تلاعُب النُخَب: كيف تم توريط أوكرانيا

06.03.2022 07:48 PM


كتب: عصام غالب عواد

على الرغم من ادعاء الغرب بأن الحرب في أوكرانيا تشكل تهديدا ملموسا لما يرغبون بتسميته "الديمقراطيات الغربية"، إلا أن هذا ليس له علاقة يمكن ذكرها بأن روسيا تشكل تهديدا استراتيجيا حقيقيا لهذا الغرب. بل على العكس فإن التهديد للغرب يأتي من داخله، نتيجة لتصورات الغرب المتخثرة تجاه الصراع الروسي الأوكراني. وفي الحقيقة فإن القنابل لا تسقط على المدن الأوروبية. وإنه بدلا من ذلك، فإن العالم يشهد تسليحا التسليح نفسيا للحرب، بالإضافة لاستغلالها كأداة تلقين.

إن الأزمة في أوكرانيا هي مأساة بلا شك، ولكن هذا لا يجب أن يمنعنا من النظر إليها على أنها مجرد حلقة حديثة في سلسلة أحداث الجيوسياسية تعود إلى ما قبل 20 عاما، كانت فيها التغطية الإعلامية الغربية منحازة وإيديولوجية. بل وزد على ذلك أنها أعوام كانت مليئة بمصائد معلوماتية تجاهلتها النخبة في الغرب وتتحمل مسؤوليتها الآن كما حدث في كل من العراق وسوريا أو ليبيا. ومع كل ما ذكر من صراعات، ازدادت التغطية الإعلامية الغربية التغطية سوءا، وأصبحت فخاخا إعلامية أكثر إغراء وإثارة تم نقل الحالة فيها في كل مرة بناء على سرد ونقل على شكل تقارير معززة بصور مثيرة تبرر تدخلا أو عملا عسكريا.

وبالعودة إلى أوكرانيا، فتختلف المقارنة هنا تماما حيث لا شيء يقارن بها، فتشاهد وسائل إعلام "العالم الحر" تنشر تغطية غير شريفة أو غير انتقادية، وأخبارا كاذبة، ومعلومات مضللة مصدرها أوكراني، أضف إلى ذلك الدعاية التي تهدف إلى تكييف الجمهور لاستيعاب السرد "المقدس" لما يتصالح مع مصالح الغرب عن حرب عدوانية عشوائية قام بها رجل مجنون.

كما أن الأمر لم يقتصر على كون التغطية مشحونة للغاية، وذاتية أخلاقية، وسياسية واضحة فحسب، بل إنها تطالب بنشاط جماعي ضد ما أسموه الدكتاتور الروسي. نشاط ينمي ويعيد توجيه رد الفعل الطبيعي للتعاطف الذي يشعر به الجميع في غضب أخلاقي يصر على انتقام معين. ولعل من أهم الأمثلة في هذا المجال ما قام به السفير الأمريكي السابق لدى روسيا حين شوه الشعب الروسي بأكمله. وبدأ نخب آخرون بعده بعملية شيطنة مورست حتى ضد الأكاديميين الواقعيين الأمريكيين الذين تجرأوا على تسليط الضوء على مصالح الأمن القومي الأساسي لروسيا وإمكانية المواجهة إذا لم يتم الاعتراف بهذه المصالح.

وبقدر ما يتعلق الأمر بوسائل الإعلام الغربية القديمة، فإن الديمقراطيات الغربية تعيش حقا في عصر ما بعد التاريخ حيث كانت الأممية الليبرالية هي النموذج الوحيد المقبول الذي يمكن من خلاله فهم العالم واعتبرت أن أي وجهة نظر بديلة هي نصرة للاستبداد. هذه هي الطريقة التي ينظر بها النخب في الديمقراطيات الغربية إلى العالم.

إنه ونظرا لأزمة المعنى العميقة في الغرب والفجوة في التضامن والتماسك الاجتماعي، لا ينبغي أن نتفاجأ. فالعيش في ظل ظروف انعدام الجذور والفراغ الروحي والقلق الذي تغذيه الماكنة الإعلامية الغربية هي أزمات تولد فرصا لتكوين أسطورة. وهنا من المهم الاعتراف بأن المحافظين الجدد الأمريكيون من بين أول من استشعر هذه الحقيقة، حيث أنه من المفضل استخدام "الأسطورة" أو "الكذبة النبيلة" لتقوية النظام الغربي إعلاميا، وبهذا يتم ضمان أن القوة الكامنة في "الكذبة النبيلة" سيتم تسخيرها لتوليد أسباب الحرب بانتظام للإمبريالية الليبرالية العالمية. في الحقيقة علينا أن نتسائل ما هي القوة الموحدة الأفضل من "المشروع الأمريكي الكبير" للحرب لتنشيط رغبة الفرد في العظمة القومية والحاجة إلى تنظيم الحياة في روح العصر الفوضوي المضطرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. ناهيك عن أن الأبطال الغربيين يحتاجون بشدة للأشرار، وهذا تماما ما يحدث في النموذج الأوكراني والمتمثل في فلاديمير بوتين.

هذه القومية المزيفة والأدائية والعالمية لطبقة النخبة الغربية تسمح باستخدام دوافع عاطفية لحشد الناس وراء مسميات زائفة باسم القضايا الإنسانية السامية التي تخفي أهميتها الذاتية وعظمتها النرجسية. ولو أردنا تلطيف الكلمات فبإمكاننا القول أنه أصبح ما يمكن أن نسميه حالة من الحلب المنتظم والدوري للمأساة -أي مأساة- لبث الهستيريا الجماعية وصنع الدعم للإمبريالية الغربية، والنتيجة لن تكون فقط المزيد من التمكين للهيمنة العسكرية للغرب، بل أيضًا تمكين وتعزيز آلة الحرب.

قد يقول البعض أن صقور السياسة الخارجية في الغرب لم يتعلموا من حروبهم الكارثية لتغيير الأنظمة في الشرق الأوسط. ولكنهم بالتأكيد قد تعلموا أهمية التحكم وحرب المعلومات التي تستهدف جماهيرهم من خلال تعزيز وسائل الإعلام، وتشديد قبضتها على المعلومات، وتهميش الصحفيين الاستقصائيين القلائل الباقين، وإبطال الشكوك كأمثلة على المهادنة. ومما لا شك فيه أن هذا الوضع سوف يعرض الحريات المدنية وحرية الفكر في هذه المسماة "ديمقراطيات" لخطر كبير يقوض أسس الديمقراطية فيها.

إن تجانس بيئة وسائل الإعلام الغربية يمكن أن يثبت في نهاية المطاف أنه أكثر خطورة من الرقابة الحكومية البسيطة على الدول التي تحكمها أنظمة مركزية، حيث تهدف هذه الظاهرة في جوهرها إلى تكييف الرأي العام في أنماط كلام مقبولة "صحيحة" في خدمة "الكذبة النبيلة" - باستخدام القلب الطيب لمعظم المواطنين العاديين ونفورهم من المعاناة الإنسانية كطعم. هذا التطور الضار، ما لم يتم تشويهه وتحييده بالكامل، يمكن أن يمزق نسيج المجتمع الغربي نفسه، ويطلق العنان لديستوبيا شمولية داخلية تختفي فيها الحدود بين القطاعين العام والخاص، ولا يستطيع المواطنون - حتى المطلعون - التمييز بين المعلومات المزروعة أو المعززة اجتماعيً وبين وجهات نظرهم الخاصة.

من جانب آخر، ولضمان استمرار نزعة العولمة، كان على الماكنة الإعلامية الغربية المسيطر عليها من النخب في تلك الديمقراطيات، كان عليها السيطرة على الخطاب السياسي في الداخل والحد منه، وقد تمكنت من الوصول لذلك الهدف بطريقتين، أولهما ادعاء احتكار "الحقيقة"، وتشويه سمعة أي شخص قد لا يتماشى مع السرد المعتمد من خلال التشكيك في وطنيته والتشهير به كخائن للقيم الديمقراطية الغربية. والثاني هو ضمان التوحيد الكامل للروايات التي تؤمن النخب بأنها تخدم الأمن القومي - بحيث أنه حتى عند اكتشاف حالات الكذب والمعلومات الخاطئة، فلن يتم الكشف عن هذا ويتم تجنبه.

إن قيام الإعلام الغربي بتهميش التدقيق الحيادي والنزيه في الحرب الروسية الأوكرانية خطير كون الكثيرين في واشنطن أو لندن أو بروكسل قد حفزوا الصراع وشجعوه، وهم الآن يستمتعون به - مقتنعون بأن المستنقع الممتد هناك يمكن أن يصبح نوعا من الضعف بالنسبة لروسيا مثلما كانت أفغانستان بالنسبة للاتحاد السوفيتي.  وبينما قد يرغب المتشددون في اندلاع صدام بين الغرب والشرق تحت عنوان "الديمقراطية مقابل الاستبداد" لإثبات رجولتهم، فإن الوضع في أوكرانيا قد يصبح أكثر رعبا بكثير، كون أوكرانيا دولة صغيرة مجاورة لقوة عظمى، وهي منطقة عازلة تاريخية وجسر بين روسيا والغرب.

إن الحرب الغبية التي يروج لها النخب في الغرب ليست مراهنة على الرياضة، حيث يمكن للمرء أن يشعر بالرضا عن الوقوف مع المستضعف. بل هي الجغرافيا السياسية في شكلها الوجودي الأكثر عمقا. كما أن الرهانات لها تكاليف حقيقية تتعلق بحياة البشر. والنقطة المهمة هي أن هذه المأساة كانت متوقعة تماما ويمكن.

ويبقى السؤال الآن هنا في رسم النخب السياسية في الغرب ما إذا كان الغرب يريد تعريض حياة الملايين من الأوكرانيين للخطر لمجرد إبقاء أوكرانيا بمثابة حصن غربي على حدود روسيا وخنجر في حلق موسكو. وإن لزم الأمر إدانة للحرب الروسية الأوكرانية فإنه أيضا يلزم على الغرب قبول درجة من اللوم لقيادة الأوكرانيين إلى فخ قاتل وتحريضهم على مواجهة مع جارهم العملاق في الشرق. وإن أي محاولة لتصعيد هذا الصراع وإطالة أمده من خلال إعطاء أمل كاذب للشعب الأوكراني بخطاب صارم، وخطاب أخلاقي، وأسلحة مميتة، وعقوبات اقتصادية سيشعر المدنيون من كلا الجانبين بعبئها، هي محاولة غير مسؤولة وقاسية ونرجسية تقع مسؤوليتها الأخلاقية على النخب الغربية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير