حبايل في وجه الجدار : الدكتور أحمد جميل عزم

08.06.2013 11:33 AM
عليّ الاعتراف أنني تَعرفتُ إلى كلمة "حبايل" هذا الأسبوع فقط، ومفردها حَبَلة، كان ذلك في المخرور، ببيت جالا، غربي بيت لحم، قرب جدار الفصل العنصري.

هل نتخيل أنّه لو لم يكن الشارع الذي التهم الأرض لصالح المستوطنات، ولو لم يكن الجدار والاحتلال قائمين، لربما كان الحديث المفضّل ليكون عن "بتّير" القريبة، بينابيع الماء والشلالات؛ وعن شجرة الزيتون التاريخية.

ولربما كانت المزرعة حيث نجلس مطعماً!

رغم الشارع، والجدار، والاحتلال، كان الحديث عن بتير القريبة، وعن "ينابيع الماء" التي تراها تسير في الهواء كما قال صديقي، وعن شجرة زيتون عمرها آلاف الأعوام ومحيطها 23 متراً.

تجوّلت في المزارع وبقايا بيوت زمن سحيق؛ أسأل صديقي الذي تعرفه الحجارة والمياه والأرض والناس بجَلد صموده في وجه المعتدي: لماذا الشجر متنوع على هذا الشكل؛ شجرة مشمش تجاور توتة، تجاور تيناً؟ فأجاب: هذه "حبايل"، سألته ماذا يقصد؟ قال هذه أرض وعرة ليست سهلاً، والمناطق الصالحة للزراعة محدودة، يجري حفظ تربتها من الانجراف بـ"سناسل" متدرجة، لذا، تتنوع الزراعة فيها، وقد لا يكون صديقي مصيباً في تفسيره.

تَحدّث المُضيف طويلا في تركيب شجر المشمش وأنواعه، وحدّثني مبتسماً عن "منافع أخرى" يزعمها في مشمشه، تحدّثوا أنّه رغم غارات الإسرائيليين المستمرة لتحطيم أيّ انشاءات في مزارعهم، حتى تمديدات المياه والكهرباء، ورغم غول الجدار، فقد قرر إنشاء مطعم.

"كان اسمها فلسطين صار اسمها فلسطين". وردٌ أسود ينبت في صخر.

لفتني الاعتناء بالألوان في منزل عمر حجاجلة؛ سقف قرميدي، وجدار بلون خمري، وغرفة الاستقبال بتجويفات رقيقة في الجدار.

لم تكن ألوان الجدران واللوحات القرآنية النحاسية، بألوان مقتبسة من التراب وتدرجاته، متجانسة فقط، بل كان عُمر وملابسه جزءاً من الصورة اللونية؛ بل كانت كلماته وسكناته وحواراته من منبع ترابي.

في جِهتين من محيط بيته، خندق فيه أكياس رملية ومُخلفات أخرى، وسارية علم فلسطيني صغير، وواد، وفي جهة ثالثة بوابة فولاذية تغلق الشارع، وفي الاتجاه الرابع، من حيث دخلنا، نفق يوصل إلى البيت بعرض سيارة واحدة.

تبدأ القصة العام 1948، عندما لجأت أسرته من الجزء الغربي من قرية الولجة إلى شرقيها، وبنوا بيتهم هذا في أرضهم.

جاءه مندوبو أربع وزارات صهيونية مجتمعين (المالية، والداخلية، والدفاع، والإسكان)، وعرضوا عليه بيع الأرض والبيت بأي ثمن، أو تبديلها بأرض وبيت أكبر وأفضل، أو مشاركتهم بمشروع سياحي استثماري، وحذروه أنّ البيت سيعزله الجدار، وطلبوا منه التفكير، وأخبروه عدد أخواته وأخوته وحددوا الورثة بدقة، وطلبوا منه مشاورتهم.

اعتقدوا أنّهم يصدمونه بتفاصيل عائلته، فرد: القرار جاهز، اتخذناه جميعا، ليس الآن، لقد جمعنا والدي قبل موته وحذرنا من التفريط، ردوا عليه بأنّ "مخّه مجنون"، رد عليهم بكلمة بذيئة "مخي (...)".

وأردف: خصصت لكم نصف ساعة، وأنتم أخذتم 45 دقيقة، أنا مشغول، لدي ثلاثة أرباع الساعة للعب مع أطفالي، ومثلها أقضيها مع زوجتي، وهددوه.

شقوا مسار الجدار بدون استخدام المتفجرات إلا قرب بيته؛ زرعوا آلاف الكيلوغرامات، وظنوا أن البيت سيقع، لم يخرج منه لا هو ولا عائلته، ارتج البيت وتشققت جدرانه، وجاؤوا يستطلعون، ردّ عليهم أنّه حتى كأس الشاي التي كان يشربها لم تهتز.

قرروا، وبقرار محكمة، بناء جدار إلكتروني يحيط بيته من كل الجهات، قاضاهم وفاوضهم في المحاكم، فاضطروا لوقف بناء الجدار بعد أن بنوا خندقًا حول البيت لأجله، فاضطروا لحفر نفق لا يصل سوى للبيت.

بعد مفاوضات ومحاكم طويلة، نجح في تثبيت حقه بمفتاح بوابة ستوضع للنفق، وأن يستضيف ضيوفه حتى الثانية عشر ليلاً، وأمور أخرى.

بينما نودعه، توقف آخرون، ودار الحديث عن مواجهات سابقة خاضوها قرب المنزل، ضحكوا وسخروا من يوم وقع جندي أرضاً بفعل غاز القنابل التي أطلقها الجنود وارتد عليهم بفعل الهواء، وكيف كان الشبان يصرخون وظن الجندي أنهم يهاجمونه فبال في ثيابه.

عمر يَبني حياة ويعمُرها في حبايل روح، وواقع أمّة وعر، ويقف معه عزل مثله، إلا من أرواحهم.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير