حرية التعبير والذم والقدح... الحدود الشائكة - محمد ابو عرقوب
14.04.2013 10:18 AM

_ المصلحة العامة هي الحد الفاصل بين النقد المباح وبين الذم والقدح
_ لا يسوغ بحال أن يكون الشطط في بعض الآراء مستوجبا إعاقة تداولها
_ شبكات التواصل الاجتماعي غير معفية من مسائلة القانون
إن مبالغة الفرد في استخدام الشدة عند تعبيره عن رأيه لا يعد مسوغا لتشدد القضاء في استخدام العقوبات، رغم أن قانون العقوبات رقم 16 لسنة 1960 المطبق في الضفة الغربية أعطى القاضي صلاحية التشدد في الحكم، حينما بين صراحة افعال الذم والقدح المعاقب عليها، والعقوبات المترتبة على ارتكاب هذه الجرائم، وبين في الوقت ذاته المباح من النقد.
إن المعضلة التي تواجه الصحفيين أو افراد المجتمع في فلسطين، هي عدم معرفة الحدود الفاصلة بين النقد المباح وبين جرائم الذم والقدح المعاقب عليها في قانون العقوبات.
وهذا الامر يفتح جدلا كبيرا حول الحكم الذي صدر بحق الصحفي ممدوح حمامرة بالسجن سنة بتهمة الذم والقدح كحالة، إذ اتهمته النيابة العامة بنشر صورة مسيئة للرئيس محمود عباس على صفحته الخاصة في موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك والتي تتضمن الرئيس محمود عباس الى جانب شخصية ظهرت في مسلسل باب الحارة الشهير كانت تمارس أعمال الخيانة والعمالة لصالح الاحتلال، وبعد صدور الحكم أصدر الرئيس محمود عباس عفوا عن حمامرة.
لا يمكن القول أن عيبا قانونيا إعترى قرار قاضي محكمة الاستئناف بإدانة حمامرة بتهمتي الذم والقدح، فقد استند في حكمه الى قانون العقوبات الذي يبين أن نشر مثل هذه الصورة يحمل في طياته إسناد فعل الخيانة والعمالة الى شخص الرئيس الفلسطيني محمود عباس، كما يحمل هذا الامر وصفا للرئيس يحط من شأنه وكرامته، ولكن قرار القاضي فيه استخدام متشدد للقانون في مواجهة مواطن فلسطيني استخدم حقه الدستوري في التعبير عن رأيه بشدة وقسوة وصلت الى حد الشطط.
والسؤال ألاول الذي نطرحه في حالتنا الفلسطينية، هو أنه كيف يمكن للقضاء أن يعالج قضايا الرأي والتعبير بطريقة يحمي فيها حرية الرأي والتعبير كما يحمي خصوصية الافراد وكرامتهم وسمعتهم؟ أما السؤال الثاني فهو كيف يمكن للفرد العادي أو الصحفي أن يمارس حقه في الرأي والتعبير والذي يشتمل على حرية الصحافة والاعلام دون الوقوع في جرائم الذم والقدح، وممارسة النقد المباح الذي لا يعرضه للمسائلة والادانة؟ وللإجابة لابد من التعمق في ما يمكن ان يستند اليه القاضي في حماية الحريات، وتبيان حدود المباح من النقد والمعاقب عليه، وسنستخدم حالة الصحفي حمامرة لتقريب الصورة.
في مناقشة السؤال الاول.
إن حرية الرأي والتعبير هي الاجدر بالرعاية لدى القضاء من الاشخاص الذين يقع عليهم الظلم من تشدد المعبرين عن رأيهم في استخدام قوارص الكلام عند ممارستهم لحقهم في حرية الرأي والتعبير. وينطلق ذلك من أن القانون الاساسي الفلسطيني الذي يعد دستور البلاد المؤقت حفظ في المادة (19) حق الناس في التعبير عن ارائهم بأي طريقة يرونها مناسبة، ومنع القانون الاساسي وقفها أو مصادرتها، وذيل هذا الحق بأن تكون ممارسته وفقا للقانون.
هناك أحكام قضائية اثبتت واجب القضاء في رعاية الحريات، ولأن الاردن يطبق ذات المواد القانونية التي تطبق في فلسطين حول الذم والقدح والمباح من النقد، نجد ان القضاء الاردني سجل سوابق قضائية لم يبلغها الفلسطيني الى يومنا هذا. ومن تلك الحالات أنه وفي عام 1996، اشتكى أحد نواب البرلمان الاردني على صحيفة أردنية نشرت صورته وكتبت تحتها عبارة " نظرة.. فإبتسامة.. فوزارة"، وأتهم رئيس تحرير الصحيفة بارتكام جرائم الذم والقدح خلافا للمواد (189 و191 عقوبات)، على اعتبار أن الصورة والتعليق تظهران أن النائب المشتكي يمارس النفاق.
فهذه الحالة قريبة من حالة الصحفي حمامرة، لكن القاضي توفيق القيسي شرح في (القرار في 22/3/98) الصادر في القضية أن " الصحيفة عندما اتهمت المشتكي (النائب) بأنه منافق، كانت تتهم أداءه العام في لحظة معينة بالنفاق السياسي وليس النفاق الشخصي، وأن الطعن في أعمال موظف عام أو شخص ذي صفة نيابية عامة لا يدخل تحت قاعدة الذم والقدح. وإن يكن الكاتب أو الناقد (الصحيفة) استعمل كثيراً من الشدة ومن قوارص الكلم لا سيما وأن هذه تأتي من باب المبالغة في النقد والرغبة في التشهير بالفعل ذاته".
ويمضي القاضي القيسي في نص الحكم قائلا " "إن ما قنعت به المحكمة، أن الصحيفة عندما اتهمت المشتكي (النائب) ، كانت تتهم أداءه العام في لحظة معينة بالنفاق السياسي العام وليس النفاق الشخصي. لتستخلص منه حسن نية الصحيفة والذي يعتبر بدوره سبباً عاماً لإباحة جريمة القذف".
في قرار القاضي القيسي افق واسع ينطلق منه حكم قضائي أباح فيه جريمة القذف (الذم والقدح) مراعيا أن حرية الرأي والتعبير أجدر بالرعاية من الانجرار وراء تغليظ العقوبات وحبس الناس على ارائهم وإن تشددوا فيها، فمعاقبة الحريات يحمل الاثر السلبي الاشد على المجتمع، وهذا ما دفع الرئيس عباس الى تدارك ما لم يراه القاضي حينما قرأ قضية الصحفي حمامرة واصدر حكمه فيها.
إن التعديل الاول في الدستور الامريكي يبين أنه " لا يوجد فكرة خاطئة" ما يعني أنه من حق الجميع التعبير عن أفكارهم ولا يحق لأحد أن يحكم على أي فكرة بأنها خاطئة، وهذا يظهر أنه من الصعب ومن السهل في ان معا الحكم على الاراء وإدانتها بموجب القانون، فالصعوبة في ادانة الاراء تتأتى حينما يوازن القاضي بينها وبين حرية الرأي والتعبير المكفولة في أسمى التشريعات الفلسطينية، أما السهولة في الادانة تتأتى حينما ينظر القاضي الى تعريف الذم والقدح الوارد في المادة 188 من قانون العقوبات رقم 16 لسنة 1960 ويطبقه على المشتكى عليه بالحرف والنص.
ليس من الصواب أن يضع القضاء الفلسطيني جرائم النشر أو كما يطلق عليها جرائم الرأي في ذات المكانة التي تقع فيها الجرائم الجنائية الاخرى، فهذا يؤثر بشدة على مناخ الحريات العامة ومنها حرية الرأي والتعبير التي تنبثق منها حرية الصحافة والاعلام.
فلو إطلع القضاء الفلسطيني على قرار المحكمة الدستورية العليا المصرية حول حرية المجتمع في ابداء الرأي والتعبير عنه، لاتخذه قاعدة ثابتة في التعامل مع قضايا النشر وتهم الذم والقدح، إذ تقول المحكمة " إن من الخطر فرض قيود ترهق حرية التعبير بما يصد المواطنين عن ممارستها، ومن ثم كان منطقيا، بل وأمرا محتوما أن ينحاز الدستور الى حرية النقاش والحوار في كل أمر يتصل بالشؤون العامة، ولو تضمن انتقادا حادا للقائمين بالعمل العام، إذ لا يجوز لأحد أن يفرض على غيره صمتا ولو كان معززا بالقانون، ولا شبهة في أن المدافعين عن آرائهم ومعتقداتهم كثيرا ما يلجأون الى المغالاة، وإذا أُريد لحرية التعبير أن تتنفس في المجال الذي يجب، فإن قدرا من التجاوز يتعين التسامح فيه، ولا يسوغ بحال أن يكون الشطط في بعض الآراء مستوجبا إعاقة تداولها".
ويحسن صنعا إذا إطلع القضاة الفلسطينيون الذين يتعاملون في قضايا الرأي والتعبير في فلسطين على ذلك النص الصادر عن المحكمة الدستورية العليا المصرية التي أيدت في تفسيرها القاعدة المبنية على اساس أن حرية الرأي والتعبير أجدر بالرعاية من الاشخاص المتضررين من ممارستها، خاصة أن القانون يعزز القاعدة الواضحة بأن هامش حماية الشخصية العامة من النقد أضيق كثيرا من هامش الحماية الممنوح للفرد العادي، وهنا نجد أن رئيس البلاد شخصية عامة إرتضت لنفسها هذا المكان، وجدير بها أن تقبل النقد لأن عموميتها تلتصق بقوة مع شؤون العامة في هذا المجتمع.
في مناقشة السؤال الثاني
إن الدفاع عن حرية الرأي والتعبير لا يعفي من تبيان الحدود الممنوحة للفرد والصحفي حينما يعبر عن رأيه، فواجب السلطة الحاكمة وخاصة سلطة القضاء أن تحمي سمعة وكرامة وخصوصية الناس من أن تنالها حرية الرأي والتعبير أو تؤذيها. وهذا حق لا يقل مكانة عن الحق في حرية الرأي والتعبير وفقا للمادة (32) من القانون الاساسي الفلسطيني حول حظر الاعتداء على الحريات الشخصية وحرمة الحياة الخاصة التي تنص على أن" كل اعتداء على أي من الحريات الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للإنسان وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها القانون الأساسي أو القانون، جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم، وتضمن السلطة الوطنية تعويضاً عادلاً لمن وقع عليه الضرر"، ففي الوقت الذي لا يسمح فيه القانون الاساسي بالمساس بالحريات العامة فإنه لا يسمح بالتعدي على حرمة الحياة الخاصة للناس أو حرياتهم الشخصية.
لابد من الاعتراف أن كثيرا من الصحفيين لا يتقنون النقد جيدا، والنقد المباح والجيد هو النقد المهني، وعلى الرغم من أن قانون العقوبات رقم 16 لسنة 1960 المطبق في الضفة الغربية يعد التهديد الاخطر لحرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة والاعلام، إلا أنه بين في المادة (198) حدود النقد المباح وتلك الحدود هي ذاتها الحدود المهنية لحرية الرأي والتعبير.
وقبل تبيان تلك الحدود في ممارسة النقد المباح، فإن ما لا يلتفت اليه الصحفيون والاعلاميون في نشرهم لعبارات معينة أو معلومات أو اراء، هو مدى تحقق المصلحة العامة من النشر. فكثيرا ما يركز هؤلاء على صحة المعلومات ودقتها ويهملون تقدير المصلحة العامة المتحققة من النشر، وهنا يقع هؤلاء في الفخ. فليس كفاية الدقة والتوثيق للمعلومة.
ولقد بينت محكمة بداية جزاء عمان في أحد قراراتها الحدود التي تبيح للفرد وللصحفي نشر المعلومات والاراء في ضرورة أن يحقق النشر مصلحة عامة عندما يتناول تقييم وضع أو عمل معين ببيان محاسنه ومساوئه، كما يسلط الضوء على واقعة معينة يستطيع جمهور الناس من خلال التعليق عليها فهمها وإدراك حقيقتها، وهذه المصلحة الاجتماعية تربو على مصلحة من قد يناله أو يمسه النقد. ما يعني أن يتناول الاعلاميون والصحفيون واقعة تهم المجتمع وأفراده إذ لا يستفيد المجتمع من تناول الحياة الخاصة للأشخاص.
وكي يستفيد الناقد من الاباحة في القانون فواجب عليه ان يلتزم بحدود إبداء الرأي في الأمر موضوع النقد بما يحقق اطلاع الناس على وجهة نظره فيه، فإذا تجاوز ذلك وخرج عن النقد النزيه إلى التشهير والتجريح فإنه لا يستفيد من تلك الأباحة، ومن الضروري استخدام الصحفي لعبارات ملائمة لما يريد أن يعبر عنه أو ينشره من اراء او وقائع معينة.
وبالعودة لحالة الصحفي حمامرة، فإنه لم يستغل حدود النقد المباح في القانون حينما "تعامل" مع تلك الصورة ونقول "تعامل" لا "نشر" لأنه لم يقر بنشرها، حيث أن نقده للرئيس وإن توصلنا في مناقشة السؤال الاول أنه مباح على اساس أنه نقد شديد يجب أن يقابل بحكم قضائي يراعي حماية الحريات على حساب المعتدى عليه (الرئيس)، فإنه يعاني من الشدة في الوصف وإسناد فعل مشين وقد استخدم فيه أداة غير مناسبة (الصورة) التي تعادل استخدام العبارات، أي كما لو أنه لم يستخدم العبارات الملائمة في النقد المباح. كما لم تحقق الصورة مصلحة عامة يمكن ان يستفيد منها الجمهور، لأنها تسند أفعالا وصفات غير مثبتة.
وتلخص أحد القرارات القضائية فكرة النقد المباح حينما قالت " النقد المباح هو فعل ليس فيه قذف ولا سب ولا إهانة، أي ليس ماساً بشرف الغير أو اعتباره أو سمعته، وإنما هو نعي على تصرفه أو عمله بغير قصد المساس بشخصيته، من جهة شرفه واعتباره فالتفرقة بين الشخص وبين تصرفاته هي التي يعين دائرة العدوان المعاقب عليها ودائرة النقد الذي لا جريمة فيه".
حينما يفكر الناشر للرأي أو المعلومة الصحيحة في مدى تحقق المصلحة العامة للمجتمع من نشرها، يكون الوقوع في فخ العقوبات القانونية صعبا، والتفكير في تحقق المصلحة العامة من النشر دافع تحتمه على الصحفيين والاعلاميين أخلاقيات مهنة الصحافة وقواعد المهنية التي يتبعها الصحفيون والاعلاميون الذين ينشدون التميز في عملهم.
الفيس بوك والنيابة العامة.
يعقتد البعض أن شبكات التواصل الاجتماعي لا يطالها قانون العقوبات المعمول به لأنه يعود الى عام 1960 ولم يذكر في طياته كلمة واحدة عن الانترنت او شبكات التواصل الاجتماعي، فما حدث مع الصحفي حمامرة بني على اساس الصورة التي نشرت على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، وفعلا سمعت إحدى الصحفيات التي خضعت لمسائلة القضاء تقول أن الفيس بوك لا يخضع لقانون العقوبات أو أي قانون اخر لذا لا يجق معاقبة الرأي المنشور على صفحاته، وهذا غير صحيح.
ببساطة إن المشرع في أي بلد كان يتصف بالذكاء والافق الواسع، فهو يراعي أن تخضع التطورات التي قد تطرأ على المجتمع لبنود القانون الذي يعمل على صياغته، ففي المادة (189) من قانون العقوبات لسنة 1960 بين المشرع الاردني الصور التي يقع فيها فعل الذم والقدح (الحالات)، والصورة الرابعة تختص بفعل الذم أو القدح بواسطة المطبوعات وشرطه أن يقع بواسطة الجرائد والصحف اليومية أو المؤقتة، أو بأي نوع كان من المطبوعات ووسائط النشر، فكلمة "وسائط النشر" فصلت في القضية إذ إن الفيس بوك هو من وسائط النشر لذا يخضع للقانون كأحد الصور التي يمكن أن تؤدي للإدانة بارتكاب فعل الذم والقدح.
أما الامر الاخر الذي يثار هو حبس الصحفيين أو الاعلاميين أو المعبرين عن رأيهم بقرار من النيابة العامة على ذمة القضية، فهذا ما يخوله قانون الاجراءات الجزائية رقم (3) لسنة 2001 للنيابة العامة، على الرغم من أن الصلاحيات الممنوحة للنيابة العامة تمكنه من النأي عن احتجاز الناس على ارائهم مع احتفاظها بحق استجوابهم متى شائت دون الاقدام على حبسهم، لأن المعبرين عن ارائهم والصحفيين والاعلاميين الذين ينشرون ارائهم، والمتهمون بقضايا النشر لا يشكلون خطرا على المجتمع لو تم استجوابهم في النيابة دون اللجوء الى حبسهم.
وفي المحصلة فإن القضاء مطالب بحماية الحريات الاعلامية وحرية الرأي والتعبير وله دور برعاية هذه الحرياتولو على حساب بعض التجاوزات التي قد تقع عند الشطط في التعبير عن الرأي. من ناحية أخرى فإن الضمانة التي تحمي الاعلاميين والصحفيين من قبضة القانون هي المهنية الجيدة التي تراعي المصلحة العامة في النشر، وتحسن النية في انتقاد الاشخاص، فحسن النية عامل مساعد عند النظر في قضايا النشر. ولا يخفى أن ضعف الثقافة القانونية لبعض الاعلاميين والصحفيين يجعلهم إما رهائن لمعتقدات خاطئة عن حدود الحريات وكيفية ممارستها، أو تتعاظم لديهم الرقابة الذاتية خوفا من قانون يجهلون نصوصه فيرضون بالرقابة الذاتية كطريق أكثر سهولة من بذل الجهد في تعلم القانون والاستفادة منه في العمل الصحفي.
إن تعمق الاعلاميين والصحفيين في قوانين الاعلام خطوة هامة نحو الضغط لمعالجة التشوه القانوني الذي تشهده بيئة الاعلام لأن هذه القوانين متعددة المصادر وتعود لأزمنة قديمة لا تصلح لأن تبقى هي صاحبة القول الفصل في قضايا حرية الرأي والتعبير وحرية الاعلام.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء