"تفريغات 2005": نموذج لتشويش الحقيقة والمتاجرة بمعاناة الناس

07.04.2021 09:39 AM

كتب: جمال زقوت

مصطلح "تفريغات" تعود في الواقع الفلسطيني للحقبة اللبنانية للثورة . فبعد خروج المقاومة من الأردن إثر معارك أيلول الاسود ، توسع الوجود العسكري الفلسطيني في لبنان بشكلٍ تجاوز الهدف الرئيسي للكفاح المسلح ، حيث سعت الانظمة العربية المساندة لمشروع التسوية و تلك المعارضة لها بعد حرب تشرين على تسليح قوى المنظمة، و التسليح المضاد لقوى الرفض كما كانت تسمى في حينه، و بما يتجاوز بمضمون هذا التسليح حرب العصابات الذي بنيت على اساسها فكرة الكفاح المسلح ، لتتحول تدريجيا الى ما يشبه القوات شبه النظامية، و قد توسعت هذ الظاهرة العلنية  أثناء الحرب الاهلية في لبنان حيث بطريقة أو بأخرى أصبح هدف قوات الثورة الفلسطينية في لبنان يتركز على حماية الوجود العسكري العلني المسلح في لبنان، و كأن ذلك يشكل جزءاً من المواجهة مع العدو الاسرائيلي لابقاء القضية الفلسطينية حية سيما في اطار المعركة على التمثيل الفلسطيني،و ما كان يسمى بالقرار المستقل في حينه، و خاصة بعد انتزاع وحدانية التمثيل في قمة الرباط عام 1974.

انتشرت هذه الظاهرة و توسعت تدريجياً لتتحول لتفريغات واسعة امتدت داخل المخيمات من خلال تجنيد و بناء ميليشيا شبه عسكرية، و اتسمت العلاقة مع الاف الأفراد المنضوين في اطارها بما بات يعرف "بالتفريغ"و الجلوس في البيت، وقد اتسع مع هذه الظاهرة "التنافس عبر التفرغ" في كسب الولاءات بديلاً عن الانتماء على أساس القناعات.

شهدت الانتفاضة الثانية، و التي اتسمت بالعسكرة ، وبناء تشكيلات شبه عسكرية ، أو انفلاش ملاك بعض مجموعات قوى الأمن، وانضمامها لهذه التشكيلات المليشياوية . صحيح أن بعض المجموعات المسلحة كانت قد أبدعت في توجيه ضربات موجعة لقوات الاحتلال وكان ذلك في معظمه يتم تحت غطاءً من السرية المطلقة، في وقت أن السمة العامة لهذه الظاهرة كانت قد خرجت عن السيطرة و تحولت في جزء جوهري منها سيما في وقت متأخر من تلك " الانتفاضة " إلى شبكة من المصالح والفوضي و الخاوات والفلتان الأمني الذي بات يهدد أمن المواطنين و وحدة نسيج المجتمع الفلسطيني وتماسكه.

في تلك الاثناء و بعد استشهاد الرئيس أبو عمار "الذي كان له القدرة و الهيبة على الامساك بخيوط تلك اللعبة الخطرة ، رغم خروجها عن طوعه في الفترة الاخيرة من حياته"، حاول بعض القادة الفلسطينيين احتواء هذه المجموعات المسلحة و كسب ولاءاتها باعادة إحياء سياسة التفريعات مرة أخرى، والتي هي بمضمونها في الواقع عملية استحواذ إن لم نقل شراء الولاءات، و قد اتسع نطاق ما يسمى بهذه التفريعات لمراضاة المجموعات القريبة من السلطة، و هي في الحقيقة لم تقتصر على قطاع غزة فقط، بل فقد امتدت إلى بعض مدن الضفة الغربية.

وصل عدد هؤلاء "المتفرغين" ما يفوق عشرات الآلاف، في مخالفة واضحة وانتهاك صارخ لقانون الموازنة العامة الذي يحظر التوظيف سواء المدني أو العسكري دون توفر شواغر معتمدة، فبخلاف الحقبة اللبنانية و"تفريغاتها"،حيث لم تستخدم حتى كلمة راتب أو مكافأة "، فأي تجنيد أو توظيف للمؤسسة الامنية في مرحلة بناء السلطة يتطلب وجود شواغر مالية، فبدونها لا يجوز تجاوز هذا المبدأ؛ على الأقل هكذا أصبح الأمر إثر بدء عملية الاصلاح المالي بعد تعيين الرئيس عرفات لفياض وزيراً للمالية، و ما كانت تتطلبه مالية السلطة الوطنية من اصلاحات جوهرية لم يكن اقلها وقف دفع الرواتب لمنتسبي الاجهزة الأمنية بشوالات الكاش، و حساب الخزينة الموحد ، وضبط أصول الاستثمارات في اطار قانوني تحت مسؤولية صندوق الاستثمار ، بالاضافة للعمل وفق موازنات محددة و لأول مرة منذ نشوء السلطة الوطنية ، مع العلم أن هذه الاصلاحات البنيوية في النظام المالي الفلسطيني تمت في عهد الرئيس أبو عمار وبموافقته الكاملة عليها ، كما يقول فياض نفسه في مقابلة له مع مجلة الدراسات الفلسطينية خريف 2009.

هذه "التفريغات" التي كانت موضع جدل عندما تولى فياض حقيبة المالية في حكومة الوحدة الوطنية حيث لا يوجد شواغر لتغطيتها في الموازنة العامة، و أيضاً لا حاجة لها ، إلا أن الوقت لم يسعف فياض لمعالجتها و تسويتها في الشهور الثلاث من عمر تلك الحكومة، حيث كانت الأولوية في حينه “لفكفكة الحصار المالي" الذي كان سبق وقد فُرض على حكومة حماس و استمر بدرجة اقل قليلاً على حكومة الوحدة الوطنية و التي سمي بموجبها هنية رئيساً للوزراء و فياض وزيراً للمالية.

تفاصيل نشوء المشكلة:

في نهاية سنة ٢٠٠٥ و تحديداً في نهاية شهر ١٠ استقال عدد من وزراء الحكومة التي كان يترأسها "أبو علاء" أحمد قريع للمشاركة في الانتخابات و من ضمنهم سلام فياض، فتولى رئيس الوزراء "أبو علاء"وزارة المالية وكلف وكيل الوزارة في حينه جهاد الوزير بادارتها. ولاسباب انتخابية وضغوطات مسلحين تم صرف معاشات مجموعه كبيرة من هؤلاء المتفرغين من موازنة الخدمات الطبية العسكرية ،وبعد فوز حماس واستلامها للحكومة تم اعتماد الاف العسكريين للتوظيف في الأجهزة الأمنية، و لكن ذلك ترافق مع توقف دفع الرواتب لمدة ثمانية عشر شهراً.

بعد انقلاب حماس و استيلاءها على قطاع غزة وتشكيل حكومة طوارئ برئاسة سلام فياض، تم الحصول على الكشوفات من التنظيم والادارة والادارة المالية العسكرية، حيث تم البدء بصرف الرواتب بعد اعتمادها من الاجهزة الامنية. و أوقفت جميع التعيينات التي ليس لها قيود في التنظيم والادارة وكان عددها خمسة وثلاثون الفا. وتم اعادة دفع الرواتب لكل من جرى اعتمادهم بشكل رسمي من قبل الاجهزة الامنية والتنظيم والادارة. وبقي جزء أوصت الأجهزة الأمنية والادارة المالية بأنها ليست بحاجتهم.

كان ذلك واحداً من رزمة قرارات للاصلاح المالي و وقف هدر المال العام و الذي شمل أيضاً في حينه معالجة ما يعرف بصافي الإقراض المتصل بالتسيب الهائل في مستحقات فاتورة دفع الكهرباء حيث بلغت قيمة الهدر و التسيب في هذا البند لوحده ما يفوق المليار شيكل سنوياً، بالاضافة للتوظيف و "التعيينات الوهمية" على ديوان الموظفين خارج أي خدمة فعلية، و غيرها من الفوضي المالية التي كانت قد ترافقت مع الفوضى والفلتان الامني و التي شكلت سبباً جوهرياً لنجاح حماس في انتخابات 2006 و ما تلاها من انقلاب حماس على حكومة الوحدة الوطنية عام 2007.

في اطار معالجة فوضى هذا الملف، وكون هؤلاء "المتفرغين" ضحايا لسياسة التسيب والفوضى و المحسوبية التي كانت سائدة، وضمن الحد الأقصى للقدرة التي تحتملها الموازنة العامة للسلطة الوطنية أي المال العام من دافعي الضرائب ، أقرت الحكومة الفلسطينية بناء على توصية من ما كان يعرف بلجنة غزة "قبل أن يتم حلها"في حينه اعتماد مبلغ شهري مقطوع بقيمة 1000 شيكل لكل من هؤلاء "كمساعدة اجتماعية شهرية دائمة ، وتم رفعها لاحقاً إلى 1500 شيكل، بالاضافة للتأمين الصحي . واستمر هذا الأمر نافذاً حتى اتخذت الحكومة التي تلتها قرارات مالية و ادارية مجحفة في ابريل عام 2017، بعضها تضمن دفع نصف الراتب و في حالة هذا الملف دفع نصف الاستحقاق من المساعدة الاجتماعية لتصل إلى 750 شيكل ، إلى أن أُعيد تصويبها فيما بعد من الحكومة الحالية لتعود كما كانت 1500 شيكل.

استخدام الملف مرة ثانية، و ضمن قضايا أخري بهدف الاساءة للاصلاحات المالية والادارية التي ميزت حقبة متميزة من حياة السلطة الوطنية في الاعوام 2007-2013 ، وربما بهدف تقويض تلك الاصلاحات كما هو بالتأكيد محاولة من مراكز النفوذ المتضررة للمس بفياض و بالتأكيد لأغراض سياسية ليس لها علاقة بأصحاب هذا الملف.

المستهجن أن بعض من يطالبون بالاصلاح من بعض الفصائل ويأخذون " و هم ربما محقين" على السلطة الوطنية تضخم موازنة قطاع الامن و التي من ضمنها آلاف المنتسبين كاسترضاءات بتعيينات فصائلية"لم تحظى من الجمل على أكثر من أُذنه" كما يقول المثل، في وقت أن بعضهم الآخر كان قد نسب الآلاف و بعضهم المئات لقطاع الأمن و من ضمنهم هذا الملف ، إلا أنهم يمارسون تضليلاً غير مسبوقاً ضد من قاد عملية الاصلاح بشجاعة و نزاهة نادرتين، وهم أنفسهم يحرضون و يشجعون على غريزة التهييج النفعية لهؤلاء "الضحايا" من فساد تلك المرحلة.

هذه هي قصة ابريق الزيت التي تسمى تفريغات 2005 ، و هي نموذج لقضايا أخرى تمت معالجتها أو كانت قيد المعالجة الملموسة بحلول عملية لوقف نزيف هدر المال العام، ولكنها للاسف جوبهت من مراكز القوى الذين يعتاشون على فوضى الفساد وما زالوا.

الحركات الوطنية الجادة و أنظمة الحكم الرشيدة تراكم على انجازاتها بغض النظر من يقف خلفها ؛فما بالكم اذا كان الأمر يتصل بمكافحة المحسوبية و هدر المال العام في وقت أن الفساد يمثل العقبة الكأداء الذي علينا اجتثاثه.

إنهاء مأساة غزة لا يمكن أن تُعالج بالتحريض و لا بايجاد حلول مجزأة و فتح ثغرات في أماكن أخرى، بقدر ما تتطلب أولاً و قبل كل شئ الغاء كافة القرارات غير القانونية التي مست بحقوق  موظفي القطاع، و سيظل المدخل الأساس الذي لا يُعلى عليه لمعالجة هذه المأساة هو إنهاء الانقسام، و محاسبة الانقساميين كمدخل وطني شامل لاعادة غزة،باعتبارها أولوية عليا، لاهتمامات النظام السياسي الموحد،و مرة أخرى لتستعيد مكانتها كرافعة للحركة الوطنية المتجددة ولمسيرة البناء والتحرر .فهذا هو الذي يفتح الباب لتنمية جدية توفر فرص العمل التي تخفف العبء عن الموازنة العامة لجهة تطوير البنية التحتية المهشمة و التي تشكل الاساس لترميم الاقتصاد الضعيف و تحويلة لأداة فاعلة للصمود و العيش الكريم.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير