"مَن يعيد لنا الرفيقات؟"

24.05.2022 04:34 PM

 

كتبت: هند شريدة

صادف السادس عشر من الشهر الحالي الذكرى السادسة والأربعين لاستشهاد الطالبة لينا النابلسي، بعد أن طاردها جندي صهيوني، وهي ترتدي مريولها المدرسي. لم يكن الجندي قناصاً ماهراً، كالذي أطلق النار على شيرين أبو عاقلة، وهي تلبس سترتها الصحافية والخوذة التي، للأسف، لم تكن "واقية بما يكفي" أمام دقة هدفه؛ بل كان جندياً متعقباً ماهراً، تربص بها ولاحقها الى أن اغتالها بدم بارد وقتلها عمداً. كان ذلك يوم أحد، في 16 أيار/مايو 1976.

كانت لينا في الـ 15 من عمرها، طالبة بعمر الورد في مدرسة "العائشية" في نابلس، خرجت وهي تلبس زيها المدرسي المقلم بالأخضر والأبيض مع نظارات غليظة، بعيْد تقديمها امتحانات نهاية العام الدراسي للصف الثاني ثانوي، لتقود مسيرة طلابية في اليوم التالي لذكرى النكبة. تصاعدت وتيرة الأحداث عند قيام جيش الاحتلال بقمع التظاهرة بوحشيته المعتادة، فحاولت لينا وصديقتها الاختباء من ملاحقة الجنود لهما عند حداد في المنطقة، وبعد برهة، ظنت الصبية أنها بمأمن، فأكملت سيرها باتجاه بيت صديقتها في منطقة الشيخ مسلم، ونجحت في الوصول إليه، إلا إن جندياً حاقداً تتبّع خطاها؛ فكسر الباب برجله، وأقدم على اغتيالها برصاصتين اخترقتا وريدها الأيمن، وأُخرى أسفل صدرها، فسقطت شهيدة على الكنبة، وسماكة الدماء ونظارتها تطغي على المشهد برمته.

سليمان منصور، لينا النابلسي 1976.

نُقلت لينا مضرجة بدمائها إلى المستشفى الوطني، فحاول الاحتلال سرقة جثمانها، لكن شباب جبل النار وشاباته عادوا بها إلى منزلها، وشيعوها من هناك في تظاهرة ضجت بها البلاد.

تناول بعض وسائل الإعلام، آنذاك، قيام ماكينة الكيان "النزيه" بمحاسبة الجندي لقتله طفلة في مريول أخضر، لكن الاحتلال النزيه، هو بعينه، أفرج عن "بطله" ما إن أمضى في السجن زهاء أربعة أشهر فقط، ليخرج جُنديه متبختراً نحو هدف فلسطيني جديد.

الفن الملتزم خلّد الشهيدة اليافعة، فغنى لها الشيخ إمام: "لينا لؤلؤة حمراء".. كما غنى أحمد قعبور "يا نبض الضفة لا تهدأ.. أعلنها ثورة". تبدأ الأغنية ببطء يَضبِطُ الأنفاس: "لينا كانت طفلة، تصنع غدها".. تهرول الجوقة بعدها ذائعةً الخبر المفجع، مبددةً زهو الطفولة بسقوط لينا.. ليعم الصمت هنيهات، وسرعان ما ينهض النشيد من جديد بـ (لكن)، وقصة صمود وتحدٍّ، حاملاً معه ندية عالية، مستثيراً دمنا ودمها، فيتصاعد اللحن الثوري مغنياً، زاحفاً إلى المدن الفلسطينية كلها، من القدس ويافا وأريحا... إلى غزة والأغوار، وممتداً حتى البحر الميت في الأردن".. وهكذا دواليك، تستمر الأغنية وتتكرر لازمة (نبض الضفة) مرة أُخرى، مُنذرةً  بالغليان، والمزيد من الإطارات المشتعلة، والدخان، والهتافات.

لم تُطرب الآذان فقط بلينا، (أو لينة كما شاعت كتابتها)، بل حفظتها العيون أيضاً، حين خلّدها الرسام الفلسطيني سليمان منصور في لوحة خاصة بعد مصادرة قوات الاحتلال الصورة الفوتوغرافية الأصلية بعيْد قتلها؛ فهمّت زوجة الفنان منصور (حنان)- أطال الله في عمرها- بمساعدته في رسم الشهيدة (وقد كانت خطيبته حينها) فاستلقت على الأرض وجعلت نفسها(موديلاً) للرسم، في تجسيد لوضعية الشهيدة النابلسي.

كيف يمكن لنسخة متماهية مع حدث مضى إعادة إنتاج الحدث عينه والعواقب التي تبعته ساعة وقوعه، وتولّد في الوقت نفسه ذات الاستنكار والصوت الجارف المنادي بالحرية؟ بلاغة لوحة منصور التي نتجت من محاكاة حنان لِما آلت إليه الشهيدة وإعادة تمثيل المشهد لتخليد الصورة، لن تعيد لينا إلينا بالتأكيد، لكنها خلّدت اسم الشهيدة وذكراها، وفعلها الثوري، كي لا ننسى أيضاً أنها خرجت لتدق جرس الحقيقة بأن النكبة مستمرة، ولتقول بهتافاتها أننا "لن ننسى"، و"لن نغفر" الجرائم التي ارتُكبت بحقنا، لتُضاف جريمة قتلها إلى سلسلة جرائم النكبة التي لم تنتهِ، وتكون بذاتها دليلاً مادياً جديداً على مجزرة جديدة طالت جسد طالبة بمريول أخضر، مؤكدةً رجس الاحتلال ومواصلته أطيافاً أُخرى من تطهير وتشريد واستهداف وقتل عمد. كما سخّرت حنان نفسها لابتعاث لينا من جديد عقب تجميد اللحظة، بكل ما فيها من وجع وحزن وألم متجدد، لكي تقول يكفي لوحات شبيهة بها، ولتحثنا على الرفض، والسير على طريق التحرير والحرية.

اليوم، وبمقتل شيرين ورقادها على وجهها عنوة بفعل طلقة، تكرر المشهد من جديد -سبقته بالتأكيد مشاهد لا تحصى لسقوط شباب وشابات من مسافة صفر، ضُرجوا بدمائهم/ن بعد إطلاق النار عليهم من مسافة صفر- خلدته كاميرا زميل شيرين، مجدي بنورة، لوحة حية للعالم، تماماً كما فعل سليمان منصور بمساعدة زوجته حنان، مُصوراً إياها وحيدة، مرمية على الأرض بزيها الصحافي الكحلي، وهي في ميدان الحدث تصنع خبراً عن جريمة يرتكبها الاحتلال من جديد عند تواجده على مداخل مخيم جنين، إلا أنها أصبحت هي نفسها خبراً. وبذلك، أضيفت جريمة اغتيال شيرين إلى مسلسل النكبة المستمر منذ 74 عاماً. جريمة اغتيال شيرين هزت العباد والبلاد، ودوّت أصداؤها في العالم كله، مراكمةً على نضالات شعب قدم أطفالاً رضع وأمهات وشباباً، وكهولاً، حتى الأجنة في بطون النساء لم تسلم، وما زال الشعب يدفع ثمناً باهظاً على درب الحرية.

في مقاربة أُخرى لما حدث مع شيرين، وعلى الرغم من فجاجة الإجرام ووضوحه كالشمس؛ فإن الجريمة أصبحت مُدرجة على قائمة التشكيك وعدم اليقين التام، في جمل خرقاء أشاعها الاحتلال لسرد روايته عمّا حدث، وصاغها بذات التشكيك التضليلي والمليء بـ "ربما" و"قد"، ليُبْعد عنه مسؤولية قتلها العمد، ويُكيلها على فدائيي المخيم. أذاع بعض وسائل الإعلام العربية - وإن بدا متعاطفاً- والغربية رواية المحتل؛ فقد تاجر بها البعض تحت هرطقة الموضوعية السائلة، وخوفاً من هجوم الصهيونية وأدواتها المراقِبة لِما يُنشر أو يُذاع إعلامياً، إنما استدخلها بعض آخر بخباثة في محاولة لكَيِّ الوعي متعمداً، داحضاً بذلك الحقائق وكل رواية وطنية جامعة، في مدعاة لطرح الرواية الأُخرى تحت ما يُسمى "وجهة نظر"، ولوهلة، إشاعة أنه من الممكن "أن تتغطى الشمس بغربال!"

استنكر جريمة قتل شيرين أبو عاقلة أفراد وجماعات، وتعالت أصوات شخصيات اعتبارية كثيرة، وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني والدولي، كمؤسسات حقوقية ودبلوماسيين وأعضاء برلمانيين كثر، وفي إثر ذلك، اضطرت أميركا، مُحرجةً، إلى إشاعة تضامنها العاطفي مع عائلة الشهيدة، وقد ورطتها شيرين في نموذجها الجامع وجنسيتها المزدوجة، وهو ما دفع وزير خارجية أميركا أنتوني بلينكن إلى تعزية عائلة أبو عاقلة في اتصال هاتفي، معبراً في الوقت ذاته عن حزنه بسبب اعتداء الاحتلال الصارخ وانتهاكه نعش الشهيدة. الشعب الفلسطيني بأسره يعرف كل المعرفة أن حزن بلينكن الموقت وقلقه اللحظي لن يفضيا إلى مطرح، في ظل استمرار أميركا في دعم "إسرائيل" وتشجيعها على تغطية جرائمها بحق الفلسطينيين.

في كلمات أخرى وتشريح لكبد الحقيقة؛ نستطيع القول، بأريحية تامة، أن شيريننا قُتلت برصاصة اسرائيلية ممولة من أميركا، جرّاء دعمها العسكري الصارخ لاسرائيل، والذي بلغ في سنة 2020 وحدها 3.8 مليار دولار سنوياً، كجزء من التزام طويل الأمد واتفاق وقّعه أوباما سنة 2016، يمنح إسرائيل حزمة مساعدات، قيمتها 38 مليار دولار، خلال عقد كامل ما بين 2017 و2028.

وبشأن "تحقيق" الاحتلال، الغني عن التعريف بنزاهته، في الجريمة؛ ترفض "اسرائيل" بتاتاً التحقيق في الجريمة، على الرغم من تفضيل نيد برايس، المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية إحالة التحقيق كاملاً إلى اسرائيل والتسليم بنتائجها النزيهة، بينما تطالب السلطة الفلسطينية والعديد من الجهات الحقوقية وعدد من الدول الغربية -حتى القريبة من "اسرائيل"- بإجراء تحقيق دولي مستقل وشفاف يهدف إلى مساءلة الاحتلال ومحاسبته - ولو محاسبة ناعمة بمعايير الدول الصديقة له- إزاء ما جرى، بينما لا يزال الاحتلال الصهيوني يناكف العالم بأسره، مُشككاً الدنيا في أن قناصيه هم مَن قاموا فعلاً بخرق جمجمة شيرين برصاصة متطورة فجّرت رأسها.

هناك فرصة، على السلطة الفلسطينية اقتناصها في ملف شيرين أبو عاقلة، لتحقيق هدف إنساني وسياسي وتحريري أصيل لمصلحة جميع الفلسطينيين، إذ يجب عليها -هي وجميع مؤسساتها الرسمية وغير الرسمية- القتال بضراوة، متسائلة ومسائِلة في الوقت نفسه: ماذا كانت تفعل قوات الاحتلال أصلاً عندما اقتحمت مخيم جنين الواقع في الضفة الغربية على حدود 1967؟

إذا ما وقفت الدنيا، ولمرة واحدة، أمام هلامية معاييرها، وأُجرِيَ حقاً تحقيق دولي مستقل، وتوصل إلى الحقيقة عينها التي نؤمن بها من دون إجرائه أصلاً؛ هل ستعاقب الدول "اسرائيل" فعلاً؟ وهل ستضرب الدول العربية عرض الحائط باتفاقيات التطبيع معها، أم ستقطع الولايات المتحدة حنفية التمويل عنها؟ والأهم من هذا كله، هل ستجبر نتائج أي تحقيق خاطر أنطون (شقيق شيرين) وبناته لينا ولارين، وعائلة أبو عاقلة بأسرها، وهل ستكون عادلة لزملائها، وليد ونجوان وجيفارا والياس ونداء ورانية وفاتن، وهل ستثلج صدر جميع الفلسطينيين ممن تربوا على صوت شيرين وتقاريرها، وهل سترضي النتائج "الحجة أم أحمد فريحات"[1] من مخيم جنين، التي نعت الشهيدة بسجع شعبي، نائحةً عليها:

"من جنين الأبية.. طلعت شمعة مضوية..

يا شباب لا تروحوا .. هاي شيرين ضحت بروحها

قولوا الله قولوا الله .. هاي شيرين مش حايالله"

هل ستُرجِعُ لنا نتائج أي تحقيق شيرين.. أم ننتظر عدالة السماء؟

"مَن يعيد لنا الرفيقات؟"


المصدر: (مؤسسة الدراسات النسوية)

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير