عمال غزة بين تجار الموت وعتبات التسول – قراءة تحليلية كتب د ناصر إسماعيل اليافاوي

02.05.2013 10:23 AM
يطل علينا يوم الأول من أيار ، يوم العمال العالمي كعادته ، يتبختر إلينا خجلا ، بثوب جديد جارا معه أذيال البؤس والفقر المدقع ، ومن السخرية أن المؤسسات الفلسطينية عطلت في غزة ! لست أدرى لمن ولماذا ؟
غزة والحمد لله يوجد بها نسبة متدنية من العمال! إن جاز التعبير أن نسميهم عمال ،
فالأجدر أن نسميهم متسولين ..

نبذة تاريخية عن يوم العمال :

قبل أن نخوض بمآسي عمالنا ،وعيشهم أدنى من مستوى خط الفقر المدقع ، رأينا لزاما ًتاريخيا أن نقدم لعمالنا نبذة عن الجذور التاريخية لهذا اليوم ، وهذا ما نستطيع أن نقدمه لهم في غزة وهذا اضعف الإيمان ..

قضية - بل قصة- يوم العمال بدأت بعد سلسلة ،من الضالات امتدت ، من (استراليا وأمريكيا ) مروا إلى دول العالم ، حيث بدأ التفكير بهذا اليوم في استراليا (عام 1856) حين توقف الآلاف من العمال، عن العمل مطالبين ألا يزيد العمل عن( 8 ساعات فقط )00 وتجمهر الآلاف من عمال استراليا ،وعقدوا برامج ترفيهية ، واجتماعات وندوات وحلقات فكرية توعية 0

وكان هذا اليوم مقرر في (21- ابريل ) ولمدة يوم واحد- ومرة واحدة -وكفى -إلا أن المناضلين شعروا بمدى تأثير هذا اليوم على معنوية طبقة العمال الكادحة( البرولوتاريا) وأصبح يعقد هذا التجمع والاحتفال الجماهيري كل عام 00وأول من حذا حذوهم (الأمريكيون) ففي عام( 1886) قرروا أن يكون( 1-أيار) يوم توقف كامل عن العمل ،


وبالفعل توقف في هذا اليوم (200 ألف )عامل عن العمل ، مطالبين بثمان ساعات عمل فقط ، والجدير بالذكر أن الشرطة الأمريكية العنصرية ،لاحقتهم وطاردتهم عدة سنوات ، ولكن العمال تحدوا الشرطة والحكومة ، وفى عام (1888) اجتمع ممثلي العمال ، وقرروا أن يكون يوم (1-5- 1890) يوم العمال ، ويوم تحقيق مطالبهم، مهما كلف الأمر ، ومع امتداد وعي الحركة العمالية في أوروبا ، والعالم، وقوة شوكتهم عقد العمال( مؤتمر العمال العالمي) في عام 1890 ، والذي حضرة '400 مندوب 'من مختلف دول العالم ،وهناك وضعت اللبنة الأساسية لمطالب وحقوق العمال وكان أهمها تحديد ساعات العمل بثمان ساعات ، وأشار المندوب الأمريكي- لقرارهم المسبق- بالاحتفال يوم 1- أيار من نفس العام، وصوت المجتمعون على القرار، ومنذ هذا التاريخ اعتمد هذا اليوم وحتى الآن يوم العمال العالمي .

هذا اليوم الذي يشعر فيه طبقة العمال الكادحة بكيانهم ونتائج كدهم واحترامهم ، واحتفلنا هنا في فلسطين في السنوات السابقة بهذا اليوم وشاطرنا العمال أعيادهم ، يوم أن كان للعامل قيمته وعزته ، ولكن للأسف ، أصبحنا اليوم في غزة خجلين أن نقول لأهلنا وأصحابنا من العمال كل عام وانتم بألف خير ، لأننا نخشى من إجاباتهم- نعم نخشى - خوفا من القول، أي خير تقصدون؟هل الخير الذي ننعم به وأكثر من0 8% من الشعب الفلسطيني يقعون تحت خط الفقر ، ويصادقون البطالة الملازمة لديارهم ؟

أم عمالنا الأمجاد الذين أصبحوا متسولين ينتظرون عبوات لا قيمة لها ، لا تزيد في بعض الأحيان عن (ربطة من الخبز ، وعدة بيضات) لا تكفى وجبة يوم للأسرة الفقيرة ؟

أم طوابير الذل الممنهج ، ووقوف الآلاف من العمال على محطات وكالة الغوث ، وبشكل مذل لانتظار ما تتصدق به الوكالة عليهم ، ومن لا يحالفه الحظ يضطر للتسول-نعم التسول- للحصول على بعض كسيرات من الخبز يسد بها رمق وجوع أطفاله ، في ظل الحصار الجائر ، وانعدام كل معايير العدالة في التوزيع الممارسة مع الفقراء في غزة ، هذا انعدام فرص البطالة لآلاف العمال والخريجين ، إلا من تم الرضاء عليهم من قبل المسئولين في الوكالة والحكومة ، كل هذا دفع عمالنا البواسل ، للبحث عن أى عمل حتى لو تم إخراجهم عن نسقهم القيمي، الذي اعتادوا عليه ، وإخراجهم ، من بوتقة التفكير بمصير وقضايا شعبهم إلي اللهث وراء المسئول الهمام ليتواضع بالحديث إليهم ويطل من شرفة منزله البعيد عن المخيم ، وبعد التوسل والاستجداء يوعد من جاء بصحبة فلان ليسجله تحت بند بدل بطالة لا تتراوح 3 شهور !.

هذا هو الواقع المرير في غزة ، ولا أبالغ حين أقول سلال الجوع تداهم عمالنا، ومنهم، ومن تعز عليه نفسه تحول إلى بائع( بسطة) ، عليها بعض الحلويات الشحيحة أصلا في غزة، أو بضع كيلوات من( الترمس) المملح أو أكياس الشراب المصنوع في منزله دون رقابة صحية ، ويصطف بها أمام مدارس أطفال اللاجئين،، حتى يقتنص النصف شيكل مصروف الطفل الفقير في المخيمات كل يومين وأحيانا ولا أبالغ إن قلت كل أسبوع ..

يعني ممكن وصف الحال هنا أن المريض يتكأ على الميت ، والأخطر من هذا كله هو عودة عمال المناجم الكادحين إلى غزة ولكن بثوب وشكل جديد بمسمى عمال (حافري الأنفاق ) ومن المؤشرات الخطيرة أن الأطفال يعملون في نقل البضائع التجارية داخل نفق ضيق يصل طوله إلى أكثر من 700 متر وبعمق أكثر من 12 مترا تحت سطح الأرض، مسترشدين بإنارة متواضعة كل عشرة أمتار على طول النفق, ويعمل الأطفال في الأنفاق بمعدل 12 ساعة يومياً (من 7:00 صباحاً – 7:00 مساءً) وفي الأسبوع الذي يليه يتناوب الأطفال فيصبح العمل ليلاً من (7:00 مساءً- 7:00 صباحاً) يتخلل ذلك استراحة واحدة مدتها ساعة، وهذا العمل المرهق والمجهد للطفل يدفع بعض الأطفال إلى تناول أقراص منشطة معروفة هنا في غزة باسم 'ترامال' وهي تساعد الأطفال على نسيان الألم وتنشيط أجسامهم، وفي نفس الوقت تنطوي على مضاعفات جانبية خطيرة لهم, والأطفال يعملون خلال هذه الفترة في نقل البضائع التجارية من جميع الأصناف مثل: المواد الغذائية والأدوات الكهربائية والأدوية وحليب الأطفال والأقمشة والأحذية والمواشي و من المواد الأكثر خطورة حسب إفادات الأطفال ' التنر ' و هو يستخدم اليوم في الإنارة للمولدات الكهربائية وأيضا كمادة تدمج مع أنواع خاصة من البويات ، و هو نفاذ الرائحة فإذا ثقبت علبة داخل النفق فإنها بمثابة كارثة لهم ، ناهيك عن الدهانات مواد التنظيف الخام و الصودا الكاوية و أنفاق المحروقات .

الجدير ذكره أن غالبيتهم انقطع عن الدراسة ، وأن هناك نسبة قليلة جداً قامت بالتوفيق بين العمل والدراسة. وتعود أسباب لجوء هذه الفئة للعمل داخل الأنفاق سوء الحالة الاقتصادية, والفقر الناهش لبراءتهم الجميلة ،ونرى أن معظم هؤلاء العمال غير متخوفين من هذا العمل بالرغم من أنه قد واجهت نسبة كبيرة منهم مشاكل فنية مثل انقطاع التيار الكهربي، وتسرب الغاز، وانهيار الأنفاق بجانب مشاكلهم من ناحية الأجرة مع صاحب العمل، وقد يكون السبب في عدم تخوفهم من هذا العمل هو الحاجة الكبيرة لتوفير قوت يوم أسرهم في ظل غياب التكامل المحلي والعربي وكانت النتيجة أن بلغ عدد الضحايا من الأطفال والرجال الذين قتلوا داخل الأنفاق حوالي 40طفلاً منذ بدء العمل في هذه الأنفاق قبل ثلاث سنوات بحسب إحصائيات مستشفيات غزة، علماً بأن إجمالي عدد الضحايا الذين قتلوا نتيجة انهيار الأنفاق أو القصف الصهيوني لها بلغ حسب تقرير أصدره مركز حقوقي أن عدد الفلسطينيين الذين لقوا مصرعهم داخل الأنفاق في قطاع غزة ارتفع إلى أكثر(170 ) قتيلاً، و(500 ) مصاباً، من بينهم (4) أطفال، منذ عام 2006 ، طبعا والعدد مرشح للزيادة كل يوم ، وتجار الموت ينتعشون ويدوسون على هرم من جماجم العمال ،لتمتلئ كروشهم المتعفنة تخماً ، وأكثر من 600 ملياردير ظهروا كطفرة في قطاعنا الحبيب ، لنشهد تناقضا طبقيا غير عادل في مساحة جغرافية موزعة علينا بشكل غير عادل ..

بعد كل هذا السرد والتحليل ، بالله عليكم، يا أحرارا لعالم هل يحق لنا أن نحتفل بيوم العمال ، أم الأجدر أن نحتفل بيوم المتسولين العالمي ? ومن هنا أقول لكم يا متسولين العالم اتحدوا - اتحدوا - ولن تخسروا سوى الذل والهوان وسلال الجوع ، فلابد لأن تعود لكم يا أسياد العالم كرامتكم فانتم بناة الوطن وأمله ،وغده المشرق .. د. ناصر إسماعيل اليافاوي – كاتب باحث فلسطيني الأمين العام لرابطة المثقفين العرب

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير