فلسطين: عندما يكون المايسترو شعباً، وعندما تصبح الأوركسترا فعل مناهضة

15.04.2022 05:59 PM

 كتب *عليان صوافطة : في 3 أغسطس لعام 1857 ، ألقى فريدريك دوغلاس، أحد أبرز المدافعين عن حقوق الأمريكيين الأفارقة في الولايات المتحدة الأمريكية، خطاب "تحرر الهند الغربية" في نيويورك، وقال: "إذا لم يكن هناك صراع، ليس هناك أي تقدم. أولئك الذين يدّعون تأييد الحرية، ومع ذلك، يستنكرون العمل لأجلها، هم أناس يريدون محصولاً من الأرض دون حرثها، ويسألون مطراً بلا رعد أو برق، ويحلمون بمحيطٍ بلا فظاعة زئير مياهه الهائجة. قد يكون الصراع صراعاً أخلاقياً، أو صراعاً جسدياً، وقد يكون خليطاً بين ما هو أخلاقي وجسدي، ولكن يجب أن يكون صراعاً في نهاية المطاف. القوة لن تعترف بشيء دون طلب، لم ولن تفعل. اكتشفوا ما الذي يخضع له الفرد، عندها ستجدوا المقياس الدقيق للظلم. هذا ويستمر الطغاة في فعلتهم حتى تبدأ مناهضتهم، مناهضتهم إما بالكلمات أو بالضربات، أو بكليهما، وبذلك فإن حدود الطغاة فقط يحددها صمود المُضطَهَدين."

ليس أكثر من الفلسطيني قدرة على الفهم المعاصر لمعاني الاضطهاد، ولأدوات مواجهته، ولمآلات الخضوع له. على مدار عقودٍ كثيرة، والأرض تشتعل في وجه صراعات مختلفة، تنتفض في كل محاولة هادفة لفرض نوع جديد من العبودية عبر إكراهات تقسيمات مستويات المواطنة، وخلق تمايز اجتماعي طبقي غير طبيعي. أو عبر تفكيك بنية المجتمع الفلسطيني من خلال الاستيلاء على الأرض بالقوة الغير مشروعة، وزج المجتمع ككل في معازل الخوف والجوع والفقر والفصل العنصري. أو بسبب نهب نهب الموارد الطبيعية والحرمان من الحد الأدنى للعيش الكريم، والذي نصّت عليه اتفاقيات دولية عديدة بعد أفول الحرب العالمية الثانية مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، القانون الدولي لحقوق الإنسان، والقانون الإنساني الدولي. ومن هنا تبقى مسيرة النضال ضد الاضطهاد ممتدة وغير مجزأة، كما يظل الاستعمار الاستيطاني بنية مُضطَهِدة، وليس حدثاً عابراً، قائمة في وجودها على مبدأ نفي الآخر، بل وإعدامه على منصلة النظام "الديمقراطي" الوحيد في الشرق الأوسط؛ نظام الأبارتايد المُستبد.
في سياق الاضطهاد والنضال، كُتب عن تجارب الشعوب كثيراً، وتناول أدباء ومحللين سياقات مختلفة لمعذبي الأرض. ولكن، كواحدٍ من أرض التراب الأحمر، ومن حارات المخيم والقرية والمدينة، أن تشرع كتابتك عن الدم، أو تنطق عن من ترجلت أجسادهم عن طبق الحياة، هي أصعب المهام على الإطلاق. فمن يكتب اليوم، ربما يُكتب عنه بعد غد، ومن يَحمل اليوم، يُحمل غداً، وهكذا يتناوب أهل البلاد على حمل الأحياء على الأكتاف، ليبقى الفلسطيني موجاً هادراً، يلامس سطح السماء، حارساً لهواء البحر وزهر الجبل، حتى استحقاق حريته وتقريره لمصيره المتأصل في الحق التاريخي والطبيعي. وبالمناسبة، ما سلف ليس متتالية منطقية أو نتيجة سببية متأصلة في حب أرواح أهل بلاد ما بين النهر والبحر لنشوة الغياب الأبدي كما يُذاغ بين تراتيل المحافظين، بل هي ملحمة تاريخية تُنتجها ديناميات تاريخ طويل ومستمر لمناهضة قهر بارود الاستعمار الاستيطاني. قهره التاريخي لروح الحياة ومعنى الوجود وطعم البقاء. وقهره العابر للأجيال في سبيل إنتاج المعاناة الجمعية.
إن الملحوظ مما سبق يجعلني أدعي التالي، أن ما يحدث هذه الأيام في فلسطين الوطن ليس مجرد هبّةانتفاضة محصورة في سياق جغرافي معين، لأن الوجود الفلسطيني في معاني استمراريته، رغم كل محاولات تطهيره عرقياً، دليل مادي وملموس على استمرار حالة الممانعة الممتدة عبر التاريخ والتي لا تقبل التجزئة على خط الزمن، ولا تقبل التقزيم في مساحات الجغرافيا، ولا تقبل أن تُفرز كمياً ونوعياً تحت عناوين وصفية مجردة. ما يحدث، في القدس وجنين ورام الله ونابلس وبيت لحم، هو تكامل وظيفي مع أراضي عام 1948، ورمل غزة. وهو ولادة طبيعية لإعادة تقديم الوطنية الفلسطينية بشكلٍ معاصر ومختلف. ما يحدث في زقاق المخيم، وحواري القرى، وأحياء المدينة هو ارتجال الأجيال الفلسطينية الفتية، التي يفترض أن تمسي فلسطينيتها "مواطناً جديداً" غير مبالٍ بآهات الوطن وهمومه، لكنها ارتأت تقديم رؤيتها في كسر معاني الخوف السياسي واللامبالاة وقيم الاستهلاك. وحاولت تطبيق نظريتها في تحطيم قوالب الحرمان الاقتصادي والفساد السياسي المحلي وانسداد آفاق الدبلوماسية، لتعلن ضرورة وطنية جديدة تفوق أولويات كل ما دونها، وحرفياً، كل ما دونها من نخب سياسية وشعارات ومطالب اقتصادوية. وفي ذلك إثبات لكل العالم -الذي يُتقن دور الأصم، ويتحايل بذكاء لا أخلاقي على معنى الحياد- أنّ كرامة الإنسان ليست حصراً على عرقٍ دون آخر، وأن ثمن الحرية قدر الباحثين عنها، وأن فكرة بنى الاستعمار التي استوطنت أقدامُها، في أمريكا الشمالية وأستراليا، لن تبق أبدية على حساب السكان الأصليين، وهذا ما يفتح الباب على مصراعيه ليس للحديث الآني عن ما يحدث في فلسطين فقط من زاوية إجرائية فحسب، بل وبشكلٍ مطول عن استشراف آفاق الصراع في ظل راهنية الظرفية الملتهبة، وجدليتها.
إن مراقبة تسارع الأحداث تذكر الرائي بمحطات عديدة من القرن الماضي على وجه التخصيص، ومع مفارقات نوعية بارزة، إلا أن العامل الأكثر وضوحاً هو غياب البنية الرسمية للحكم الذاتي الفلسطيني، وتكثيف العمل الوطني ليكون شعبياً، عابراً للجغرافيا، رغم سنوات طويلة، من محاولات بقوة الإسمنت والحديد والسياج والألغام، هادفة لتفتيت التواصل الوطني الجمعي بين مختلف التجمعات الفلسطينية. ومن هنا، وفي سياق غياب رسمية الذاتية الفلسطينية، يبرز سؤالان: الأول مرتبط بتقرير البنية الفلسطينية الرسمية لما يحدث، وتبنيها عدم الفعل أو التعليق كتكتيك مغلف بالموافقة على تسارع الأحداث لكن دون إعلان نصي صريح حتى لا تفقد الثقة الدولية وموارد الدعم المالي والسياسي؟ والسؤال الثاني هو سؤال  الفصائل الفلسطينية، وأقصد النخب على مستوى صنع القرار العام في تلك الفصائل، ودورها المحتضر في التعبئة والتنظيم والحشد؟ ولا أجادل في امتلاكي لإجابة دون أخرى، أو تقديم عين الحقيقة، وإنما أحاول فتح المجال لحوارٍ يستحقه الحقل الفلسطيني في سياق مشوار التحرر والبناء، وفق تراتبية مقصودة من زاوية العمل المستدام والمأسسة الفعالة. نعم؛ تحرر ثم بناء، ولا غير. فإن كانت الفصائل الفلسطينية تفتقر لرؤية وطنية جادة فلماذا هي موجودة في الأصل؟ وإذا كانت تنتظر تحليل مآلات الحدث، فكيف ستتخذ خطوة إلى الأمام؟ وإذا فشلت في ملئ الفراغ الوطني، فهل نحن بحاجة لفصيل جديد؟ أم أن الحالة الوطنية القادمة هي اشتباك شعبي فاقد للثقة والإيمان بكل اللاعبين السياسيينالوطنيين؟ أما البنية الفلسطينية الرسمية، هل غيابها دليل صريح على فقدان أدوات الفعل أو المناورة السياسية؟ أم أنّها أرادت الموافقة على ما يحصل من خلال عدم تقديم أي تصريح براغماتي على مستوى صنع القرار؟
في ظل التفكير بالأسئلة السابقة، يُلاحَظ أنه لم يكن دور الفاعلين السياسيين الفلسطينيين محط أنظار المتابع الفلسطيني فحسب، بل إنّ ندرة الحديث عن ما يحدث في الإعلامين العربي والغربي هو قصة أخرى، لأن المقارنة تكاد تكون يسيرة جداً في القبض على حقيقة تمييز المجتمع الدولي ككل بين حرب وأخرى، وبين إنسان وآخر، وبين حقوق وحقوق. قبل يومين، فرغت من ندوة في علم المفاوضات والوساطات الدولية في جامعة نورث كارولاينا، وحظيت بنقاشٍ لمدة نصف ساعة مع أستاذي حول راهنية التطورات في الساحة الفلسطينية، وقال لي: "لا أعلم بوجود شيء!" لم يعلم، رغم أنه متابع عاشق للقضية الفلسطينية، إلا أنّ الماكنة الإعلامية الغربية وهي تفاضل بين أمة وأخرى، سحقت -كما دائماً- معنى الانحياز للأخلاق، واختارت الولاء المطلق للقوى القادرة على المساهمة في استقرار دعائم النظام العالمي المهدد من اهتزازات تنين روسيا، ليس إلا. وبينما يتابع دكتاتورون بعض الأنظمة العربية مشوار الألف ميل من التطبيع، والذي انطلق من حديقة البيت الأبيض، فإنّ الوجدانية النظرية لتلك الأنظمة لم تعد موجودة، حتى بشكلها التقليدي كحبرٍ على ورق، أو بيان هنا وهناك. ومن هنا أستطيع القول أن خط دالة عزلة الفلسطيني في ارتفاع كبير، ولا سيما في ظل تقاطع عربي وغربي على معاني كيف يستحق المظلوم تعقيد عيشه، وكيف يمكن توسيع الظالم فسحتَه.
لا أعتقد أنّ "سنديانة فلسطين"، أم ناصر أبو حميد، تنتظر وكالة صحفية غربية لتتبنى تراجيديا قضية أبنائها الأربعة الذين يعيشون حكماً مدى الحياة. وأستبعد أن مُبعدات المسجد الأقصى يناشدن المجتمع الدولي ليأكلن وجبة غداء على الحجار القديمة كما اعتدن. وكذلك، لم يحظ أحمد مناصرة بحقوق الطفل عندما كان في الثالثة عشر من عمره وهو يحاول الهروب من بين قضبان الاعتقال بتهمة "الإرهاب". ولربما أن ما سبق هو ما يخفف من سخط الفلسطيني على كل ما يحدث. نعم، يعلم الفلسطيني أن الجلد الوطني لن "يحكه" إلا ظفراً فلسطينياً خالصاً سواء كان شعبياً أو رسمياً، ولهذا فإنَّ التقديم السابق للحالة الفلسطينية الحالية هو نتاج التقاء عدة ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية مع بعضها البعض، كاستمرار فقدان حق تقرير المصير، وغياب العدالة، وفقدان تداول السلطات، وتفاقم البطالة والفقر. وهو التقاء لعدة ظروف، تمفصلت جميعها على محور واحد أُطلق عليه مجازاً هنا إسم عصا المايسترو السحرية (السخط الشعبي)، التي استطاعت أنْ تضبط تناغم الأوركسترا الفلسطينية (الضمير الجمعي)، من أجل إنتاج توليفة الحق الفلسطيني في الوصول إلى منافذ حياته الخاصة في مختلف أماكن تواجده. وأدّعي أنه كلما اشتدت ضراوة الظروف السابقة في تشابكها على ذات المحور، كلما أصبحت العصا أكثر سحرية، وكلما كان الضمير الجمعي الذي تحدث عنه "إيميل دوركايم" أكثر قدرة على تجسيد تصورات جماعة سياسية بعينها، وبالتالي تصبح بنية الاستعمار الاستيطاني عرضة للتفكيك، بغض النظر عن أي إعتبارات أو إجابات دقيقة على الأسئلة السابقة المرتبطة بالذاتية الرسمية أو الفصائل. أقول هذا لأن رسمية الفعل الجماعي أو صبغته الشعبية هي عامل مُسرع ليس أكثر، ويبقى السؤال الأخير رهين الوقت، وهو هل ستفهم عقيدة الاستعمار معنى الحرب من زاوية ما هو معنوي غير ملموس، وليس من عدسة ما هو مادي فقط؟ يبدو أنّ ذلك لا يحدث، ولن يحدث.

* باحث دراسات عليا / درسات سلام وصراع، جامعة نورث كارولاينا، الولايات المتحدة الأمريكية

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير