حول توظيف المعرفة في استعادة الوعي التحرري

14.03.2021 07:02 PM

كتب: عوض عبد الفتاح
  
تعتبر المعرفة عنصراً أساسياً في تفكيك مجاهيل الحياة، وفي عملية التحول والتطور، وبناء النهضة المجتمعية، وتحقيق سعادة الانسان. يسبقها بطبيعة الحال، التجربة الممارسة في الحياة المتفاعلة مع الطبيعة وأسرارها، وفي مواجهة التناقضات الاجتماعية وتطويعها، ومن ثم تتبعها الممارسة والتطبيق مرة ثانية. وهكذا تنشأ وتتطور جدلية التأثير والتأثر. وحين تضمحل المعرفة يسود الجهل، والخراب، جزئياً أو كلياً. طبعاً لا يكون الخراب مطلقاً، اذ تنشأ من رحمه وضده، بذور النهضة مجدداً، وقد يستغرق نمو بذورها، وتحولها إلى أشجار باسقة، سنيناً، أو عقوداً، او قروناً. وتبدأ النهضة مجدداً مع إستعادة المعرفة المفقودة، وتطويرها ومواكبة الزمان الجديد.

نسوق هذه المقدمة لنلج نقاشاً يتصاعد ويتسع في السنوات الأخيرة، حول العدة المعرفية المطلوبة لمواجهة الواقع الاستعماري في فلسطين، وذلك بعد أن إستيقظ الفلسطينيون على سقوط الاحلام الشعبية الكبيرة، بالتحرر والحرية والتنمية، وسقوط الأوهام القاتلة التي روجتها القيادات الفلسطينية الرسمية، ومعها جيش من المثقفين والإعلاميين، التابعين.

ومع أن هذا النقاش مرتبط  بحالة التاخرالعربية عموماً، وبأسباب النهضة الشاملة، إلا اننا لن نخوض فيه، في هذه المقالة القصيرة، ولأن الفلسطينيين يتحملون قسطاً اكبر عن مسؤولية تبديد التراكم المعرفي بخصوص فهم الواقع الإستعماري في فلسطين، و ليس عن الفشل في تحرير فلسطين الفعلي، الذي يتحمل المسؤوليه عنه جميع الأنظمة العربية.

وبسبب هذا الإخفاق الكارثي، وما ترتب عليه، ليس فقط المتمثل في تكريس المشروع الإستيطاني الصهيوني الأوروبي في فلسطين، بل، والأخطر من ذلك؛ التهافت على التخلص من إرث حركة التحرر وقيمها ومفاهيمها، الذي تحقق بالفكر الحر والدماء الغزيرة. تخلينا عن ذلك لكي يقبلنا المستعمر، بحيث بات الصراع ضد هذا المشروع يعتبر نزاعاً وخلافآً على حدود او على ملفات متفرقة، مما عزز التطبيع مع الحالة الإستعمارية العدوانية، وانتج ما يسميه علماء النفس الاجتماعي والسياسي، باستعمار العقل.

وكما أشرنا إلى نمو بذور نهضة العقل من داخل الخراب والتحلل، فإننا نشهد، منذ أواسط التسعينات، وبعد فترة أوسلو التجزيئية، وكإستئناف عليها، إحياءً للبنية المعرفية المتعلقة بالحالات الاستعمارية الإستيطانية وما جدَّ عليها من تطوير وإغناء، أو ما يسمى بإطار التحليل الكولونيالي، وبالتوازي مع إطار تحليل الابارتهايد. وكان لافتاً إنطلاق البحث من داخل دوائر أكاديمية وجامعية غربية، من قبل أكاديميين نقديين، ذي توجهات تقدمية أو يسارية، أو ماركسية. وهم قاموا بتشريح الحالة الكولونيالية في فلسطين، باعتبارها حالة كولونيالية كلاسكية تنتمي لكل حالات الإستعمار الإستيطاني التي مارستها أوروبا في مناطق عديدة من العالم. وهذا أثّر في الاكاديميين الفلسطينيين الشباب ودفعهم إلى اعتماد نفس مشرحة التحليل على إسرائيل، والأهم أنهم، إضافة إلى الاستعانة بكتابات مفكربن عالميين، أعادوا إكتشاف الادبيات الفلسطينية الاصلية الرائدة، التي تقارب إسرائيل كنظام استعماري إستيطاني ونظام إبارتهايد. ونذكر على سبيل المثال، كتاب الباحث الفلسطيني، فايز الصايغ، الذي يعقد مقارنة بين حالتي جنوب أفريقيا وإسرائيل، كمشرعين كولونياليين وفصل عنصري. ولا أذكر سنة صدوره، ولكن ما أذكره هو قرائتي للكتاب في فترة الدراسة الجامعية والنشاط الطلابي أواخر السبعينات، إضافة إلى كتاب "إسرائيل واقع إستعماري" للمفكر الفرنسي التقدمي، اليهودي، ماكسيم رودنسون. لم يكن ذلك ضمن إختصاصي الجامعي، اذ درست اللغة والادب الإنجليزي، بل كجزء من عملية التثقيف الذاتي، والمواجهة المعرفية مع الايدلوجيا الصهيونية، وفي إطار نضال الحركة الطلابية الوطنية في الجامعات الإسرائيلية. وظلت تلك المعرفة النقدية، والتحررية، التي إستندت اليها حركة التحرر الوطني الفلسطينية، ومثقفيها، مصدر الهام لنا، ولحركة أبناء البلد التي أعدنا تأسيسها كشباب أواسط الثمانينات، كحركة قومية يسارية، وكجزء من اليسار الفلسطيني، وذات مؤسسات مركزية، ولها فروع قوية في جميع الجامعات الإسرائيلية، فضلا عن بضعة فروع في البلدات العربية. غير أن تراجع الحركة أسوة بجميع التيارات الوطنية في الداخل والخارج، خاصة بعد أوسلو، والانهيارات العربية والعالمية( الاتحاد السوفييتي) منذ أوائل التسعينات، وانحسار الفكر اليساري، والإرث النضالي ضد الكولونيالية والامبريالية، وما أفرزه من مناخ عام مختلف، دفع الحركة وفئات من المثقفين والنشطاء إلى تغليب إبراز يهودية الدولة الصهيونية، أكثر من طبيعتها الكولونيالية، أي الاستعمارية الاستيطانية، نظرا لخصوصية واقع فلسطينيي ال٤٨، وذلك من خلال حزب التجمع الوطني الديمقراطي، والذي ابلى بلاء حسناً في المواجهة السياسية والايدلوجية، ضد بنية إسرائيل اليهودية الصهيونية، كبنية متناقضة مع صورتها عن ذاتها، ومع القيم الكونية الإنسانية، كالمساواة. لم تسلم الحركة، ولا التجمع، مبدئيا بشرعية إسرائيل باعتبارها كياناً إستعماريا إستيطانيا، غير أنهما رأيا أن ذلك الظرف الرديئ الذي زاد الوضع تعقيداً، كان يستدعي مدخلاً مختلفاً، أو معادلة خلاقة، تُبقي الصراع مع الصهيونية، باعتبارها حركة إستعمارية وعنصرية، مفتوحا، تمثلت في شعار، دولة المواطنين والمساواة الكاملة كتحدٍ . ولكن بعد إجتياح إسرائيل لمناطق السلطة الفلسطينية، وقمع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والهبة الشعبية داخل الخط الأخضر، عام ٢٠٠٠، تطلب الامر إستعادة إطار التحليل الكولونيالي بصراحة وبوضوح، مترافقا مع إطار الأبارتهايد. وهكذا أعاد التجمع ابراز لكرة الدولة الواحدة، ودعا في مؤتمره عام ٢٠٠٣، الى البدئ في مناقشة الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين الديمقراطية.                     

أما الرواد الاكاديميين لهذا النقاش، الذي كان قائماً قبل أوسلو، وتصاعد بعد الانتفاضة، من داخل الأخضر، فابرزهم عزمي بشارة، وسعيد زيداني، ونديم روحانا، ونور مصالحة، ونادرة شلهوب وغيرهم، ولاحقاً منذ سنوات الالفين، ظهر العشرات من الاكاديميين، وربما المئات من جيل الباحثين اللاحقين، مثل رائف زريق وأسعد غانم، ونمر سلطاني وأريج صباغ ولنا طاطور واخرون. كما هناك المئات من الاكاديميين الفلسطينيين، في جامعات أمريكية وأوروبية، متميزون في ابحاثهم، ومنهم من يشتق حلولاً شاملة وجذرية للواقع الاستعماري بل ينخرط في نشاط أكاديمي وسياسي، لنشر المعرفة والتأثير، وينحاز للعدالة والحرية. أما في الضفة الغربية وقطاع غزة، فقد ظهر أكاديميون كثيرون، ونشأت مراكز أبحاث، ومنابر شبابية، وثقافية، جديدة وكثيرة، التي تنتج فكراً وابحاثاً تعيد قراءة الصراع وطبيعته، وترده إلى جذوره الاستعمارية الاستيطانية، كنقيض لأيدلوجيا مدرسة أسلو الهجينة.

ولم تبق حتى المراكز البحثية والجامعية الإسرائيلية محصنة أمام هذه الموجة، حيث برز عدد من الاكاديميين اليهود المناهضين للصهيونية والاستعمار، مما دفع حكومة إسرائيل للعمل لمحاصرتهم والتضييق عليهم.

والمدهش أن القيادات السياسية، التي دجنها اتفاق أوسلو، لا تلقي بالاً لهذا الإنتاج الفكري السياسي، رغم الإخفاق المريع لنهجها الهجين. كما أن من تبقى من قيادات و كوادر داخل الفصائل الفلسطينية اليسارية، والأحزاب العربية داخل الخط الأخضر، لا تواكب هذا الحراك الفكري والإنتاج الكاديمي، وغير قادرة على إدراك ما يعتمل في الواقع الميداني، ولا في  أوساط متزايدة من المثقفين والاكاديميين، المستقلين عن الفصائل والأحزاب، من نزوعٍ واضح نحو مسارات بديلة. وقد أنتجت مدرسة أوسلو، والانقسام من بعده، بيئة ثقافية وسياسية قمعية، ترهب من يفكر بصورة مختلفة، أو من يدعو إلى إعادة تعريف إسرائيل ككيان إستعماري، وفصل عنصري، وليس دولة طبيعية تحتل أرضاً خارجية، أو من يدعو إلى التخلي عن أوسلو  وحل الدولتين رغم أن مواصلة التمسك به جلب كوارث متواصلة لشعبنا، وادخلنا في نفق لا تعرف الطبقة السياسية المتنفذة كيف نخرج منه.

ولا يعود غياب المواكبة إلى الفقر الفكري للطبقة السياسية الرسمية، وجمودها الفكري، وتكلس شرايينها، والذوبان في بيئة تدجينية، عمرها أكثر من ثلاثة عقود من المفاوضات العبثية والتنسيق الأمني والتبعية الاقتصادية، بل لأن إعادة قراءة الوجود الصهيوني في فلسطين التاريخية، يترتب عليه مسؤولية صخمة، تتمثل في ضرورة إستعادة روح وقيم الإرث التاريخي لحركة التحرر الوطني الفلسطينية، والانعتاق من عملية التضليل والافساد الكبرى التي هيـئت لها الظروف الدولية المعادية، وتواطئنا معها، ورحنا نعيد إنتاجها، إلى درجة التماهي الذهني معها. فكيف تستطيع قيادة عاجزة ومغلقة، التحرر من ذلك!

وفى ظل هذا الواقع القيادي العاجز، واختزال السياسة، والقضية الوطنية، إلى قضية خدمات وصفقات رخيصة مع المستعمر، تتأكد الأهمية القصوى لنشر هذه القراءات، من خلال نقلها من الدوائر الاكاديمية والنخبوية، إلى عموم كوادر الفصائل والأحزاب، وإلى الناس عموما، في إطار إعادة صياغة الرواية التاريخية، وبلورة الرؤية التحررية المطلوبة في هذا الظرف الراهن. إن من شأن هذه المهمة أن تفتح الباب لتحرير العقل من حالة التشوه، وتخيّل طريق آخر فعّال نحو الانعتاق والخلاص.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير