من المسئول.. ؟؟

التعليم في فلسطين: نتائج صادمة ومؤشرات خطيرة

28.08.2021 08:08 PM

كتب: مروان ترزي

تشير الدراسات والأبحاث النوعية والكمية، دولية كانت أم محلية، وحتى دراسات وزارة التربية والتعليم، إلى نتائج مقلقة للغاية لوضع التعليم في فلسطين، ومع أن الاختبارات ليست الطريقة الأفضل لتقييم نظام التعليم، إلا أن مستوى التحصيل الصادم في الاختبارات الوزارية لمادة الرياضيات للصف العاشر مثلا هو مؤشر واضح لهذا الفشل، حيث لم يتعدى متوسط تحصيل الطلبة منذ عام  ٢٠٠٨ الـ٣٠٪ !!![1] وفي امتحانات الـ[2]TIMSS العالمية، كانت مرتبة فلسطين من أدنى المراتب بين الدول. ولا يبدو أن هناك ما يشير إلى تدخل، أو حتى يسترعي اهتمام الحكومات الفلسطينية المتتالية والمعنيين، خصوصا وزارة التربية والتعليم، وكأن إعادة إنتاج الفشل بنكهات مختلفة هي خطة التشغيل الاحتياطية.

وينطبق هذا الحال على كافة المراحل التعليمية بما فيها الجامعات والكليات التي تستقبل أفواجا ضعيفة التحصيل وتودع أخرى لا تصلح لا لسوق العمل الفلسطيني الذي لا يوفر وظائف سوى لـ ٢٠٪ من خريجي الجامعات كل عام ولا للسوق العالمي غير المحدود، مما يزيد من حجم البطالة ويراكم السوء في الوضعين الاقتصادي والاجتماعي ويعود بالضرر على كافة فئات المجتمع ومؤسساته.

ملامح الأزمة التعليميّة وجذورها

يُقحَمُ اَلطَّلَبَة بعد تخرّجهم في عالمٍ تُحَفه المخاطر والتحدّيات فمن المتوقّع أن تشهد منطقتنا نقصًا هائلًا في الوظائف وارتفاعًا في نسب البطالة بين أوسط الشباب، الأمر الذي سيؤجّجه فشلُ النظام التعليميّ في إعداد الطلّاب لمواكبة "الثورة الصناعيّة الرابعة"، التي ستسحب فيها الأنظمةُ الآليّة والتطوّرات التكنولوجيّة بساطَ الوظائف التقليدية من تحت أقدام البشر بوتيرةٍ متسارعة، وسيكون تخلّف فئة الشباب عن الرّكب نتيجة حتميّة لمحدوديّة قدرات المنطقة على الاستثمار في مجال الوظائف الحديثة التي يخلقها الاقتصاد الرقمي أو على المنافسة في هذا المجال، وهذا ما تعزّزه الأوضاع السياسيّة المتزعزعة والمُدمِّرة دائمة الحضور في المنطقة، أضف إلى ذلك التدهور البيئي المتسارع بسبب الاستهتار بموارد الأرض الطبيعية واستنزافها وجشع رأس المال العالمي والتي سوف تمس آثاره المباشرةُ أمنَنا الغذائيّ، والنقص المتزايد في مصادر الماء، وكوارثَ بيئيةً ووبائية متعاقبة ستطالنا جميعًا لا محالة.
تتطلبُ الاستجابةُ لهذه التوقعات المتشائمة، شبه الحتمية، تحوّلًا فوريًّا وشاملًا في نظام التعليم الحالي، يضمنُ توفير جودة تعليميّة عالية تمكّن الشباب وعائلاتهم والمجتمع بمجمله من إيجاد طرقٍ آمنة عبر غدٍ محفوف بالمخاطر. ورغم مواصلة نظام التعليم الفلسطينيّ في تقديم أداءٍ متواضع جدا في كلّ مراحله، ابتداءً من الطفولة، ومرورًا بالمستوى الابتدائي ثمّ عبر مراحله العليا، فإنّ الغريب في الأمر هو "الرضا" الذي تبديه القيادات التربوية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحتّى الطلّاب والأهل أنفسهم، عن هذا الواقع من خلال تعاملهم مع الفشل على أنّه أمر طبيعي.

ومن الدلالات الصارخة على هذا الفشل ما يقدّمه طلّاب الصفوف التاسع من نتائج في مادّتي العلوم والرياضيّات في الاختبار الموحّد الذي تجريه وزارة التربية والتعليم بشكل دوريّ، والنتائج المجدولة أدناه تشير إلى أداءٍ تعليميّ مزرٍ لطلبة الصّفّ التاسع خلال العام الدراسي 2017/2018، ولم تكن نتائج الأعوام السابقة بحال أفضل.

"نتائج أوّليّة للتقويم الوطني في الرياضيات والعلوم والرياضيات للصفين الخامس والتاسع للعام الدراسي 2017/2018" وزارة التربية والتعليم الفلسطينيّة.[3]

يواكب هذا الواقع، الذي يفتقر فيه نصف الطلبة إلى الحد الأدنى من المعرفة في العلوم والرياضيات، حتى قبل الجائحة، عصرًا تبلغ فيه أهمّية المعرفة العلمية والرياضيّة ذروتها، فنحن نعايش اندماج الأنظمة والأجهزة الذكيّة في جميع مكوّنات حياتنا اليوميّة والتي يزداد "ذكاؤها" يومًا بعد يوم. وهذا ما يبرز من خلال تفاعلها الحيوي معنا، وانخراطها وسيطًا في علاقاتنا الاجتماعية، وتأثيرها المبطن على قراراتنا وأفكارنا وسلوكنا، إلى درجة بلغ تعاملها مع كلّ فرد منّا باعتباره مجرّد "جهاز" آخر ينتج ويستقبل بيانات، فهو مرتبط بهذه الشبكة العالمية فائقة "الذكاء" التي تحاول استغلالنا والتحكّم بنا وتمطرنا بكمّيّات مهولة من المعلومات والبيانات المتضاربة، وبعضها مخصص لتوجيه قراراتنا والتلاعب بأفكارنا. نحتاج في ضوء ذلك، ومن أجل استعادة السيطرة على قراراتنا وحياتنا، إلى التفاعل العلمي والتحليلي المسؤول مع هذه البيئة الرقمية. وهذا يعني أنّ علينا التفكير بطريقة تحاكي خبراء تصميم هذه الأنظمة، وفهم الأسس التي تقوم عليها، والتسلّح بالمعرفة التي تمكّننا من التمييز بين الحاجة للاستفادة منها أو التحصّن ضدّها. والأهمّ من ذلك، هو ألّا نهمّش أنفسنا عن هذه المنظومة التكنولوجيّة أو نقصيها، بل أن نشارك فيها بفاعليّة ثقافيّة واجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة، دون المساومة على قيمنا وإنسانيّتنا في مواجهة هذه التغيّرات الهائلة.

من الواضح أن نظامنا التعليمي الحالي عاجز عن تهيئة الطلّاب لهذا الواقع، حيث تشير نتائج الاختبارات الموحّدة إلى أنّ هذا النظام ينتجُ جيلًا شبه أميّ في الرياضيات والعلوم (على الأقل) حتى الصف العاشر. ومن الصعب أن يرتقي تحصيل طلبة الثانوية العامة، بين عشية وضحاها، إلى مستويات تفوق كل التوقعات، كما يحصل في النتائج الباهرة لناجحي الثانوية العامة  كما يشير البيان [4]، دون "هندسة" معينة تنشر الفرح المزيف بين أوساط الطلبة وأهاليهم وترفد الجامعات والكليات بالمقبولين والمسجلين الذين يقضون عدة سنوات هناك ثم يخرجون بلا قيمة مضافة.

من المدرسة إلى الجامعة:

تكرس الجامعات هذا الفشل من خلال سياساتها المتعلّقة بالقبول والالتحاق والتي تعتمد على معدل علامات الثانوية العامة فقط (مع التنافس الشديد على الطلبة حيث تقدّم جميع مؤسسات التعليم العالي برامج أكاديمية متطابقة إلى حدٍّ كبير).

وفي ظلّ الأزمات المالية الخانقة التي تواجهها هذه المؤسسات بسبب شحّ التمويل، والأوضاع الاقتصاديّة والسياسيّة، وعدم وفاء الحكومة الفلسطينية بالتزاماتها المالية تجاه الجامعات؛ والزيادة غير الطبيعية في عدد الجامعات،  وعدم القدرة على رفع أقساط الطلبة بسبب ضغوطات الاتّحادات الطلّابية، أو تقليل التكاليف بسبب قوّة نقابات الأساتذة والعاملين، لا يبقى أمام الجامعات من الخيارات الماليّة سوى التعامل مع التعليم العالي بسياسة اقتصاد السوق الحر: زيادة عدد الطلاب في الصفوف بنسبٍ مرتفعة جدا لتغطية التكاليف، في بيئة تكافح معظم هذه المؤسّسات مَالِيًّا من أجل البقاء، أو تعاني من ضغط مستثمريها في سبيل تحقيق الرّبح في حال الجامعات الربحية، وهذا ما حوّل التعليم العالي في فلسطين إلى سلعة زُجَّ بها في اقتصاد سوق حرّة غير منظّم ودون وجود معايير جودة مطبقة أو وجود جهات فاعلة تطالب بتلك المعايير سواء من الحكومة، أو قيادات المؤسسات التعليميّة، أو أولياء الأمور، أو قطاعات المجتمع في نطاقه الواسع، أو حتّى الطلّاب أنفسهم!

يأتي ذلك في غياب أيّ بديل محلّي لمسارات تعليم جامعي ذات جودةً عالية بأجندة فلسطينية تواكب السوق والاحتياجات، ممّا يضطرّ الطلّاب الراغبين في الحصول على تعليم أفضل للالتحاق بِمُؤَسَّسَات تعليم في الخارج، وهو الأمر المتاح فقط للفئة القليلة المقتدرة من كافة النواحي.
ما لا تدركه قيادات مؤسّسات التعليم في فلسطين (وإذا كانت تدرك فالمصيبة أعظم) هو وتيرة التّسارع الشديد الذي تتغيّر طبقا له منظومة التعليم العالمية، ممّا يعني أنّ عهد احتكار مؤسسات التعليم المحلية للتعليم سوف ينتهي قريبًا، لأنّ التغيرات الرقيمة والذكاء الصناعي والوسائط الافتراضية، وغيرها من المعطيات، سوف تُدخِل إلى "سوق" التعليم المحلّيّة جهاتٍ دوليّة تقدّم خدمات تعليم عالٍ بجودة أعلى وقدرة أكبر على توفير فرص عمل للخرّيجين، باستخدام منهجيات أكثر استجابةً لثقافة الجيل الجديد، وبأسعار أقلّ، مرتهنةً بالطبع إلى أجندتها الربحية، والثقافية، والسياسية.

كيف نعمل معًا لإنقاذ مستقبل أبنائنا؟

من أجل منع هذه الأزمة من التفاقم، يتحتّم الدفع باتجاه تغيير مكانة التعليم الحاليّة في فلسطين، ويتوجّب اتّخاذ قرارات فوريّة على مستوى السياسات، وذلك من خلال التدخلات التالية:

الانتقال نحو نماذج تعلّم جديدة من ناحية المحتوى والمنهجيّات، تضمن للأطفال اكتسابَ مهارات التفكير النقدي، والتعلّم الذاتي، والمهارات الحياتية، والانخراط في البحث، وتطوير ذهنيّة التفكير الحاسوبي، وتطبيق المعارف التي يكتسبونها في سياقات حياتهم المختلفة، والتركيز على الاختراع والإبداع وإنتاج المعرفة المتواصل، لأنّ هذا ما سيكفل لهم البقاء على صلة مع التغيّرات التكنولوجيّة المعاصرة وفي نفس الوقت التميز عن أنظمة الذكاء الاصطناعي... والأهمّ من ذلك، الحفاظ على غايات وفلسفة التعلم الأساسية والتي تشمل القيم والتفكير المعمّق، والمساءلة، والشّك، والنّقد، والفلسفة، وبناء وتقبل الآراء المختلفة.

يتطلّب التحوّل المذكور أعلاه تغييرًا جذريًّا موازيًّا في نموذج "تقديم خدمة التعليم"، فقد عفّى الزمن على فكرة معياريّة طريقة التعلّم أو المسار التعليمي الموحد التي يتبنّاها نموذج التعليم الحاضر ، ولا يمكننا الاستمرار في الاعتماد عليها، فالتكنولوجيا تتيح فرص تعلّم لامحدودة لكلّ المهارات والدرجات، رسميّة وغير رسميّة، دون قيود مكانيّة أو زمانية، وسيتلاشى احتكار وزارات التعليم والمدارس والجامعات لقطاع خدمات التعليم سريعًا. وذلك، بدايةً، لأن مكان العمل بدأ يحوّل اهتمامه من الدرجات الجامعية التي يحملها الموظّف نحو ما لديه من مهارات ومعرفة وسلوكيّات محدّدة بما يقرّه السوق أو صاحب العمل. ثانيًا، لأنّ التكنولوجيا والقدرة الاتّصالية الشاملة سهّلت من تحوّل التعليم إلى سلعة بيانيّة او رقمية تزوّدها شركات البيانات العملاقة مثل غوغل وفيسبوك وغيرها. باستطاعة هذه الشركات، نظرًا لإمكانيّاتها الهائلة، تقديم سلع تعليميّة جذابة وحيويّة، أرخص وأنجع من تلك التي تقّدمها سوقنا المحلّيّة، وستكون هذه السلع أكثر مواءمة لسوق الاقتصاد الحر. إن لم نتحرّك سريعًا لتغيير نماذج التعليم التي نعتمدها وطرقنا المتّبعة في تقديم خدمات التعليم، ولم نبدأ بإكثار مسارات التعلّم وطرقها وتنويعها بما يضمن ارتباطها بالمعطيات الحاضرة واتّسامها بالإمتاع والقدرة على الجذب سنفقد أيّ سلطة على تحديد ما سيتعلّمه أطفالنا، الذين سيجتاحهم نظام تعليم عالمي تقوده شركات ضخمة بما يتناسب مع أجنداتها والقيم التي ترغب بترويجها.

لم تكن المؤسسّة التعليمية التقليدية قادرة في أيّ مرحلة من مراحلها على إحداث الإصلاحات، حتّى ضمن النموذج التقليدي، وحتّى في الفترات التي كانت الظروف السياسيّة والاقتصاديّة فيها مواتية أكثر مما هي عليه اليوم. ما نحتاجه الآن يتجاوز مجرّد الإصلاح إلى مرحلة التحول، وهناك حاجة ماسة وملحّة لتغيير مسار النظام التعليمي برمّته من أجل تجنّب كارثة اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة أسوأ مما نواجه اليوم، والطريق الوحيد لتحقيق ذلك هو إتاحة المجال لقيادات المجتمع الأكاديمية والفكرية والاجتماعية المختلفة إلى جانب وزارات التعليم والمؤسسّات التعليمية الأخرى للتدخّل في عمليّة حوكمة وتصميم وتسيير وإدارة ومتابعة نظام التعليم. تأتي ضرورة هذا الإجراء ليس مجرّد استجابةٍ لإخفاق النظم التقليديّة في النهوض بقطاع التعليم طوال فترة إدارتها المتفردة لهذا القطاع، ولكن لأنّ حجم التغيير المطلوب لبثّ الأمل في تحقيق نظام تعليم مستقبلي ينطوي على أجندة تحرّر فلسطينيّة يتطلب مشاركة الجميع، بما فيه المؤسّسات التعليمية، والقطاعات الحكومية والخاصّة والمجتمع المدني، والأهل، والأهمّ من ذلك كلّه هم الطلّاب أنفسهم. فالتعليم مسؤوليّة الجميع، وكما يقول المثل الإفريقي: تتطلّب تربية طفلٍ واحدٍ قريةً بمجملها.

*مروان ترزي هو مدير مركز التعليم المستمرّ في جامعة بيرزيت. تركّز ممارساته على تطوير نماذج تعليم خاصّة بالسياق المحلّي، سعيًا لتغيير أساليب التعلّم والعمل والتفاعل مع المجتمع في عالم سريع التحوّل. يركّز ترزي في تخصّصه الوظيفي على إعادة تصميم نماذج تطويريّة تشدّد على معنى التعلم الحقيقي الذي يتلخّص في إنتاج المعرفة، والابتكار، وتطوير المهارات السياقيّة المتوائمة مع بيئة المتعلّمين. تم نشر هذه المقالة باللغة الانجليزية في مجلة “This Week in Palestine”[5]

 

[1] المصدر: http://www.moehe.gov.ps/LinkClick.aspx?fileticket=j5OCWrFGLQU%3d&tabid=209&portalid=0&mid=893 (ص: 5)

[2]  https://timssandpirls.bc.edu/timss-landing.html

[3] http://www.moehe.gov.ps/LinkClick.aspx?fileticket=My7xTWnN58k%3d&tabid=209&portalid=0&mid=893

[4]المصدر: https://twitter.com/akhooli/status/1423650944370216964

[5]المقالة باللغة الانجليزية: https://thisweekinpalestine.com/our-education-system-is-failing/

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير