الاعتماد على الذات والوعي والإصرار دروس نتعلّمها من ازدهار

18.06.2022 09:23 PM

وطن- كتب: سعد داغر

"جيش جيش جيش".. صراخ الناس يعلو وينتقل الخبر سريعاً من طرف البلد إلى الطرف الأقصى، ليأخذ الناس حذرهم، ويختفي الثوار الذين يبحث عنهم جيش الاحتلال ليزّجهم في السجن أو يغتالهم، ثم يتوارون عن الأنظار في الحقول والكهوف والمخابئ المحضّرة سلفاً.

كان الأمرُ جديداً علي، أنا الذي غِبتُ ست سنوات عن بلدي للدراسة، فبدأت شرارة الانتفاضة الفلسطينية الأولى وأنا في الخارج، وحين رجعت كان الزخم الشعبي للانتفاضة يخبو نوعاً ما، وانتقل الفعل الانتفاضي إلى مجموعات الشباب الثائر، التي يلاحقها المستعمرون وأطلق الاحتلال عليهم مصطلح "المُطاردون" أو "المطلوبون"، وهكذا كان يردد الناس وما زالوا، فيما الحق أن نطلق عليهم الثوار، فـ "المطلوب" أو المُطارَد" هو شخص هارب من العدالة، تلاحقه الشرطة لتقبض عليه لتقديمه لمحاكمة على جريمة ارتكبها، بينما الثائر هو شخص يناضل من أجل تحرير الأرض من قوى الاستعمار وإحقاق العدالة لشعبه بعد كنس المستعمرين.
فطريقة استخدام اللغة تحدد الكثير من التوجهات وتبني وعياً، إما أن يكون مشوهاً يخدم أهداف الأعداء وقوى الاستعمار، أو أن يكون بَنّاءً يخدم أهداف الناس المقهورة الساعية للتحرر.

كان أحد أبنائها من بين أولئك الذين يبحث عنهم جيش المستعمر الصهيوني. جاء في اليوم الرابع أو الخامس لعودتي من الاتحاد السوفيتي عام ١٩٩١ للسلام، بعد أن طلب مني أخي المرحوم هاني الأصغر مني سناً، أن لا أنام باكراً في تلك الليلة، لأن ضيفاً خاصاً سيأتي للزيارة بعد منتصف الليل.

حاولت معرفة من سيكون، لكن أخي رفض، وعلى ما يبدو، خوفاً من أن أذكر اسم الشخص بلا قصد أمام آخرين، فينتقل الخبر ليصل أعوان الاحتلال، وقال: "فقط لا تنم، فالضيف سيأتي بعد الواحدة والنصف ليلاً".

فحضر نضال وبقينا نتحدث حتى ساعات الفجر الأولى قبل أن يعود للتخفي ويخرج من "الحواكير" وليس من الباب الرئيس.
تناقشنا في مواضيع متنوعة، عن الثورة والانتفاضة وصداها في الخارج، عن الدراسة والاتحاد السوفيتي ومؤشرات السقوط، التي بدأت تظهر عن الزراعة وأهميتها في بناء حالة من الاعتماد على الذات، عن الحرب والعدوان الأميركي الأول على العراق، عن فتح والحزب الشيوعي، ولماذا لا يتبنى الشيوعيون في هذه المرحلة العمل المسلح، عن بعض الفساد هنا وهناك وأشياء كثيرة أخرى.

مشروعنا الأول ونهج المقاطعة

أخوه أحمد يكبرني بنحو خمس سنوات، أصبحنا نلتقي كثيراً، وفي أحد الأيام في نهاية عام ١٩٩٢ عرضَ علي قائلًا: "ما رأيك أن نؤسس مشروعاً زراعياً مشتركاً؟ مثلاً أن نبدأ أولاً ببيت بلاستيكي نزرعه ليساعدنا في الحصول على دخل نحسّن بواسطته ظروف حياتنا".

عقدنا العزم وأنشأنا المشروع، كنا نعمل بلا كلل في الأرض، وحين يحل الليل نجلس في الأرض، نتحدث، نخطط للمستقبل المشترك، نناقش قضايا الغذاء وأهمية الاعتماد على الذات ومقاطعة منتجات الاحتلال، وهذا ما فعلناه، وبعدها اُستهزأ بنا وبدعوتنا، ووُصفنا حينها بالمجانين، لأننا تبنّينا المقاطعة في ذلك الوقت، إذ لم يكن من أحد يفكر في هذا النهج، خاصة وأن المحادثات السياسية بين المستعمر الصهيوني ومنظمة التحرير قد بدأت، فكان الكثيرون يرون أن لا معنى لهذه المقاطعة، في خضّم عملية سياسية ستقود إلى "السلام" وبناء الدولة "المستقلة" وسيكون هناك "تعاون" اقتصادي بيننا وبين الكيان الصهيوني، بينما كنا وما زلنا نؤمن أن المقاطعة من أهم الأسلحة في يد بسطاء الناس والشعوب المقهورة، بل هي شكل راقي غير دموي من أشكال النضال، التي يستطيع كل واحدٍ منا ممارسته، الرجل والمرأة، الشاب والشابة، العامل وربة البيت، السليم والمعاق والمُقعد، العامل والفلاح، وهي تعبير عن حالة وعي عميقة بأهمية نبذ التعامل مع كل ما له علاقة بمن يلحق الأذى بالأهل وبالشعب وأرضه، متمثلاً بالاستعمار الصهيوني في هذه الحالة.

كافحنا في العمل الزراعي، لم ندخر جهداً لنجاح المشروع، أنتجنا الخضار وبدأنا نأكل منها ونسوّق في المدينة، لكن هناك ظروف كانت أقوى منا، أو أن المرحلة لم تجعل الظروف مختمرة بما يكفي لنكمل العمل، فلم يستمر مشروعنا الزراعي الأول ومحاولتنا الأولى للبدء في الاعتماد على الذات، ووقتئذ توقف مشروع البيت البلاستيكي.
انتقلنا للعمل في النحل، فبدأ أحمد والمرحوم والدي يتدربان على تربية النحل، ليبدأ كل منهما مشروع نحل خاص به، بدأ بخمس خلايا نحل لكل منهما، لكن كان العمل مشتركاً ونساعد بعضنا البعض، خاصة في موسم جمع العسل، نتشارك المعلومات الجديدة ونكون سعداء في تبادل تلك المعلومات؛ في وقتٍ كانت تربية النحل عند الكثيرين في فلسطين وخارجها سراً يحاولون الاحتفاظ به لأنفسهم في تلك الحقبة.

وازداد شغفنا في العمل الزراعي وإنتاج الغذاء، المبني على فلسفة وإيمان عميقين بأن لا تحرّر حقيقي إلا بالإنتاج الذاتي للغذاء، وضرورة تقديم هذا الأنموذج في الاعتماد على الذات.

الإيمان بالفلاحة البيئية
سافر أحمد إلى بريطانيا، للحصول على درجة الماجستير في الاستشعار عن بعد وعاد بعد ذلك، وكان نضال وهشام يتابعان مشروع النحل، ثم في يوم من الأيام التقينا في مكان عملي وكأنه يريد مني تأييد موقفه بأن لا يسافر إلى الولايات المتحدة الأميركية، للحصول على درجة الدكتوراة في التخطيط الحضري، فوجد مني موقفاً معاكساً وقلت له: "ستمضي الأيام سريعاً". سافر وأكمل تعليمه وبعد قضاء أربع سنوات هناك عاد مع دكتوراة في التخطيط الحضري والبيئة.

رغم قيامه بالتدريس في جامعة بيرزيت، إلا أن الشغف والوعي والإيمان بأهمية الإنتاج الذاتي للغذاء وتشكيل حالة ملهمة للآخرين ما زالت لديه في حالة تصاعد، وقد ازداد إصراره على الاستمرار وتقديم أنموذج في الاعتماد على الذات.
تربية النحل جعلتهم أكبر منتج للعسل في الضفة الغربية، بعدد خلايا نحل يصل إلى نحو ألفي خلية، يشتغلون بها بأنفسهم ويوفرون من فرصتين إلى ثلاث فرص عمل لآخرين في هذا المشروع.

إنتاج الخضار والفواكه من الأرض المحيطة بمنازلهم بطرق طبيعية مع تخزين الفائض، هو أحد أعمدة مشروع الاعتماد على الذات لدى الدكتور أحمد النوباني، إنتاج بيئي مع كل الإيمان بأن هذا هو نمط الإنتاج الصحيح، رافعاً شعار: "أفضّل التعايش مع حشرة على الخضار على أن أتعايش مع مرض في جسدي".
لكل ذلك تجد هنا الإيمان المطلق بالفلاحة البيئية، دون الانجرار وراء موضة هنا أو هناك تدعو للزراعة المائية أو زراعة أحادية غير مستدامة.

لكن الصورة لن تكتمل إلا بالإنتاج الحيواني والبيض البلدي في "مزرعة أم أحمد"، ما دفع للبدء في مشروع أغنام لإنتاج اللحوم والحليب ومشتقاته، ثم تربية الدجاج لإنتاج البيض البلدي، مع توفير فرصة عمل جديدة لأحد أبناء القرية، ويستمر الدكتور في ترديد قوله لي: "ممنوع أن نفشل في عملنا الزراعي، نجاح نموذجنا سيكون ملهماً للكثيرين"، وأنا أردد: "أمامنا فقط النجاح"، ولعل مزرعة التلال ومزرعة خلة العين وغيرها نماذج حذت حذونا في محيطنا القريب، وغيرها أكثر في محيطنا الأبعد، مزارع تنتهج فلسفة الفلاحة البيئية بكل إيمان.

غذاء للعائلة والثوار
كان الأب عاملاً بسيطاً، هادئاً محباً، بالكاد يأتي بما يسد الرمق، والعائلة كبيرة يقترب عدد أفرادها من العشرة، كلهم في المدارس والجامعات، فيما الأم "ازدهار" تجمع التراب من أرض "المراقيق"، فالأرض في معظمها صخرية تحوي تربة ضحلة لا تصلح للزراعة، فما كان من ازدهار إلا أن تفكر بتجميع التراب من على الصخور، لتصنع جزرًا من الأرض مع تراب أعمق وتترك باقي الأرض الصخرية.
زرعت البطاطا والبصل، الثوم والفول، القمح والعدس، الحمص والبندورة البلدية الأصلية، خزّنت الحبوب والبصل والثوم وجفّفت البندورة، اشترت رأساً من أنثى الغنم وزاد العدد عندها، أنتجت الحليب وصنعت اللبن والجبن، لتطعم أفواهاً جائعة للعلم والوطنية، مثل الكثير من أمهات فلسطين.

كبر أحمد، الابن البكر ونجح في الثانوية، ليبدأ دراسة الأحياء في جامعة بير زيت، لكنه لم يكمل فيها، لينتقل للأردن ويقضي أشهراً طويلة لم تكن سهلة عليه، فالروح الوطنية تجعل صاحبها يدفع أثماناً ربما لم تكن في الحسبان، ليلتقي بصديق المدرسة ابن صفه وبلده سعيد، الذي كان يدرس هناك الجيولوجيا. ثم انتقل أحمد إلى تركيا وبدأ دراسة الجيولوجيا في إحدى جامعاتها.
بالكاد كانت ازدهار توفر الأقساط لابنها أحمد مما توفره من عمل الأب، فكان الإنتاج من حديقة البيت سطحية التربة، الغنية بحب راعيتها، ككل أمهاتنا في الحقبة السابقة حين كنا فقراء مال أغنياء بعلاقاتنا ببعض وبالأرض والطبيعة، عندما كان الفقر كرامة، كان الإنتاج يوفر الكثير من الغذاء للعائلة، ويوفر عليها المال الذي ينفقه الناس لشراء ما يطعمهم، الحديقة والأرض وما يُربى من حيوانات وطيور كانت تعوّض نقص المال.

فصل الربيع كان لها منقذاً، تجمع الحشائش، تجفّفها، تخزنها لتطعم الأغنام حين يقل الغذاء، تحصد ما تزرع من محاصيل وتندلع انتفاضة الفلسطينيين عام ١٩٨٧، فينخرط الأبناء بها كما انخرط معظم الشعب، ليجد نضال نفسه في الجبال يختفي في الكهوف عن أعين الجيش الصهيوني ويبقى كذلك ليقضي أطول فترة بين كل من يبحث عنهم جيش الاحتلال في تلك الانتفاضة، حتى وقع في الأسر بعد خمس سنوات جبلية.

في تلك السنين، كان يجتمع سراً عشرات المناضلين "الجوعى" الذين يسعى جيش الاحتلال لاعتقالهم أو اغتيالهم في بيت أم أحمد "ازدهار"، التي عليها مسؤولية ليس فقط إخفاؤهم وحراستهم، بل المهمة الأصعب توفير الطعام لهم من هذا البيت الفقير بالمال، المليء بالعز.

عدة رؤوس من الغنم، بضع دجاجات تجوب الأرض المحيطة بالمنزل، جزر من التراب في الأرض الصخرية بعد جمع تربة "المراكيك/المراقيق" أي الأرض رقيقة التربة غير العميقة وغير الصالحة للزراعة، تجمعها في أماكن لصناعة جزر بتربة أعمق صالحة للزراعة- كل هذا سدَّ الجوع، أطعم الثوار وصقل وعيًا جديدًا.

المخللات مما تنتجه الأرض، واللوز والعنب والزبيب والقطين الذي يُخزّن في بيت المونة، البيض والحليب واللبن والجبن، كل ذلك كان يشكل غذاءً للعائلة والثوار الذي يلجأون إليه حين يجوعون، وقبل كل ذلك كان يشكل مادةً للتفكير والتفكر وخلق الأمل ثم العمل، فكان المشروع المشترك لإنشاء بيت البلاستيك، ثم الانتقال إلى النحل وإنتاج العسل وما تلاه مما ذُكر سابقاً.

الفلاحة منهج حياة
عمل الاحتلال بكل خبث على ضرب قيمة التعليم، لخلق جيل جاهل، وما زالت جهات التمويل تعمل بكل جهد لتفريغ منهاج دراسي مفرغ أصلاً، وتحول الطلاب بقسم كبير منهم إلى العمل المأجور وفي ورش المحتلين، وترك الناس العمل الزراعي، لتكتمل دائرة التآمر بضرب قيمة الإنتاج الزراعي، ففقدنا القدرة على الإنتاج الذاتي للغذاء، التي كان يمتلكها الآباء والأجداد في السابق، وكما كانت تنتج ازدهار وكل أمهاتنا، فلم يكن هناك بداً إلا بالعمل لبثّ وبعث روح العمل الزراعي من جديد بأبعاده الإنتاجية، الوطنية، والفكرية، والروحية والتعاونية المبنية على مبدأ "كل حسب طاقته ولكلٍ حسب حاجته"، لتنشأ تعاونية "أم أحمد رفعت"، وهكذا أعاد أبناء ازدهار الرونق لما قد بدأته هي وبزخم أكبر.

أحمد، الدكتور في جامعة بيرزيت، تأخر أحياناً عن طلابه، لأنه كان يساعد نعجة على الولادة فيضحك بعض الطلاب كأن ذلك عملًا يدعو للاستغراب والاستهزاء، سخر منه زملاؤه المدرّسون ولاموه، لأنه "يتعب جسده وفكره" بالزراعة، لكن الوقت يتغير وتتغير معه الظروف، ليدرك هؤلاء أن من يتسلح بهذا الفكر وفلسفة الحياة هذه ويمارسها واقعاً حياً، هو الأقدر على البقاء والصمود، وهو من يمتلك مرونة كافية لمواجهة الأزمات المتلاحقة.

فقبل سنوات من أزمة كورونا، ذكرت أنه سيأتي يوم تكون فيه أزمة الغذاء، التي ضربت العالم سنة ٢٠٠٨ مزحة مقارنةً بالقادم، وذكرت أن أبناء الفلاحين في الريف سيبكون دماً في يومٍ من الأيام، لبيعهم ما خلّفه لهم الآباء والأجداد من أرض كانت تطعمهم.
وما شهده العالم في أزمة كورونا من ارتفاع في الأسعار ونقص في الغذاء واضطراب في حركة نقل الغذاء في العالم، سيكون المزحة الكبرى مقارنةً بما هو آت، لكن سينجو من عاش بوعي وإصرار ما خَلَّفَتهُ "ازدهار" واحتذى بما يفعله أبناؤها وابنها الدكتور الخارج من منطقة الراحة التي يعيش أكثر الناس فيها، متقوقعين في قوقعة أوهام خلقها التشويه في الوعي، الذي بدأ مع السنين الأولى للاستعمار الصهيوني ويستمر هذا التشويه بوسائل مختلفة حتى اليوم.

سيكون القادر على مواجهة القادم من الظروف، ليس من يمتلك المال لشراء الغذاء، بل من هو قادر على الإنتاج الذاتي للطعام، من يمتلك الأرض ويتسلّح بالمعرفة ويشحذ إرادته لينتج قمحه وخضاره وأعلاف ماشيته.
لقد كتبت قبل ثلاثين عاماً مقالاً بعنوان "الملجأ وقت الأزمات"، انتقدت فيه عودتنا للأرض وزراعتها فقط حين تنشأ أزمة سياسية، وكأن الزراعة هي ملجأ لنا عندما تنشأ أزمة فقط، ذلك أن الناس وفي الحرب الأميركية-الغربية على العراق عام ١٩٩١ عادوا للاهتمام بالأرض وزراعتها، لكن ما أن عادت الأمور واستقرت، حتى ترك الناس ما زرعوه وعادوا للعمل المأجور، فكانت الصرخة في ذلك المقال طلباً أن لا تكون الزراعة ملجأً وقت الأزمات فقط، نحن بحاجة لتكريس الفلاحة منهجَ حياة ولن يصلح شعار أن "الزراعة هي الملجأ وقت الأزمات"، بل الشعار الأصلح هو "الفلاحة لكل الأوقات".

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير