الطبيعة تشفي نفسها فمن يشفينا؟

26.10.2021 10:51 PM

وطن- سعد داغر

كوارث تصيب الطبيعة في كل أنحاء العالم بلا توقف، بعضها طبيعية، تدخل ضمن دورات وظواهر الطبيعة كالزلازل والبراكين والحرائق الذاتية للغابات.

تارة تضرب في بنغلادش وأخرى في ألمانيا، حرائق غابات في كاليفورنيا وأخرى في الجزائر تمسح مدنًا وقرى عن الوجود، وتُحيل الغطاء الأخضر إلى أسود داكن.

موجات عاتية من غضب البحر تدمر في اليابان، وأعاصير تجعل مدناً في أمريكا كالعصف المأكول، ظواهر تجعلنا بحاجة لاستخدام مصطلحٍ آخر غير مصطلح "الكوارث"، مع ما تُحدثه من ضرر بالمفهوم الذي نسقطه نحن البشر على نتائج تلك الظواهر الطبيعية حين تحدث كصفة من صفات الطبيعة. إنها حالة موتٍ مؤقت في جانب ولكنها ميلاد وتجدد في جانبٍ آخر.

ارتفاع للحرارة في مكان من المعمورة وانخفاضٌ في مكان آخر، سكونٌ للبحر في قطبٍ وأمواج عاتية في آخر.
هي دورات في الطبيعة وللطبيعة لا تتوقف وبها تتجدد. حالةٌ من الثنائية التي ندرك بها الشيء ونقيضه، لتكتمل صورة الحياة، فنحن ندرك البرد بالدفء، وندرك النور لوجود الظلام، والحق بالباطل، والعدل بالظلم، والصحة بالمرض والسكينة بالفوضى.
فالظلام هو غياب النور، والباطل هو تقهقر الحق، والظلم هو تغييب العدل، كما الجهل هو طمس العلم والمعرفة، والمرض هو غياب الصحة، والكراهية أُفول للمحبة.

إن ما يمكن أن نطلق عليه بحقٍ مصطلح كوارث هي تلك الجرائم التي نرتكبها نحن البشر بأيدينا بحق الطبيعة كل يومٍ وكل ساعة، نصنعها في أكلنا وشربنا غير الواعي، في سيرنا في الشوارع وترحالنا في الجبال، ونحن نقود السيارة أو في السفينة، نُلقي بكل أوساخنا حيث مررنا وحيث حللنا، نصنع الكوارث ونحن نزرع ونحصد، ونحن نُصنّع ونستهلك، فليست الطبيعة هي من ملأت الأرض والبحار بالنفايات الخطرة فأماتت الأسماك في بطن البحر وألقت بالحوت على شواطئه.

ليست هي من يلقي ملايين الأطنان من البلاستيك في التربة والمياه، وليست هي من ينفث كل تلك الغازات السامة في الهواء الذي نتنفس، وكل تلك السموم على التربة التي نزرع، والمحاصيل التي نأكل، والمياه التي نشرب.
ليست هي من يريد استغلال وتخريب كل بقاع الأرض بحثاً عن معادن وغاز ونفط، تلبيةً لجشع الإنسان وتعزيزاً للنزعة الاستهلاكية التي زرعها النظام الرأسمالي في عقول البشر وبَرمج عقولنا على تلك النزعة.

ليست الطبيعة هي من يتعمد قطع وحرق وتدمير غابات الأمازون - رئة الأرض - من أجل تحويلها إلى مراعي أبقار تنتج لحومًا لمطاعم أمريكا، ولا الطبيعة هي من يقطع الغابات الطبيعية في الفلبين والهند وتايلاند لزراعة نخيل الزيت، الذي ينتج أرخص وأسوأ أنواع الزيوت على صحة البشر.

ليست الطبيعة من يُلقي بملايين الأطنان من المتفجرات على الأرض لقتل البشر والحيوان والشجر وتدمير الجبل والحجر. ليست الطبيعة صانعة كل تلك الجرائم، إنما هو الإنسان، الذي يُسرف في استنزاف الموارد وتدمير الطبيعة عبر أعمال تؤدي إلى كوارث تظهر في ازدياد الأعاصير عدداً وحدّة، وارتفاع حرارة الأرض الذي يسبب ذوباناً للجليد يؤدي إلى ارتفاع في البحار سينتج عنه اختفاء بلادٍ وبلاد، واضطراب الهطولات المطرية التي بتنا نشهدها حين يهطل المطر بكميات كبيرة في وقت قصير مُحدثاً فيضانات كارثية كما شهدنا في الأشهر السابقة من هذا العام في بلدانٍ مختلفة، ثم ينقطع المطر لفترات أطول فيتركنا نعاني العطش وسوء الإنتاج الزراعي وموت المراعي وجوع المواشي.

هذه الظواهر وغيرها تزداد حدةً، وتزداد بعدها الخسائر والمآسي وينتج عنها الفقر والجوع والمرض، في وقت لا تتخذ فيه الحكومات إجراءات حقيقية لوقف المسببات البشرية للكوارث التي تلحق بالطبيعة وتضرب الحياة، بل وفي كثير من الحالات تكون الحكومات شريكةً في صناعة الكوارث بسياساتها العقيمة تارةً، وبتواطئها مع الشركات الناهبة للقارات والخيرات تارةً أخرى.
وما الاستخدام الهائل للمتفجرات وبقوة تدميرية غير مسبوقة في الحروب إلا دليلٌ على ما تصنع يد الإنسان من كوارث، والتي حولَّت أماكن واسعة إلى مناطق غير قابلة للحياة.

وما الكوارث البيئية والاقتصادية التي أحدثها منع مياه الفرات من التدفق نحو سوريا، وهجر سكان عشرات القرى السورية لقراهم وما تَبعه من أحداث وحرب مستمرة لأكثر من عقدٍ من الزمان، إلا أوضح مثالٍ على ظلم الإنسان لأخيه الإنسان وفتكه بالطبيعة في آنٍ واحد، وتجعلنا نتساءل من أين له بكل هذا الحقد على الإنسانية والطبيعة؟

مِن هذه الصورة الحية ومع ما نرتكب من أعمال وما تواجهنا من كوارث ومآسٍ تلحق بالبشر وبكوكب الأرض، انبثقت مجموعات بشرية أخذت على عاتقها مسؤولية حماية البيئة والطبيعة والحفاظ عليها من كل ما يلحق بها من تخريب.

ظهرت أحزاب بيئية وحركات اجتماعية وتحالفات، كحزب الخضر في أوروبا وغيرها، وتحالفات وشبكات مثل شبكة القرى البيئية العالمية وتحالف "الدفاع عن المقدس"، وحركة "شُفاة الأرض" وحركات الفلاحة البيئية وغيرها الكثير الكثير في بلدان العالم.
وكلها تعمل وفق قدراتها وإمكاناتها المادية والبشرية من أجل حماية الطبيعة وصونها، مع الإدراك أن فوضى المناخ الحالية إنما تتسبب بعنفٍ مشهودٍ وصل حد النزاعات والحروب المسلحة وهجرة البشر من أماكنهم إلى بلاد جديدة، كما يجري عبر البحر المتوسط من انتقال لسكان البلاد الأفريقية نحو أوروبا، مع كل المآسي التي تصاحب ابتلاع البحر لمئات الناس، الباحثين عن حياةٍ رغيدة في بلاد الشمال.

وفي الوقت نفسه، ما زالت تجارب التاريخ تثبت لنا أن الطبيعة تتحلى بمرونة كافية لإعادة تجديد ذاتها وفي فترة قصيرة، بل وقصيرة جداً، بعد أن تحل بها كارثة، وهي قادرة على شفاء نفسها إذا كَفَّتْ يدُ الإنسان عنها، وتوقفت دورات الفوضى والعنف التي يُحدثها البشر بحق أنفسهم وبحق الطبيعة وتوقف التخريب المتواصل.

فالغابة إذا تُركت فإنها تُجدد نفسها في سنوات قليلة بعد أن تحترق أو تُقطع أشجارها، لتعود إلى سابق عهدها، والأنهار يمكنها أن تعود لمجراها بكل ما فيها وما حولها من حياة إذا تُركت مياهها لتتدفق في المجرى.
والبحار والمحيطات قادرة على تنقية نفسها إذا توقَّف التلويث البشري لمياهها، وتوقَّفَ سكب النفط والمجاري ومخلفات المصانع والأسمدة والمبيدات الكيماوية فيها.

هي قادرة على شفاء نفسها دون تدخل الإنسان، لكننا نحن مَن يحتاج لمن يشفينا من أمراض حُفرت عميقاً في ذواتنا، أهمها مرض الجشع المتسبب في معظم مآسينا.

المرض الذي ترَّسخ في العقول وتمظهرَ في أوضح صوره حين صدَّق الإنسان أنه سيد الطبيعة، وأن الطبيعة إنما خُلقت لخدمته وليس العكس، فعاثَ فيها فساداً وتخريبًا.

نحن بحاجة للشفاء من مرض الأنانية السلبية التي جعلت منا فردانيين لا جماعيين فلا نتقن فن العيش معاً، فقدنا القدرة على التواصل والعمل لخير بعضنا وخير أمنا الأرض.

فكيف قَبلنا أن نكون هكذا فردانيين؟ كلٌ يفكر في نفسه فحسب. كيف قَبلنا أن تغيب عنا روح الجماعة واستبدلناها بمحاولات بائسة لإيجاد السعادة الفردية غير آبهين بسعادة الآخرين؟!
كيف قَبلنا هذه النزعة الفردية بحب الخير للذات فقط على حساب غيرنا، دون التفكير بالخير الكلي؟
كيف قبلنا بالعمل الفردي والحياة الفردية بينما نحن مخلوقات جماعية كما الخيول البرية والنمل، كما الأسود والنحل؟
كيف ابتعدنا عن فهم هدف ورسالة وجودنا على الأرض المتمثلة في الارتقاء وتطور الوعي الروحاني العميق؟
جهلُنا بجوهر رسالة وجودنا قاد إلى الحروب وصناعة المآسي التي نعاني منها يومياً وكل ساعة.. إلى تدميرنا الذاتي بعد أن دمرَّنا الحاضنة الحنونة التي تشفينا من كل أمراضنا - أمنا الطبيعة - التي نحيا فيها وبها ومعها، فما ابتعادنا عنها وعن فهم علاقتنا بها إلا أحد أقسى أسباب أمراضنا النفس-جسمانية والعقلية.

وفي محاولاتنا ضمن الأفراد والجماعات والحركات والأحزاب العاملة لحماية البيئة، إنما نفعل ذلك لأننا نحن البشر من يحتاج الشفاء، وبعملنا مع الطبيعة وصونها، إنما نريد صون ذواتنا من أمراض العصر المزمنة التي تحفر عميقاً في أرواحنا. الطبيعة ليست بحاجة لنا على الإطلاق، ولم تكن يوماً بحاجتنا، ولنا أن نتخيل شكل الأرض لو لم يكن الإنسان موجوداً فيها، أو لو كانت نشاطات الإنسان تحدث بانسجام وتوازن مع عناصر الطبيعة، كما يفعل السكان الأصليون في بقاع الأرض المتفرقة!

إن الإنسان هو عنصر التخريب الوحيد على الأرض بما يقترفه، بينما الطبيعة قادرة على الاستمرار من دوننا، بل أنها تنتعش أكثر في غيابنا، وتعود لتوازنها وتكتمل دوراتها، من دورة المياه على الأرض، إلى دورة الكربون وتتوازن جميعاً كما كانت قبل بدء العبث البشري.
لكننا نحن غير القادرين على الاستمرار دون الطبيعة، نحن المرضى الذين نحتاج لمن يشفينا، وهذا ما يدركه المدافعون العاملون من أجل البيئة في ميادين الزراعة وإنتاج الغذاء وميادين المياه واستعادة الدورة الطبيعية لها، حماية الغابات والينابيع، حماية الأنهار ومجاريها الطبيعية، ندرك أننا بما نعمل من أجل هذا الكوكب وشفائه، من أجل صون البيئة وحمايتها، إنما نبحث عن وسيلة شفاء لنا، لأننا مَن يحتاج إلى الشفاء، وندرك أنه كلما زادت الأمراض التي نُحدثها في جسد الأرض وجلدها أسّسنا لدورات متواصلة من الأمراض في أجسادنا ونفوسنا وأرواحنا، لعلنا نجد في جهدنا لشفاء الطبيعة شفاءً لنا.

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير