دعد صيرفي تكتب لـوطن: شحّاذ المدينة

30.10.2020 12:34 PM

في مسرحية الأخوين الرحباني: "هالة والملك" دار حوار بين ملك مدينة تدعى "سيلينا" وشحاذ تلك المدينة، أخبره خلاله الشحاذ برفض فتاة تدعى هالة عرض الزواج من الملك، مما دفع الملك إلى محاولة اقناع الشحاذ بأن يعيره ثيابه وأن يتبادلا الأدوار للحظات لكي يتمكن من الوصول إلى هالة وسماع رأيها بصراحة وسبب رفضها له؛ لكن شحاذ المدينة رفض أن يصبح ملكاً ولو للحظات! فتعجب الملك رده ذاك وهو المعتاد على استشعار أطماع من حوله بالمنصب والكرسي، وفي تفسيره لسبب امتناعه أخبره الشحاذ بأنه يمتلك الآن الحلم بامكانيات الكينونة المستقبلية اللامحدودة بالنسبة له، بينما فقد الملك كل امكانية للحلم بأن يصبح شيئاً أكبر من الملك! لكن الملك في مدينة سيلينا امتلك حلماً بأن يصبح شحاذاً للحظات.

على رصيف مدينة ما في عالمنا الواقعي وفي موازاة لمدينة سيلينا، يجلس على الرصيف شحاذون كثر بل ويمشي بعضهم بيننا دون أن نشعر بهم، وقد يزوروننا في بيوتنا أو أماكن عملنا، الجميع في هذه المدينة يشحذ في لحظات ما من حياته.. البعض يشحذ المنصب.. والبعض يشحذ المصلحة.. والبعض يشحذ المحبة والألفة.. والبعض يشحذ الحديث أو مجرد كلمة طيبة.. والبعض يشحذ البقاء.. والبعض يشحذ الكرامة أو العدالة.. الخ، تطول القائمة ولا تنتهي.. وقلة منهم من يطلبون المال أو قوت يومهم، هم فعلاً قلة منهم، أليس ذلك صادم نوعاً ما! كلنا شحاذون ولو بالخفاء.. وكما قال ملك مدينة سيلينا: "الليل بيخلي الكل شحادين".

وفي نهاية مشهد مسرحية "هالة والملك" اقتنع شحاذ المدينة وقام بإعارة ثيابه للملك ليتمكن بدوره من التقرب إلى هالة وسؤالها عن سبب رفضها الزواج منه، وفي لحظة مصارحة عفوية - دون علمها بأنه الملك بحد ذاته - كشفت له هالة حقيقة مشاعر ونوايا سكان مدينته تجاهه، وأخبرته عن فقر مدينته وعن غش مساعديه ومكرهم وكذبهم، وعن سبب رفضها لطلب الملك الزواج منها، كونها فتاة فقيرة في الحقيقة وليست الأميرة التي أوهمه اياها مستشاروه وهي لا ترغب بالكذب عليه، كما انها لا تريد التوقف عن الحلم، تفاجأ الملك وكأنها أول مرة يرى فيها مدينته على حقيقتها، كأن شبابيكها المنخفضة قد فتحت فجأة واعتلت بموازاة تاجه مما مكنه من دخول بيوتها دون سقوط تاجه المذهب!

ربما سيبدو لكم هذا التحليل مضحكاً! فبطريقة ما أنقذ ذلك الشحاذ مدينة سيلينا ومكّن ملكها من توسيع بصيرته لها ولما خفي تحت أرضيات خداع بطانته ومستشاريه، بطريقة ما اقترب الملك من الحقيقة عندما التغت تلك الفوارق الطبقية - حتى وإن تحقق ذلك ضمناً ودون قصد مباشر لإلغائها – فكان الشحاذ حبل نجاة مدينته، ربما بات من الضروري أن نخلع جميعاً نظاراتنا الشمسية أو أن نفتح نوافذ سياراتنا المعتمة والأهم من ذلك أن نفتح دواخلنا للآخر بكامل تناقضاته ونواقصه وانعدام فرصه في الوقت الحالي، لعلنا نشهد حقيقة واقعنا وما وصلنا إليه، وعندما نلمس القاع ورصيف الشوارع سنتمكن فقط من تغيير هذا الواقع دون تنظير أو حلول خيالية مسرحية، ودون قسوة الاسقاطات الطبقية المجتمعية التي أفرزتها بشكل واضح ظروف المرحلة الحالية، رفقاً بمن تمرون أو حتى تتعاملون معهم خلال أيامكم، فمن يعلم! قد تصبح مكانه ذات يوم مستحيل وفق المعطيات الحالية لكنه قد يكون ممكناً وواقعاً مستقبلياً.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير