عن رحيل القائدة آمنة الريماوي

03.12.2021 12:30 PM

 

كتب: نهاد أبو غوش

في مجتمعاتنا العربية – الإسلامية والمشرقية بشكل عام، قليلات ونادرات هن النساء اللواتي تبوّأن مواقع قيادية بارزة سواء في الدولة أو المجتمع أو في مجرى النضال السياسي. ومن برزت من النساء تكون في الغالب من قريبات أحد القادة المشهورين وغالبا زوجته أو ابنته، أو ممن اختصصن وتميّزن في مجالات العمل النسوي بشكل ضيّق، والاجتماعي – الإنساني – الخيري بشكل عام، في تكريس للصورة النمطية الشرقية للمرأة، والموجودة عالميا لدى كثير من الأوساط الرجعية واليمينية، حيث يقبل لها المجتمع أن تعمل في ميادين محدودة ومحصورة وكأنها وجدت للمرأة مثل التعليم للمراحل الابتدائية والتمريض وبعض مهام العمل الخيري والرعاية الإنسانية. لذلك كثيرا ما نرى أن أول وزيرة في هذا القطر أو ذاك هي وزيرة الشؤون الاجتماعية، وأن الأعمال الخيرية ترعاها وتشرف عليها السيدة الأولى أي زوجة الزعيم القائد.

في فلسطين التي تخوض نضالا وطنيا واجتماعيا مريرا ومديدا منذ أكثر من قرن، كسرت هذه الصورة منذ عقود مع صعود الثورة الفلسطينية، وظهور قيادات ثورية مثل الفدائية ليلى خالد القيادية في الجبهة الشعبية، ووجود عدد من القيادات النسائية في تنظيمات اليسار الفلسطيني بشكل خاص مثل الراحلة نهاية محمد التي قادت تنظيم الجبهة الديمقراطية في سوريا قبل انتقالها للوطن، وزهيرة كمال التي انتخبت أمينا عاما لحزب فدا، كما لعبت المرأة الفلسطينية دورا خاصا ومميزا في مختلف مراحل الثورة والنضال ضد الاحتلال، ووجدت عشرات آلاف النسوة أنفسهن مسؤولات عن تدبير شؤون العائلة على أثر اعتقال الزوج أو استشهاده، ولعل هذه الصلة باعتقال الزوج وزيارته في السجن هي التي شكلت مدخلا لانخراط كثير من النساء في العمل العام الوطني والاجتماعي.

كما كسرت هذه الصورة السلبية جزئيا، في المرحلة الراهنة من خلال نماذج فردية مثل القائدة خالدة جرار القيادية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والتي انتخبت لعضوية المجلس التشريعي وجرى اعتقالها عدة مرات خلال السنوات الأخيرة، نموذج آخر هو المناضلة آمنة الريماوي التي رحلت أواخر تشرين الثاني / نوفمبر 2021 بعد حياة حافلة بالنضال والعطاء والتضحية تميزت فيها بدورها النقابي العمالي البارز، ودفاعها الصلب عن حقوق العمال والعاملات، كما لعبت دورا مميزا في قيادة الانتفاضة الأولى من موقعها في قيادة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. ويمكن لنا أن نجد عددا من النساء المميزات في حقول متعددة من بينهن عدد من الوزيرات ومسؤولات المؤسسات المهمة غير المتصلة بشؤون المرأة والشؤون الاجتماعية، مثل ديوان الرئاسة، ووزارة الصحة وجهاز الإحصاء المركزي، وسلطة البيئة. وخلال هذا العام شهدت نقابة المهندسين الفلسطينيين وهي كبرى النقابات المهنية الفلسطينية فوز السيدة ناديا حبش بمنصب النقيبة علما أن حبش وهي سيدة يسارية ومسيحية (وهذه لوحدها إنجاز حقيقي)، سبق أن اوقفتها السلطة الفلسطينية لمشاركتها في فعاليات ضد القمع.

لم تكن مسيرة النساء هذه صاعدة باستمرار، بل على العكس، شهد المجتمع الفلسطيني سلسلة من الانتكاسات والردّة إلى الوراء، وهو ما نعثر عليه ونجده بسهولة في التهميش المنهجي للنساء واستمرار وجود قوانين تمييزية تجحف بحقهن، وتردُّد السلطة السياسية في إقرار اتفاقية سيداو ومواءمة القوانين بما يتناسب مع مطلب المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات والفرص، وتطبيق مبدا الأجر المتساوي  للعمل المتساوي، ونحن نجد أثر هذه الردة في مظهرين بارزين: إحجام مختلف القوى السياسية يمينها ويسارها، علمانييها وإسلامييها، عن الالتزام بميثاق الشرف الذي وقعته الفصائل بتخصيص ثلث مقاعد أية هيئة منتخبة للنساء، وأول من خالف هذا التوجه هو المجلس المركزي الفلسطيني نفسه الذي أقر التوجّه، ولكنه لم ينتخب سوى امرأة واحدة من بين 18 موقعا لعضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير (انتخب منهم 15 بينهم امرأة وبقيت ثلاثة مقاعد شاغرة للفصائل، حتى أن السيدة الوحيدة التي انتخبت وهي حنان عشراوي استقالت قبل نحو عام)، المظهر الثاني هو استمرار التعامل مع ترشيح النساء للمواقع القيادية كواجب قانوني أو عبء لا بد من الالتزام به شكليا، دون الالتزام به فعليا، وتعمد كثير من القوائم والكتل الانتخابية إلى نشر صور مرشحيها الذكور، ولكنها تضع أشكالا رمزية (أزهار وورود وسنابل ومساحات مظللة) بدل صور النساء. هذا الخجل من صور النساء واسمائهن نجده أيضا في بطاقات الدعوة والتهاني وما شابه حيث يجري إهمال صور النساء وتجاهله وكأنه عار أو عورة.

وبالعودة إلى القائدة الوطنية والنقابية آمنة الريماوي التي رحلت مؤخرا وهي في أوائل الستينات بعد صراع مع المرض، فقد أمضت هذه السيدة عدة سنوات في سجون الاحتلال، وكانت من مؤسسي كتلة الوحدة العمالية والاتحاد العام لنقابات العمال، وترأست نقابة العاملين في الزراعة والصناعات الغذائية، كما شاركت في تأسيس مركز الدراسات العمالية، وعرفت بنشاطها الدؤوب منذ أواسط السبعينات وحتى سنوات قريبة حين داهمها المرض، وربما لا توجد قرية ولا بلدة ولا مخيم ولا مصنعا أو موقع عمل إلا ويعرف من هي آمنة الريماوي التي قادت نضالات عمالية باسلة للدفاع عن مصالح العمال وحقوقهم وحق العاملات في إجازة الأمومة، ولم ينفصل كل ذلك عن دورها الوطني حيث شاركت في قيادة الانتفاضة الأولى بمختلف أشكال العمل التنظيمي والجماهيري والتعبوي، ما أهلها لانتزاع مكانة وطنية وعربية وعالمية باعتبارها من ابرز النقابيات العماليات في العالم، وفي كل هذه المحطات والأدوار انتزعت آمنة لنفسها دورا مؤثرا ومكانة مرموقة من تمثُّلها لمصالح الناس وإخلاصها للقضايا التي ناضلت من أجلها، وارتباطها بالبسطاء والعمال والمضطهدين، وليس من أية "كوتا" أو أي دور نمطي مرسوم مسبقا للمرأة.

ولعل من أبرز خصائص المرحومة آمنة أن كل نضالها من أجل العمال والعاملات، ومن أجل النساء بشكل عام، ارتبط بالنضال الوطني والمجتمعي الواسع من أجل الحرية والاستقلال، على اعتبار أن قضية المرأة هي قضية المجتمع بأسره وقواه السياسية وطبقاته، وليس من خلال النزعة الانعزالية التي تظهر احيانا في أنشطة الأطر النسوية وكثير من المناضلات النسويات اللواتي يساهمن سواء بقصد أو من دون قصد في إضعاف قضية المرأة، من خلال التركيز على الجانب الجندري، وتصوير الصراع على أنه "امرأة ضد رجل"، والتركيز على قضايا ثانوية وهامشية مثل الحجاب بدل التركيز على حق التعليم والعمل والحق في اختيار الشريك.

في كل هذه الأدوار الآنفة الذكر، لم تنعزل آمنة عن هموم اسرتها وقريتها "بيت ريما أو بيت لقيا بلدة زوجها" فأسست مع شريك حياتها المهندس أبو فادي أسرة جميلة، حظي فيها أبناؤها الأربعة بتعليم جامعي، وظلت مرتبطة بالقرية والزيتون والعائلة والبساطة والتواضع والثوب الفلسطيني وكل مظاهر الأصالة والانتماء.

كما نالت آمنة الريماوي احترام وتقدير الجميع نظير شجاعتها وإخلاصها لقضايا العمال، ففي جنازتها شارك ممثلون عن جميع القوى السياسية وأبّنها بكلمات مؤثرة متحدثون من فتح وحماس واليسار والنقابات العمالية والحركة النسوية.

خسر الشعب الفلسطيني قائدة وطنية ونقابية بارزة وبقي لمناضليه نموذج ملهم في الإخلاص لقضايا العمال والشعب والوطن.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير