مأزق الحركة الوطنية وأزمة البديل في جدلية الوطني والديمقراطي

25.05.2022 08:22 PM

كتب: جمال زقوت

( ١ )
غياب فلسفة للحكم و خطة لتعزيز الصمود

بانشاء السلطة الوطنية، بات انجاز التحرر الوطني مرتبط عضويًا ، ليس فقط بوحدة الكفاح الشعبي ضد الاحتلال، بل، و بمدى النجاح في بلورة رؤية وطنية جامعة حول متطلبات وأسس البناء الديمقراطي لمؤسسات و مبادئ وقيم الوطن الذي نسعى لتحريره ليكون وطن كل الفلسطينيين أينما كانوا، كما نصت على ذلك وثيقة إعلان الاستقلال التي انبثقت من رحم الانتفاضة الكبرى، والتي لم تكن مجرد ثورة على الاحتلال بقدر ما كانت أيضاً ثورة اجتماعية أصلت للديمقراطية الشعبية بكل أبعادها سيما لتحولات اجتماعية على الموروث التقليدي الذي سبق وساد لعقود طويلة سبقت النكبة وهزيمة حزيران. فترسيخ الديمقراطية في حالة المجتمع الفلسطيني كان دوماً، وسيظل مرتبط عضويًا بالنهوض الوطني ومدى اتساعه.

لم تُلقِ السلطة بالًا لهذه القاعدة الجوهرية في فلسفة الحكم، و التي كان يجب أن تركز جوهر اهتمامها على أن وظيفة مؤسسات السلطة الوطنية الناشئة، بل مبرر استمرار وجودها، يعتمد أساسًا على مدى تمكنها من ترسيخ الحكم الرشيد وانشاء مؤسسات فاعلة وقادرة على تقديم أفضل الخدمات التي يستحقها ويحتاجها المواطنون، والتي تمكنهم أيضاً من تعزيز صمودهم على أرض وطنهم، التي ما زالت جوهر وعنوان الصراع الأساسي مع المحتل، والذي لم يتخلى لحظة عن أطماعه التوسعية، وما زال يسعى لترسيخ احتلاله و الالتفاف على حقوق شعبنا الوطنية بل وتصفيتها، ناهيك أن ما كان يُسمى ب"ديمقراطية غابة البنادق" أي الشرعية الثورية، لم تعد كافية لاستمرارية الحكم، بل إن الشرعية الدستورية من خلال دورية الانتخابات، هي التي تضمن شراكة المواطن ودوره في العملية الوطنية ورسم التوجهات السياسية ومراقبة الالتزام بها، ناهيك عن شرعية الانجاز وفق أسس وأدوات المساءلة البرلمانية والشعبية، والتوزيع العادل للثروة ولأعباء مواجهة الاحتلال، و لمدى التقيد بمبدأ سيادة القانون و مكافحة الفساد و حماية المال العام في خدمة معركة الصمود التي ستظل الوجه الآخر لمعركة التحرر الوطني .

وبذات القدر الذي فشلت فيه قوى السلطة في بلورة مثل هذه الرؤية، حيث اعتبرت الأولوية لانهاء الاحتلال، و حصراً من خلال المفاوضات، والحرص على ارضاء اسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة لاثبات جدارتها في تلبية مطالبهما، سيما الأمنية، والتي تحولت مع الزمن إلى سياسة "لاسترضاء العدو".

   الانقسام على الوهم والصراع على الشرعية

في ذات الوقت كانت القوى الرافضة لتسوية أوسلو، وخاصة حماس، تتعامل بأن اجتهاد المنظمة والسلطة في مغامرة البحث عن التسوية يشكل انزلاقاً يصل حد الخيانة، وإن لم يجرِ التعبير عن ذلك صراحة، وأنها فرصة لها لاسقاط السلطة و السيطرة على شرعية المنظمة، أكثر مما هو حرص على اسقاط أوسلو وإلغاء مخاطره، فكرست كل جهدها لتخريب تلك العملية، وليس تصويبها أو معالجة نقاط ضعفها و سد ثغراتها، وما يستدعيه ذلك من تكامل في الادوار وتوافق في أشكال النضال، ملتقية في ذلك موضوعيًا مع أقصى ما يسمى باليمين الصهيوني، دون اكتراث بأن ما كان يجرى في الواقع هو محاولة بناء أول نواة كيانية للوطنية الفلسطينية، والتي من مسؤوليتها توفير القدرة الشعبية على الصمود، و تعزيز المشاركة الشعبية في معركة انهاء الاحتلال، و أن على مدى النجاح في انجاز هذه المهمة ستتوقف امكانية النهوض الوطني الشامل لدحر الاحتلال، و أن إنجاز هذه المهمة كأولوية وطنية عليا هي مسؤولية أهل السلطة و أهل المعارضة على حدٍ سواء ، و بدلاً من أن تمارس قوى الرفض دور المعارضة السياسية و في منهج الحكم والادارة ذهبت نحو الرفض بما يشمل رفض الواقع الذي يجري بناءه دون عقيدة وطنية جمعية كانت تتطلب توافقاً على أسس الحكم والادارة وفق وثيقة اعلان الاستقلال، وليس وفق مبارزة جهنمية بين "مفاوضات أوسلو مقابل عمليات استشهادية" استهدف كل طرف في هذه المبارزة نفي الآخر، و نحن لم نحرر شبراً واحداً من أرضنا بعد.

  الانتفاضة الثانية وتحولات الموازين الداخلية

في هذا السياق جاءت ما سميت بالانتفاضة الثانية، و التي كانت فلسطينيًا من وجهة نظري التي سبق و قدمتها في مؤتمر المجلس الفلسطيني للعلاقات الخارجية ، و الذي عقد في مدينة غزة بحضور الصف الأول من قيادتي حماس و فتح و باقي الفصائل والشخصيات الوطنية المستقلة، بأن مضمون تلك الانتفاضة ينزلق ويتكثف في الصراع على موازين القوى الداخلية في معركة الاستحواذ على الشرعية والانفراد بها ، أكثر مما هي حالة كفاح وطني موحد في مواجهة الاحتلال للخلاص التام من براثنه. و قد كررت هذا الرأي محذراً من مخاطر عواقب هذا الصراع العبثي خلال حوارات القاهرة عام 2005، مشددًا بأن ما يجري هو صراع على تبدل في موازين القوى الفلسطينية الداخلية، التي ربما باتت في حينه تميل لصالح حماس ولغير صالح فتح وقوى السلطة والمنظمة التي بدأت ملامح فشل برنامجها للتسوية تتضح دون استعدادٍ جدي لمراجعته، ولكنه بمحصلته أفضى إلى اختلال غير مسبوق في ميزان القوى الكلي لصالح اسرائيل ، التي استهدفت انهاك الجميع وقبلهم الشعب الفلسطيني وقدرته على الصمود و المواجهة وتعزيز عزلته الاقليمية والدولية، وحصاره تمهيدًا لحشره في مربع الانقسام الذي شكل من وجهة نظر الحركة الصهيونية ودولة اسرائيل الانجاز التاريخي الأهم بعد نكبة فلسطين، و انشاء دولتهم على أنقاض الوطنية الفلسطينية، كما سبق وأعلن ذلك شمعون بيريز عراب أوسلو ذاته .

                          ( ٢ )
    الصراع على الوكالة الأمنية و غياب البديل

فخ الانقسام ضرب في الصميم ليس فقط جدلية الربط بين الوطني و الديمقراطي، بل استبدل كل منهما بصراع فئوي على شرعية التمثيل في ظل تفكك الشرعية الثورية، والاطاحة بالشرعية الدستورية المتمثلة بوحدة الكيانية الوطنية والانتخابات الدورية، و معهما تبديد أي معلم لشرعية الانجاز ، بما في ذلك الحقوق الفردية والمدنية للمواطنين، و التعدي الصارخ على الحريات العامة و الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للأغلبية الساحقة منهم، حيث المعاناة غير المسبوقة على كافة المستويات لأهل القطاع، و الانقضاض على انجازات الحكم الرشيد، وما سبق و راكمه الشعب الفلسطيني من حقوق مدنية وعلاقات اجتماعية تقدمية في الضفة الفلسطينية، و تُرك أهل القدس و الشتات يواجهان مصيرهما، في معركتي قضيتي القدس واللاجئين اللتين بدونهما يُطاح بحوهر القضية الفلسطينية، وبأي شرعية للتمثيل واستبدالها بوكالتي "التنسيق الأمني" في الضفة و "الأمن مقابل الاقتصاد" في غزة . هذا بالاضافة إلى ما سبق من فك ارتباط عملي بأهل الداخل" 48"، بكلمات أخرى تم التساوق مع جوهر المشروع الصهيوني الذي طالما سعى إلى تفكيك الهوية الجامعة، والتي سبق ومثلت الانجاز الأهم لمنظمة التحرير و لتضحيات شعب الانتفاضات على مدى عقود من الكفاح الدامي ، والتي بمضمونها الكفاحي تشكل نقيض المشروع الصهيوني الذي يواصل مخططاته لتصفية الحقوق والمشروع الوطني الفلسطيني.
هذا هو واقع الأطراف المهيمنة على المشهد الفلسطيني، وطبيعة الأزمة المركبة التي علقت بها الحركة الوطنية، والتي كما يبدو أن أطرافها غير قادرة على معالجتها أو الخروج الذاتي من براثنها الجهنمية.

         تجليات الأزمة و مخاطرها الداهمة

تجليات هذه الازمة في المشهد الراهن يتمظهر في تعميق الاستقطاب داخل دائرة الانقسام الجهنمية، و التعبير الفاضح عن عجز النخب التي تدعي الاستقلالية عن المشهد الانقسامي، وتخليها عن دورها المطلوب في الدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بوهم الانحياز للكفاح الوطني الذي من وجهة نظرها تمثله في هذه المرحلة"ترسانة صواريخ حركة حماس"، وإعطاء الأفضلية لهذا الوهم حد التخلي عن مضمون معادل البناء الديمقراطي والحقوق المدنية بأبعادها التقدمية والعلمانية في جدلية العلاقة لمعادلة الوطني والديمقراطي، وهو الأمر السائد كليًا في قطاع غزة،حيث تكاد لا تسمع عن أي حراك جدي ضد سياسات التعدي على حقوق المواطنين وضنك ظروفهم المعيشية التي تتفاقم يوميًا، وصلت إلى حد فرض ضرائب على سلع و منتجات الضفة الفلسطينية التي تصل القطاع، وهي السياسة التي تفكُ رسميًا وحدة اقتصاد الضفة باقتصاد القطاع، وفي نفس الوقت تعبر عن أبشع أشكال استغلال الانفراد بالسلطة ضد متطلبات حياة أهلنا في القطاع الذين هم دون غيرهم من يعانوا أساسًا من الحصار الاسرائيلي، ومن الاجراءات العقابية التي تفرضها السلطة . وهذا ما يعبر بصورة لا تقبل التأويل عن الاطاحة الكلية بجدلية الوطني والديمقراطي على حد سواء. هذا بالاضافة لما يرشح عن الحوارات والاصطفافات الجارية المباشرة منها وغير المباشرة تحت ذريعة البحث فيما يسمى بانشاء جبهة وطنية بامتداد محاور اقليمية تقودها حركة حماس ، ومرة أخرى، بهدف دفع الصراع على الشرعية والاستحواذ عليها في مواجهة منظمة التحرير ، سيما أن حالة الوهن التي تعاني منها المنظمة والسلطة وحركة فتح غير مسبوقة ربما منذ نشأتها، حيث تتواصل فيها عمليات الفك والتركيب لاحكام سيطرة الخلية المهيمنة عليها وفي المستقبل المنظور .

صحيح أن القيادة المهيمنة على منظمة التحرير اختزلت دور المنظمة وقلصت طبيعتها من جبهة وطنية عريضة إلى مجرد هيئة استشارية لا تملك من أمرها شيئًا، حيث تم السيطرة عليها والانفراد الكامل بالقرار الوطني و بمستقبل القضية الفلسطينية، و لكن واقع الأزمة الوطنية لا يمكن معالجته بدفع قوى السلطة وحركة فتح، مهما كانت "متهاوية" بذرائع دعوات الفرز الزائفة، خارج الاطار الوطني، بقدر ما يفرض الحاجة لمزيد من التمسك بإعادة الاعتبار للطابع الائتلافي لمنظمة التحرير ودورها في قيادة معركة التحرر الوطني بانضمام الجميع لها واصلاح بنيتها واعادة تفعيل مؤسساتها وآلية اتخاذ قراراتها، وليس بتمزيقها . فالمأزق الراهن جوهره حالة الانقسام المدمرة و ما يصاحبها من هيمنة وانفراد واقصاء، وما يولده ذلك من فشل مزمن، وتمترس الأطراف المهيمنة على المشهد الانقسامي باستراتيجيات الفشل رغم عقم وإفلاس كل منها .

   متطلبات الانقاذ: اشتراط العودة للوحدة

وفي هذا السياق فمن الضروري إدراك أن عملية انقاذ المنظمة و مستقبل القضية الوطنية لا يمكن أن تجري على قاعدة انقسامية، أو على أنقاض فتح، كما يتوهم البعض. فما يزال الجسم الأساسي لفتح يشكل بوتقة الوطنية الفلسطينية، ناهيك عن مؤشرات الحراك الجاري داخلها و في المجتمع الفلسطيني، كما يتضح يوميًا، سواء في جنين ومخيمها كما في القدس وسائر المناطق المحتلة، و التي تؤذن بمجملها اقتراب لحظة ولادة جديدة للوطنية الفلسطينية بعيدة عن أوهام الاستحواذ و الإقصاء المتقابلتين. كما علينا أن ندرك أن الانزلاق نحو خطر مثل هذا الفرز يُلقي بمسؤولية خاصة على عاتق القوى والاتجاهات والشخصيات التي تدور في فلك هذا المنهج، تمامًا كما كانت المسؤولية تقع على عاتق القوى التي تخندقت في معركة تقزيم مكانة المنظمة واعادة تفصيلها على مقاس الخلية المهيمنة على "الحكم" في المنظمة والسلطة أثناء أعمال ومخرجات المجلس المركزي الأخير .

           متلازمة الوطني والديمقراطي

إن مدّ هذا التخندق على استقامته ليشمل الائتلافات النقابية و المجتمعية المباشرة منها وغير المباشرة، واعتبار هزيمة شبيبة فتح في جامعة بيزيت، حيث شكّل التصويت في انتخابات مجلسها الطلابي احتجاجاً قاسياً واعتراضاً واضحاً، ليس فقط على الفشل والاخفاقات السياسية السابقة للسلطة ولقيادة فتح، بل و تعبير عن السخط غير المسبوق وكجزء من حراك بات واضحًا على محاولات فرض شكل بنية ومضمون مستقبلهما ، على أهمية و أحقية ذلك السخط والاحتجاج ، وكأن ما جرى انتصار ديمقراطي ، رغم مؤشرات عواقبه على المنجزات الاجتماعية ذات الطابع التقدمي، وابراء الذمة من هذه الهزيمة المجتمعية في أحد أبرز مراكز التنوير، وحواضن الوطنية التقدمية ، إنما يشعل الضوء الأحمر إزاء فهم طبيعة القوى والاتجاهات التقدمية لدورها ومستقبل مكانتها في المجتمع من حيث إلى أين نحن ذاهبون ؟ و من هو البديل للوضع المتردي وكيف نعالج مأزقه التاريخي في هذه المرحلة دون فقدان بوصلة قانون الوحدة وصراع الأضداد . إن عملية التغيير الحقيقية ومتطلبات الانقاذ لا يمكن أن يُكتب لها النجاح من خلال تعميق حالة الانقسام بقدر ما أن المطلوب هو برنامج انقاذي يستند أساساً إلى حشد كل الجهد والطاقات الشعبية لانهاء الانقسام واستعادة الوحدة، في اطار جبهة وطنية عريضة بمشاركة كافة القوى السياسية والاجتماعية في منظمة التحرير الفلسطينية . فانقاذ مستقبل المشروع الوطني لا يتم من خلال الانتقال من تحت دلف الهيمنة والاقصاء إلى مزراب الاستحواذ والفكر الشمولي الأصولي الانقساميان . فلا يمكن فصل الوحدة الوطنية عن متطلبات التعددية و تلازم الوطني والديمقراطي وصون الطبيعة التقدمية للمجتمع الذي نريد والوطن الذي نناضل موحدين لتحريره .


 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير