مريد البرغوثي جعلني أرى في "دير غسانة" ما لم أره من قبل!

15.02.2021 12:32 PM

كتب: فادي البرغوثي

كانت القصة قبل 25 عاما تقريبا، عندما كنت أعمل ليلاً في "كافتيريا" بمقر جريدة الأيام مع أحد الاصدقاء، وكان مقر الجريدة غير متخصص بإنتاج الجريدة فقط، بل كان بداخله مطبعة تعمل على طباعة جرائد أخرى ومجلات أدبية وثقافة، وكتب علمية وروايات... وكان من بين المجلات التي تقوم المطبعة بطباعتها مجلة "الكرمل" التي كان يرأس تحريرها الشاعر محمود درويش، ويكتب فيها العديد من الكتّاب من بينهم مريد البرغوثي.

في منتصف الليل تقريبا، وقبل أن أخلد للنوم، كنت أقرأ ما يستطيع جسمي تحمله، خصوصاً أنني سأذهب في اليوم التالي إلى العمل، فكنت عامل إنتاج لدى شركة القدس للمستحضرات الطبية، وفجأة، وأنا أقرأ بعض النصوص الأدبية من دراسات ونصوص ومختارات شعرية في مجلة الكرمل.. وبالطبع لم أعد أذكر عددها، لكن أتذكر أن العدد كان لونه أصفر، وأذكر مقالا (وربما لا أستطيع أن أصفه بالمقال!)، بل جزء من كتاب شهير تُرجم فيما بعد إلى عدة لغات عالمية؛ "رأيت رام الله"،  حتى أن المفكّر إدوارد سعيد كتب مقدمته، بالإضافة إلى أنه حصل على الكثير من الجوائز من بينها جائزة نجيب محفوظ للآداب، وكان عنوان الجزء المختار من الكتاب (دير غسانه إقامة في الوقت) وهو مجموعة من المشاهدات للكاتب بتصوير أدبي كبير، لمكان عاشه الشاعر مريد البرغوثي في طفولته، وما قام بمشاهدته أيضاً بعد عودته عام 1994.

قد أذكر عبارات كثيرة في النص، لا أرغب بالحديث عنها بقدر ما أريد أن أقول كيف أثّر بي النص، وكيف جعلني أعدل عن أمور اتخذتها في حياتي، فكنت في تلك الفترة  مولعا بالهجرة، وأبحث عن "فيزا" لإحدى الدول الغربية، لكن النص الذي قرأته أعاد وأحيا شعورا كان قد غادرني منذ انتهاء الانتفاضة الأولى، وهذا ما يجعلنا نقول إن الاوطان لا تُشيّد أو تُبنى بالعقل فقط، إنما تشيد الأوطان بعاطفة جارفه متجددة دوما، ولربما صدق الشاعر توفيق زياد كما أوردها مُريد في كتابه "رأيت رام الله"، لمّا قال: "من شدة حبي لبلادي ..لا أفنى وأموت لكن أتجدد.. دوما أتجدد"...!

لذلك فإن أساس عملية التطور لأي شعب تبدأ بالانتماء، وبدون الانتماء يعيش الشعب في فوضى دائمة، ناهيك عن عملية التضحية والعطاء التي تتدفق بشكل تلقائي، مما يجعل كل الناس، أقول كل الناس دون استثناء تقريبا، تناضل من أجل  الوطن أو دونه. فالموت يصبح شرفاً في سبيل الدفاع عن الوطن وهي قمة إدراك المعنى الحقيقي للوطن، وقمة الإدراك للحياة على هذا الوطن بغض النظر عن الطريقة التي نحيا بها.

هذا النص نفسة جعلني أشعر ان هناك حبل قوي يمتد من دير غسانة إلى قلبي، وكلما غبت عنها كثيرا يشتد الحبل، حتى أشعر أن هناك شيء يريد أن يخلع قلبي، وهل يعيش المرء دون قلبه، فتشعر أنك أنت القريب عنها في رام الله بعيدة عنك ، وأنك بحاجة إلى أن تراها من جديد فتفكر في الصباح بحجة  لتطنيش العمل للذهاب إلى دير غسانة لكي تراها من جديد، فترى الحجر والشجر والبشر، لا بذكريات الشاعر مريد التي عبر عنها بشكل جميل، إنما بذكرياتك أنت أيضا، فربما من حسن حظي أن أكون قد عشت المكان نفسة، فتوالد لدي شعور  ظلّ معي إلى هذا اليوم، وسيبقى معي ما دمت حياً على وجه الأرض.

هذا الأمر يجعل الأدباء مثل مريد ضرورة لا تنتهي بانتهاء الزم.. فالأوطان تصاغ وتكتب من لسان شاعر وروائي، وتخلد كذلك بلسان شاعر وروائي أيضا، ألم يكن القاضي الفاضل أكثر من أعطنا عن صلاح الدين الأيوبي في تحرير الأوطان وفتح بيت المقدس، وخلّد لنا نهجا وطريقة نسير بها إلى يومنا، وأغلق الطريق على من يتخذون نهجا اآخر غير طريق النضال والكفاح والعمل...

وفي النهاية، مُريد وغيره كتبنا على ورق، يظل هذا الورق يتناقل من جيل إلى جيل، وإن لم يولد ما يريد في اللحظة فأنني واثق أنه سيرث الجيل القادم، ما يطمح إليه مريد كعادة الفلاسفة والشعراء، الذين وضعوا حجر الأساس للبناء وذهبوا، لكن البناء شيّد من بعدهم، هذا مثلا ما جعل الفيلسوف الألماني هارفرد يرى ألمانيا موحدة قبل أن يقوم بتوحيدها القائد العسكري بسمارك، في الوقت الذي كانت فية ألمانيا عبارة عن كيانات يحارب فيها كل كيان الآخر.

اختتم ما قاله مريد عندما شاهد بيته القديم في دير غسانة المسمى دار رعد:

يا دار رعد يا دارنا
عرفت ما لا تعرفين
وتعرفين ما لا أعرف
هل أنتِ أنتِ؟
وهل أنا أنا؟
هل يرجع الغريب من حيثما كان؟
يا درانا من يلملم عن جبين الآخر التعب.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير