بيتــا.. أيقونـة المقاومـة الشعبية الفلسطينيـة

24.08.2021 10:41 PM

كتب : مصطفى البرغوثي
الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية

بيتا بلدة فلسطينية، تقع على مسافة 13 كم جنوب شرقي مدينة نابلس في الضفة الغربية، وعدد سكانها حوالي ستة عشر ألف نسمة. سميت بيتا باسمها هذا لكونها مبيتاً آمناً لجميع السكان، ويقال، حسب موسوعة ويكيبيديا، أنها كانت مبيتاً للحجاج في العصور السالفة.
كانت بيتا دوما قلعة للنضال الوطني الفلسطيني، واشتهرت بشكل خاص لدورها في الانتفاضة الشعبية الأولى، وكانت سبباً مباشراً في فضح سياسة الاحتلال، وتحديداً سياسة تكسير العظام التي إبتدعها وزير الدفاع الإسرائيلي، الذي أصبح رئيساً للوزراء اسحق رابين، عندما اعتقل جيش الاحتلال في أواخر كانون الثاني من عام 1988 خمسة وعشرين شاباً من أبنائها، والتقطت كاميرات الإعلام صوراً نادرة لجنود الاحتلال وهم يكسرون عظام أربعة من هؤلاء الشبان، وهم مقيدين بالأصفاد بعد اعتقالهم، ما أثار موجة غضب عالمية، وساهم في تعاظم حركة التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني وانتفاضته الشعبية.
تجاوزت بيتا شهرتها خلال الأربعة شهور الأخيرة من هذا العام لتقدم واحداً من أفضل نماذج المقاومة الشعبية الفلسطينية للاحتلال والاستعمار الاستيطاني.
وبدأت معركتها هذه رداً على محاولة الاحتلال الاستيلاء على أراضي تعود للقرى، بيتا وقبلان ويتما، في ما يعرف بجبل صبيح لإنشاء مستعمرة جفعات "أفيتار" الصهيونية الاستيطانية.
وتمتد المنطقة المستهدفة على حوالي أربعة كيلومترات، لكنها كيلومترات ذات أهمية إستراتيجية فائقة، فاستيلاء المستوطنين عليها يعني شطر الضفة الغربية بين منطقة الوسط والشمال إلى شطرين، تماما مثل أن الاستيلاء على ما يسمى بمنطقة (E1)، جنوبي القدس، يشطر الضفة الغربية بين الوسط والجنوب إلى شطرين منفصلين.
دوماً كان جبل صبيح هدفاً للإستعمار الإستيطاني وقد أفشلت بيتا بنضال أهلها محاولات متكررة للاستيلاء عليه.أما هذا العام، فاتخذت الأمور مجرىً أكثر خطورة، عندما أنشأ المستوطنون على أراضي الجبل، المملوكة من المواطنين الفلسطينيين مستوطنة جديدة أطلقوا عليها إسم "جبعات أفيتار".
وعلى مدار المائة وعشرة أيام الأخيرة، لم تهدأ بيتا للحظة واحدة، بل ابتدعت واحداً من أفضل نماذج المقاومة الشعبية لإجبار المستوطنين المستعمرين على الرحيل عن أرضها.
وبالإختلاف عن مناطق أخرى، فإن مظاهرات بيتا الشعبية استمرت يومياً وليس فقط أيام الجمع، وتصاعدت ليلاً ونهاراً، دون أن تعطي لجنود الاحتلال والمستوطنين فرصة لالتقاط لحظة هدوء، واقتبست بيتا من مسيرات العودة وقطاع غزة، أسلوب الإرباك الليلي، وحمل المشاعل.
وعلى مدار هذه "الانتفاضة" الحقيقية، صمدت بيتا لقمع الاحتلال الإجرامي الذي أودى حتى اليوم بحياة سبعة شهداء تتراوح أعمارهم بين سن الفتوة وسن الرجال الذين تركوا وراءهم عائلات وأبناء وبنات. وبالإضافة إلى ذلك، أصيب حوالي مائتي شاب بالرصاص الحيَ، ووصل عدد المصابين بالرصاص المعدني المغلف بالمطاط وقنابل الغاز إلى حوالي ثلاثة آلاف.
ما ميز بيتا عن غيرها، مشاركة جميع سكانها من رجال، ونساء، وشباب، وشابات، وفتيان، دون إستثناء في هذه الانتفاضة، أي إن المقاومة الشعبية فيها ليست مقتصرة على أعداد محدودة كما في بعض المناطق.
وما ميزها، ثانياً، وحدة الجميع، بغضَ النظر عن الاختلاف في الأفكار والإنتماءات، وأن نشاطاتها تجري تحت راية واحدة، راية فلسطين.
وما ميزها، ثالثاً، الاعتماد على النفس، وعدم انتظار أي مساعدات من الخارج، ورفضها، كما يقول أهلها، أي إغراءات مالية، يمكن أن تؤثر باستقلالية قراراتهم الكفاحية، وكم كانت مؤثرة مشاهدة أهالي البلدة يتسابقون على تقديم الطعام والشراب للمتظاهرين.
وما ميزها، رابعاً، طول النفس، والاستمرارية والثبات والإصرار على تحقيق أهدافها كاملة، مع إبداع خلاق في ابتكار أساليب المقاومة الشعبية، والذكاء في تطبيق قاعدة وضع الخصم في حالة حيرة.
أما الميزة الخامسة، فهي حسن التنظيم والانضباط، والدور الذي تقوم به اللجان الشعبية المختلفة. فهناك لجان للحراسة، ولجان للتموين، ولجان صحية لرعاية الجرحى، ولجان للإعلام والتواصل، وجميعها تعمل بتناسق وسلاسة، ووحدة مميزة.
وحتى بعدما أجبرت المقاومة الشعبية المستعمرين المستوطنين على الرحيل في أوائل تموز، استمرت التظاهرات الشعبية بهدف إجبار جيش الإحتلال على تفكيك الكرفانات التي بناها المستوطنون، والنقطة العسكرية، التي يمكن أن تستخدم لاحقاً لإعادة إنشاء المستعمرة الاستيطانية.
وقدم سكان بيتا نموذجاً آخر في الإصرار والمقاومة، عندما احتجز الاحتلال جثمان أحد الشهداء، فوسع أهل بيتا مقاومهم لتشمل الشوارع الرئيسية، وعطلوا سير المستوطنين والجيش عليها، حتى أجبروهم على إعادة جثمان الشهيد.
نموذج بيتا مثل نموذجي الشيخ جراح وسلوان، وقبلها قرى المقاومة مثل باب الشمس، وأحفاد يونس والمناطير، وسفن كسر الحصار على قطاع غزة، وهبة القدس الباسلة التي أسقطت بوابات نتنياهو الإلكترونية على مداخل المسجد الأقصى، يثبت أن الشعب الفلسطيني قادر على تحقيق أهدافه، وتحرير وطنه بالاعتماد على النفس، وتنظيم الذات، وتحدي إجراءات الاحتلال والمستعمرين المستوطنين.
كذلك فإنه أثبت، وما زال يثبت، قوة المقاومة الشعبية أداة كفاحية فعالة ومؤثرة للوصول إلى الحرية التي ينشدها الشعب الفلسطيني.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير