هل نجحت تجربة "التعلم عن بُعد" في فلسطين خلال جائحة كورونا؟

10.06.2022 11:33 PM

 كتب د. محمود الفطافطة : بداية، أود التأكيد على أن مسألة التعليم عموماً، والتعلم عن بعد، أو التعليم الالكتروني، سواءً أكان المدرسي منه أو الجامعي، تم تناوله، عربياً وعالمياً، على نطاقٍ واسع جداً، مثله القطاعين الصحي والاقتصادي؛ تلك القطاعات الثلاثة التي كان، ولا زال، لها من الأسباب، والأبعاد والآثار الواسعة على مجمل مكونات الحياة المادية والبشرية على مستوى العالم بأسره خلال جائحة كورونا، تلك الجائحة التي خمدت نارها، وإن بقي شيئاً من رمادها، دون أن تخمد تأثيراتها وأضرارها، لا سيما المتعلقة بالمجال التعليمي.

إن المجال التعليمي قد يكون الأكثر تضرراً جراء هذه الجائحة، لا سيما في المجتمعات الفقيرة أو النامية؛ ذلك أن البديل المتاح للتعليم الوجاهي وهو التعلم الذاتي، او التعلم الالكتروني أو عن بعد، لم تكن تلك الدول وحكوماتها على استعداد تام لمواجهة متطلباته وشروطه نظراً لعنصري المفاجأة والانتشار السريع للجائحة.
• في فلسطين، لم تكن الحالة مختلفة عن معظم الدول العربية بخصوص ظرفية التعلم الذاتي خلال الجائحة، إذ أن الإمكانيات الفنية، والكوادر البشرية المؤهلة للتعامل مع النموذج التعليمي الجديد (التعلم الذاتي) لم تكن بالمستوى المنشود.  هذا المشهد يزداد صعوبة وسوءاً في الحالة الفلسطينية التي تتعرض مدارسها إلى سلسلة واسعة من انتهاكات الاحتلال، بدءاً بالإغلاق، مروراً بالاعتداء على طلبتها وهيئتيها التعليمية والإدارية التي راح منهم شهداء وأسرى وجرحى الكثير، وصولاً إلى هدم العديد من المدارس، وآخرها مدرسة في مدينة يطا بمحافظة مدينة خليل الرحمن.
• إن جائحة كورونا لم تكن هي الظرف الأول الذي تضطر فيه المؤسسات التعليمية الفلسطينية لإغلاق أبوابها أمام الطلبة وفي المستويات الدراسية كلها، ففي فلسطين تحديدا اضطرت المؤسسات التعليمية إلى إغلاق أبوابها كثيراً بفعل الاحتلال، ومشهد الاجتياحات لا يزال ماثلا في الذاكرة.
• واقع الاحتلال الإسرائيلي الذي يعيشه الشعب الفلسطيني منذ عقود، وسياساته المستمرة في تجهيل الشعب الفلسطيني، وإغلاق المؤسسات التعليمية، كان له الأثر السلبي على العملية التعليمية وجعلها في وضع طارئ على الدوام، وجعلها في حالة بحث دائم عن البدائل لاستمرار العملية التعليمية.
• لم يكن مفهوم التعليم الإلكتروني أثناء جائحة كورونا مفهوماً جديداً على العملية التعليمية في فلسطين، حيث أدرج مشروع التعلم الإلكتروني ضمن إطار عمل الخطة الاستراتيجية لتطوير التعليم للأعوام 2008 - 2012، وفي العام 2016، أطلقت وزارة التربية والتعليم برنامج رقمنة التعليم.
• فازت فلسطين بالمركز الأول وجائزة D4D في تطوير التعليم الإلكتروني في إطار المشاريع المنفذة دوليّاً للتعاون البلجيكي مع الدول النامية.
• اتخذت فلسطين، وكغيرها من دول العالم، العديد من الإجراءات الاستباقية للحيلولة دون انتشار فيروس كورونا. من ضمن هذه الإجراءات، أوقفت عملية التعليم الوجاهي بكافة مرافقها، من جامعات ومدارس ورياض أطفال، ولكنها في ذات الوقت، التزمت باستمرار العملية التعليمية باستخدام وسائط التكنولوجيا لتقديم التعليم عن بُعد.
• أثارت تجربة التعليم عن بعد الكثير من النقاش في فلسطين. وعلى الرغم من احتدام الجدل الذي كشف عن تخبط في الرؤى، يمكن حصر الآراء في طرفين: طرف يدفع باتجاه تبني هذا الأسلوب ممثلاً بالمختصين في التقنيات والحاسوب، الذين يدافعون عنه بقوة وحماس، مستندين إلى الأثر الملموس لثورة المعلوماتية، التي تفجرت في ظل التطور المتسارع في التكنولوجيا الرقمية، على تفاصيل حياتنا اليومية بما فيها طرق تواصلنا وتعلمنا وتفكيرنا. وهم يؤمنون بأن توظيف هذا النوع من التعليم، بطريقة متكاملة وشاملة، هو أمر حتمي لا بد من تبنيه بشكل واسع في المستقبل.
• أما الطرف الثاني، فهو ممثل بكثير من المختصين التربويين وعلماء الاجتماع والإنسانيات، والذين طالبوا بضرورة إجراء الدراسات وتحليلات البيئة، بما فيها الثوابت والمتغيرات، قبل أخذ القرارات حول جدوى تبني أسلوب التعليم عن بعد ومدى توظيفه وكيفية استخدامه.
• للفريق الثاني عديد الملاحظات، منها أن التعلم الذاتي يُواجه مشكلتين؛ الأولى يتمثل في كون بعض المتعلمين غير متمكنين من الكفايات الأساسية التي تساعد على فهم المقروء واستيعابه والثانية تتجلى في الافتقار إلى توفر عُدة معرفية مهيأة لهذه المسألة لدى المؤسسات التعليمية، من قبيل الكُتب المناسبة لكل مستوى تعليمي، وما إلى ذلك من  عوائق تمثلت في ارتفاع تكلفه اشتراك الإنترنت على الأسر، وتكرار حدوث الأعطال الفنية، والانشغال بالحاسوب وعدم التركيز على الدروس،  وأن هذا التعليم يهمل الأنشطة الاجتماعية والترفيهية بين المتعلمين، ويفتقر إلى التفاعل والاتصال بين المتعلمين بعضهم البعض وبين المعلمين والطلاب، وسواها من عوائق وسلبيات.
• انطلقت وزارة التربية والتعليم الفلسطينية في عملها بخصوص التعليم الالكتروني عبر خطة تلخصت في التالي:
. 1البروتوكول الصحي للتعليم وفتح المدارس إلى جانب استكمال البنية التحتية للتعليم عن بعد.
. 2التدرج في فتح المدارس: صفوف التوجيهي و) الأول - الرابع الأساسي (، وبعد 14 يوماً باقي الصفوف المدرسية.
. 3الدمج بين التعليم الوجاهي والتعليم عن بعد بأشكاله المتنوعة (التعليم المدمج).
. 4خضوع الخطة للتقييم المتواصل حسب الحالة الوبائية في فلسطين.
• أعلنت الوزارة أن التعليم النظامي الوجاهي هو النهج الرسمي للتعليم المدرسي، وأن الهدف من التعليم عن بُعد في تلك المرحلة لن يكون تغطية لما تبقى من المقررات المدرسية بشكل منهجي، وستقوم الوزارة باتخاذ ترتيبات فعالة لاستيعاب تلك المواد في إطار التعليم النظامي عندما تعيد المدارس فتح أبوابها، حتى لو كان ذلك في بداية العام الدراسي المقبل، وبأن هدفها من التعليم عن بُعد في حينه سيقتصر على إبقاء الطلبة على اتصال وتماس مع معلميهم ومع العملية التعليمية، وأهداف تربوية أخرى.
• أوضح وزير التربية والتعليم أنه يجري تجريب نماذج مختلفة من التعليم عن بُعد، وبالتالي، لا نستطيع أن نأخذ قراراً حول النموذج الأسلم لفلسطين. نحن الآن في مخاض غني وعميق لاستلهام التجربة وتوثيقها وتحليلها من أجل الخروج بنموذج نستعين به في المستقبل بإذن الله.
• تم إطلاق برنامج ثانوية أون لاين، وهو عبارة عن دروس مصورة تم بثها عبر الشاشات المتلفزة وموقع وزارة التربية والتعليم الإلكتروني، وقام العديد من المعلمين والمدارس أيضاً بمبادرات ذاتية لتكوين مجتمعات تعليمية افتراضية مع طلبتهم، بما فيها قنوات اليوتيوب، وشجعت الوزارة معلمي الثانوية العامة على توسيع وتطوير تلك المبادرات.
• يرى بعض المراقبين أن وزارة التربية والتعليم تأخرت في تبني سياسة واضحة في التعامل مع حالة الطوارئ، حيث بدأت حالة التعليم عن بُعد بمبادرات ذاتية من المعلمين، ودون تنسيق شامل.
• لم تعمل الوزارة على توفير خطة بديلة للتعليم الوجاهي فور إعلان حالة الطوارئ وإغلاق المدارس، وأدى تأخرها في إعلان إجراءاتها إلى إدخال أطراف العملية التعليمية في حالة من الإرباك والمبادرات الفردية، وقامت الوزارة بإنهاء العام الدراسي 2019 / 2020 دون استكمال المنهاج المقرر، وبسبب تصاعد الحالة الوبائية في فلسطين، لم تتمكن الوزارة من تعويض الطاب ما فاتهم من المقررات.
• واجه كثير من المعلمين عقبات متعددة، كضعف الخبرة في التعليم الإلكتروني، وضعف البنية التحتية المتعلقة بهذا الشكل من التعليم، بالإضافة إلى قلة إقبال الطلبة، على هذا الشكل.  كما أن عدم توفر الإنترنت أو الأجهزة الذكية لعدد من الطلبة، وبالتالي عدم تمكنهم من المتابعة مع معلميهم؛ كان من أهم العوائق في هذه الفترة.
• أعلنت وزارة التربية والتعليم عن تدريب الطواقم التعليمية على أدوات التعلم عن بُعد، وعن جهوزية المدارس لذلك، ولكنها لم تختبر كفاءة التدريب ونتائجه قبل افتتاح العام الدراسي، حيث كان بالإمكان عمل صفوف افتراضية لتجريب كفاءة المتدربين وقدرة الطلبة على استيعاب وتلقي المعلومات عن بُعد واختبار مدى تحمل البنى التحتية في حالة الإغلاق الشامل.
المطلوب:
1. العمل على الحد من التحديات التي تواجه المعلمين ومدراء المدارس في توظيف التعليم عن بعد، وتوفير مستلزمات توظيفه بما يضمن تحقيق الأهداف المرجوة منه.
2.  إجراء أبحاث مستقبلية للتعرف على أثر تطبيق بعض برامج وأدوات التعليم عن بعد على تحصيل الطلاب ومستوى دافعيتهم نحو التعلم.
3. إنشاء مركز لإدارة الكوارث، وتضمين مواد من الخطة الدراسية لما بعد الأزمة لتدريسها بشكل التعليم عن بعد، وتدريب الطلاب على مهارات التعلم الذاتي، تدريب المعلمين على تنويع أساليب التقويم وزيادة الاختبارات القائمة على مهارات التفكير الناقد والتحليل.
الخلاصة:
•  يجب العمل على توفير بنية تحتية متينة لدعم الأشكال الجديدة من التعليم القائمة على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، مع الحرص على تخصيص أعداد كافية من الحواسيب لغايات تعليمية، والتأكد من ربطها بالإنترنت لضمان قدرة الطلبة على الوصول للموارد التعليمية المقدمة لهم بشكل إلكتروني.
• من الواضح أن نجاح عملية التعليم عن بعد، تتوقف بالأساس على حصول الطلبة على الأجهزة الإلكترونية، وهو الأمر الذي لن يكون بمقدور غالبية الطلبة بالنظر لارتفاع تكلفة هذه الأجهزة، ومن ثَمَّ فإن الحكومة والقِطاعات المعنيَّة ملزمة بتوفير الأجهزة الرقمية للتلاميذ والطلبة، وتوفير بنية تكنولوجية لازمة لدعم نظم التعلم الالكتروني، بالإضافة إلى التركيز على محو الأمية الإلكترونية؛ إذ يحتاج التعليم عن بعد إلى توفر المعرفة الأساسية بالتكنولوجيات الرقمية.
• لا يمكننا توقُّع نتائج مثالية من هذه التجربة التي فرضتها علينا جائحة كورونا، بالنظر أولاً إلى السرعة الفائقة التي تم من خلالها تبنِّي هذه الاستراتيجية حفاظاً على استمرارية العملية التعليمية باعتبارها أولوية قصوى، وثانياً لغياب التحضير والتدريب المسبق سواء بالنسبة للأساتذة أو الطلبة على آليات التعليم الرقمي.
• خلاصة القول: من المتوقع أن يستمر الجدل حول جدوى استخدام التعليم الإلكتروني بالاستناد إلى طرح مزاياه وسلبياته ومتطلباته. ولن يتم التوافق على دوره ومدى استخدامه والنماذج المثلى للاستفادة القصوى منه، إلا بعد إجراء مراجعات شاملة وتقييم متكامل لأثره في تطوير العملية التعليمية وتحسين نتائج المتعلمين. وسيكون للتجربة التي يخوضها العالم حالياً في هذا النوع من التعليم، بسبب انتشار فيروس كورونا، الأثر المستقبلي الكبير في صقل وتحديد التوجهات. 
• فيروس كورونا في طريقه إلى الاختفاء، والتكيف معه، ولكن الجدل حول نجاعة التعليم عن بعد سيبقى مشتعلاً بين ثلاثة فرق. الأول يرى بأهمية هذا النوع من التعليم، خاصة في عالم متفجر بالتطورات التقنية، بينما الفريق الثاني فيرى في الحذر والسلبيات الناجمة منه كفيلاً لرفضه، بينما هنالك فريق ثالث يدعو الى الدمج بين الوجاهي والافتراضي سبيلاً لمواجهة أي طارئ مستقبلي.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير