من عمره أربعة وأربعين عاماً ليغرس هو في بيدره بذوراً شتى من المعرفة والإبداع... لم يكتف بميدان الصحافة صائداً للأخبار وكاشفاً لما أراد البعض إخفائه أو افنائه، بل طار بعيداً في فضاءات العلم والفكر وتخليق كل ما هو جديد. كتب الشعر فأجاد في تنظيمه، وخط المقال فتوسع في تنويعه وتحليله، و"أدمن" التأليف؛ ليتنوع في موضوعاته، واقتحم التدريب فأتقن في حقوله، وأبحر في التدريس الجامعي؛ ليغدو بارعاً في إثراء النقاش وتثوير العقول.

هذا الوصف هو الذي يليق، بجدارةٍ واقتدار، بموصوفٍ يُعتبر، بحق، أحد أكثر من أهدى للمكتبة الفلسطينية والعربية مؤلفات وبحوثاً مقارنة بعمره، إذ أنه دوام على غزارة التأليف مذ أن كان عمره سبعة عشرة عاماً؛ ليمنحنا أكثر من 42 كتاباً، إلى جانب أكثر من أربعين دراسة، عددٍ وفير منها تستند إلى معايير المنهجية العلمية الرصينة والمتقنة.

إن المقصود من الوصف هو الكاتب والباحث والإعلامي والأكاديمي الدكتور محمود الفطافطة الذي رفض أن يكون متحوصلاً في شرنقة الأيدولوجيات، أو مردداً لصدى الساسة، أو متماهياً لنزوة المال، أو مساوماً لمواقف جُبلت من شعاع روحه. فالكتابة بالنسبة له لم تكن مجرد خيوط يصنع منها شباكاً من النصوص المزدانة بمعانٍ واضحة وأفكار مترابطة وتعابير زاهية ورؤى متماسكة، بل مثلت له رسالة يُعلي بها صوت الحق ويطمس من خلالها نداء الفتنة وشهوة الفساد ونار الفوضى.

تعرفت على دكتورنا الفطافطة منذ 25 عاماً، فلم أجده إلا مُحباً للمعرفة والعلم، إذ صادق العلم فصدَق معه، وتلبس القراءة فأغدقتْ عليه من معينها وعونِها الكثير. لم أراه، أو اسمعه يفتر أو يتضايق من مسؤولية العلم وتحمل صعابه رغم ما لاقاه من مشقة البحث ودوامه، وإعراض البعض نتيجة مواقفه وآرائه.

سألت الدكتور الفطافطة يوماً: لماذا درست الصحافة وعملت في حقولها الكثيرة، فأجاب: تعلمت الصحافة وأحببتها وعملت بها ودافعت عن قضاياها وحقوق روادها لأنها: عدسة المجتمع؛ بها يتعرف الفرد على واقعه، ومن خلالها يتفاعل مع قضاياه ويرصد مستقبله، ولأنها، كذلك، سلاح بيد كل من يتطلع للتغيير، ولأنها، أيضاً، حاجة إنسانية، ورسالة سامية، ومهنة مكرسة للصالح العام، فمن خلالها تستطيع أن تخلق تياراً وتؤسس رأياً وترشد مجتمعاً وتقود أمة وتراقب حكومة، علاوة على أنها تكشف الفساد، وتساهم في شيوع النزاهة والحكم الرشيد، فضلاً عن أنها أداة للعدل، وسيفاً مُصلتاً على الجريمة والجناة.

ويُضيف:" منحني الإعلام، دراسة وعملاً، ترياقاً استقوي به على صيد الحقائق وكشف الحقيقة التي تُذبح بين حينٍ وآخر بمقصلة المنافع الخاصة، والإيديولوجيات الهشة، والهويات الفرعية القاتلة، والرقابات المفرخة للمجاملة تارة، وللخوف تارة أخرى. باحثنا وكاتبنا الفطافطة لم يعمل بفوضى أو يتعامل بعبثيه. فحياته تقوم على احترام الوقت واستثماره، وعلمه يستند إلى معارف وتجارب علمية ومعرفية قائمة على مصادرٍ موثوقة وأُسسٍ منهجية. كيف لا وهو الذي أسس ورأس تجمع " باحثون بلا حدود" في فلسطين.. كيف لا وهو الذي ألف كتابين عن البحث العلمي ومهاراته وأخلاقياته؛ تُشكل مرجعاً أساسياً لطلبة المدارس والجامعات الفلسطينية... كيف لا وهو الذي يشق مسيرته العلمية مؤلفاً هنا، وباحثاً هناك، ومدرساً في هذه الجامعة، ومدرباً في هذا الحقل وذاك.

إن حياة الفطافطة العلمية والثقافية والفكرية تقوم على أسس ومعايير يلتزم بها، ويعمل على نشرها من خلال كتبه ودراساته ومقالاته ونصوصه وأحاديثه، فهو يرى أن أهم الصفات والخصال التي من شأنها ان تصنع اعلامياً رائداً، وكاتباً متميزاً، ومفكراً فاعلاً ومؤثراً تتمثل في مصفوفةٍ من القيم والمهارات، وهي: الانتماء، الإخلاص، والإرادة/ الفكر، التفكير، الخيال، والإبداع/ المعرفة والتشبيك/ التجربة والصبر/ الحكمة والتحكم/ التثبت واليقين/ البدائل والتفرد/ الجودة والتمدد/ التنوع والتدافع والمتابعة/ التوازن، الشمولية، والمسؤولية/ اللياقة والأناقة/ التواضع والحيادية/ الأمانة والإنسانية/ التجديد والانتظام/ النقد والارتقاء/ اليقظة والعبور.

ومن الإعلام إلى الكتابة التي يرى فيها الفطافطة نور ونار؛ نور يُضيء أبواب الحق ويشعل قناديل الحقيقة، ونار تُصلي أعداء هذا الحق وأنداد هذه الحقيقة.. عن الكتاب في عرف وحياة الفطافطة تنطلق من اعتبارها هدفاً انسانياً وعظيما لا ترفاً او تضييعا لوقتٍ، أو تحقيقاً لشهرة أو جاهاً أو وجاهة.. ومما جاء في مقال له حول الكتابة: الكتابة هي أول الاعمدة التي تأصلت عليها المواجهة، واليها استندت مقولات المنعة والتحرير والمجابهة... الكاتب الحقيقي هو الذي يُحيِي في قلوب الناس وعقولهم ذكريات العظماء أمواتاً كانوا أو أحياء.. هو الكاتب الذي لم " ينبطح" لرغوة المال، أو شهوة الكرسي، أو قبضة العسكري.. الكاتب القويم هو الذي يُعلي من الحق والحقيقة والحقائق.. الكاتب الفذّ هو الذي ينزع الباطل والبدع والفتن من قلوب الناس ووجدانهم... إنه الكاتب الذي يُحطم أصنام الظلم الهشّة، ويطارد قراصنة الموت وطحالب الأوطان وثعالب النفاق...

ومن الاعلام والكتابة إلى التأليف، فقد أسهب دكتورنا الفطافطة في حقل التأليف، حيث نجده يذكر في نصوص سيرته التي لم ينشرها بعد: حبي العميق للكتابة دفعني الى سلوك درب التأليف؛ ذلك الدرب الذي فيه سهول من الرياحين العطرة، مثلما فيه سراديب مغلفة بأبواب من القلق والأرق حيناً والاتهام والصدام أحياناً. هذا الدرب لم اغادره أبداً لأزرع فيه حقولاً من المؤلفات المتنوعة، والدراسات الهادفة، والمقالات المتداولة، والتحقيقات المؤثرة. ويتابع: في مسيرتي التأليفية الممتدة طيلة 25 عاماً خطت يدي 45 كتاباً تتوزع على حقول معرفية شتى، منها الاعلام، والسياسة، والعلاقات الدولية، والمجتمع، والفكر، والأدب، والدراسات النقدية والاسلامية.

ومن أبرز ما ألفه الفطافطة من كتب التالي: علاقة الإعلام الجديد بحرية الرأي والتعبير في فلسطين: الفيسبوك نموذجا/ 100 سؤال في البحث العلمي/ البحث العلمي من الألف إلى الياء/ اليسير في علم التفكير/ مقدمة في تاريخ الفكر السياسي العام / العلاقات الهندية ــ الإسرائيلية/ المصطلحات السياسية في القرآن الكريم / مكافحة الفساد في صدر الإسلام الأول: عمر بن الخطاب نموذجاً /الأخطاء الطبية في فلسطين ... جرائم بلا أدلة/ عشرة أيام في الجنة/ قصتي مع الغربة/ مائة سؤال في العلاقات الدولية/ الوجيز في العلاقات الدولية/ الاستعمار المائي في فلسطين/ الريادة في فلسطين ... قضايا وتجارب/ سلسلة كتب كورونا (6 كتب). هذه قسم من مؤلفاته، في حين سينشر قريباً كتاباً بعنوان الصحافة الفلسطينية في قرن، وكتاب آخر عن الشهيدة الإعلامية شيرين أبو عاقلة.

ولم يكتف الفطافطة بالعلام والكتابة والتأليف والتدريب والتدريس، بل نشط كثيراً في تأيس مؤسسات ذات علاقة بالعلم والفكر والبحث العلمي، كما انتسب الى الكثير من المؤسسات الفكرية والعلمية العربية والعالمية. فداخلياً قام بتأسيس تجمع (باحثون بلا حدود)، و(منتدى التفكير والبحث العلمي) وتجمع (اعلاميون إعلاميون من أجل الشفافية والنزاهة بالاشتراك)، وتجمع (صحافيون من أجل البيئة: بالاشتراك)، إلى جانب المشاركة في التأسيس للعديد من المؤسسات الخيرية والتنموية والاجتماعية.
أما على المستوى العربي والدولي، فهو عضو في عديد المؤسسات، منها: عضو في اتحاد الأكاديميين والعلماء العرب التابع للجامعة العربية، ودولياً عضو المعهد العالمي للتجديد العربي، وكذلك عضو في تجمع الباحث الدولي.

في كتاباته يركز الفطافطة على قيم سامية، وقواعد واضحة، إذ نراه يؤكد على أنه لا يبحث عن شيء لذاته بقدر ما يبحث عن شيء يفيد وطنه وقضيته وأمته، ويشير إلى أن الكاتب والباحث والإعلامي والمفكر يجب ألا يسلك طريق الفردية، أو يسعى إلى تحقيق الأنا، بل عليه أن يكون جماعيا ويتأسى بمفردة النحن..  عليه أن ينظر إلى عمله على أنه انعكاس للآخرين.. لا عمل مفيد إلا إذا كان هدفه الصالح العام... "لا بأس، بل ومطلوب أن تعتني بذاتك وعملك، ولكن إياك أن تنسى الآخرين" كما يقول.
الحديث عن كاتبنا ومفكرنا الفطافطة يطول، ولكن في خلاصة القول نؤكد: من أبدع ونفع سيشُار له بالبنان في حياته وسيخلد بعد موته.. من سلك طريق العلم تقرباً إلى الله ومرضاة له واحقاقاً لدينه وابطالاً لنواهيه سيجد متعة لا مثيل لها في مسيرته العلمية والمعرفية عموماً.. علينا بالعلم النافع الذي يحقق قوتنا ويضعف عدونا ويخدم ديننا ويؤسس لنا مجتمعاً صالحا قويا عادلاً خيراً، وهذه مقومات آمن بها مفكرنا الفطافطة والتزم بها وعمل على تطبيقها ونشرها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير