استعادة بيت المخيّلة الفلسطيني في الكتابة للأطفال واليافعين

15.08.2020 02:35 PM

كتبت: أحلام بشارات

شكّل كتاب ورسامو كتب أدب الأطفال الفلسطينيين، في السنوات الأخيرة، جبهة نضالية، حملت اسم فلسطين إلى منصات عربية وعالمية، على عاتق فنانين وكتاب، عملوا ببطء، وبدأب، ودون تشجيع سوى ألفة وجودهم إلى جانب بعضهم البعض.

كانت واحدة من هذه المنصات العالمية من خلال المجلس العالمي لكتب اليافعين، الذي أحرزت عضويته لصالح فلسطين، إلى جانب ستة فروع عربية أخرى، بجهود فردية، بعض المناضلات العظيمات، اللواتي عملن بشكل طوعي  تطوّعي حتى الآن، ورأسته، ومازالت، السيدة جهان الحلو، فسعى المجلس العالمي لكتب اليافعين، فرع فلسطين، إلى حمل أسماء كتاب ورسامين ومترجمين، فلسطينيين، في حقل أدب الأطفال، مرة كل عامين، في ثلاثة حقول، إلى قائمة الشرف العالمية لكتب الأطفال واليافعين، هي حقول التأليف والرسوم والترجمة.

لم يحصل الذين وصلوا إلى هذه القائمة على أية امتيازات، سوى امتياز أن يكتب اسم فلسطين، إلى جانب أسماء دول العالم، على قائمة الشرف، كأنه جبل، وتحته اسم كل واحد منهم كحجر صغير يسنده، وكان هذا فخرنا أن نسند الوطن، على أكتاف مخليتنا، ولقد تشرفت بإسناده مرتين، عام 2012 برواية " اسمي الحركي فراشة"، وعام 2020 برواية "مصنع الذكريات"، في المرتين، معي، ما يوسم بالضعف والغياب، الفراشةُ والذكريات، إلا أنهما استطاعا حمل فلسطين، ثقافيا، مقابل ما قصرت عنه القوة والضجيج لسنوات! إنها المخيّلة، في العادة، تربح، إن رويت من ماء النبع، ولقد رويناها، نحن الحالمون، وارتوينا معها، وسقينا اسم فلسطين محمولا على قائمة الشرف، فعلنا ذلك كتابا ورسامين ومترجمين بهمة واقتدار، متوارين عن الجمهور، وهشاشة التصفيق.

وواحدة من تلك المنصات، كانت على محرك البحث الثقافي العربي، تحط في الامارت العربية، من خلال جائزتي الاتصالات الاماراتية الخاصة بأدب الأطفال، وجائزة الشيخ زايد ذات الفروع المتعددة، وواحد منها فرع أدب الأطفال، ولقد ترشحت كتبي، وكتب لكتاب فلسطينيين، لهاتين الجائزتين على مدار سنوات، وفاز بعضها، سواء في الرسم أو في الإخراج أو التأليف، كان آخرها، هذا العام، عام ٢٠٢٠، حيث كانت الجائزة في فرع أدب الأطفال، في جائزة الشيخ زايد، لكتاب الفتاة الليلكية، الذي يؤرخ لمسيرة الفنانة التشكيلية الفلسطينية تمام الأكحل، لكاتبته الفلسطينية ابتسام بركات، ومن منشورات مؤسسة فلسطينية، هي مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، في رام الله.

بعد التقارب الاماراتي الصهيوني، سبقنا للانسحاب من المشاركة في هذه الجوائز كتاب عرب، رأوا في تطبيع الإمارات مع العدو الصهيوني، إساءة لفلسطين وللفلسطينيين، ولمشروعهم التحرري، وبات يسيئني ككاتبة فلسطينية متخصصة في الكتابة للأطفال واليافعين أن ترتهن الكتابة للجيل الذي سيحمل فكرة فلسطين في توقها نحو حريتها، في فلسطين وخارجها، لمشاركات خارجية، أصبح المشي على أرضها يشبه السير في حقل ألغام، في ظل غياب أي دعم حقيقي وطني مساند لمشروع التنشئة والفن والتربية الوطنية في فلسطين المحتلة نفسها، الذي نسعى نحن كتاب أدب الأطفال واليافعين أن يكون فراديا، خاليا من الوعظ والإرشاد، لأطفالنا الذين راهنت جولدا مائير على نسيانهم لحقهم في أرضهم!

إننا غير متسرعين في كتابة الكلمات التي قد تجرح صورة الوطن، مازالت عالقة بين ملفاتي قصة بعنوان الطابق العلوي منذ عام 2010، لأن الحوار الذي كان سيجري بين طفل فلسطيني يمتلك البيت في مدينة القدس، وبين طفل إسرائيلي سطى أهله على الطابق العلوي من البيت نفسه، توقف في حنجرتي فغصصت، ومازلت أحمل في حلقي غصّة عمرها عشر سنوات.

الحوارات ليست سهلة في أدب الأطفال الفلسطيني، وكذلك اختيار اللغة، واختيار الشخصيات، وأسمائها، ثم ستسأل نفسك إن كنت ستتيح للشخصيات التي ستختارها فرصة أن تجري حوارا، ثم ما هو هذا الحوار، من القوي فيه، ومن الضعيف، ومن سيسند الضعيف، ومن سيكسر شوكة المعتدي! وهل ستظل ككاتب مسؤولا عما يجري داخل كتابك، أم أن الوضع السياسي الذي يتحرك في الأطراف، على الحواجز، وفي أروقة المؤتمرات، وتحت الطاولات، ثم يوقع على الأوراق علنا، سيضع حدا لدورك، ما يجعلك تلقي بقصتك جانبا؟
حسنا، لم يحن الوقت لإكمال قصة الطابق العلوي.

قصص كثيرة أوقفنا كتابتها، تخلينا عن شخوص، غيرنا أسماء، اعتذرنا عن مشاركات، لنكتب ما نريد دون أن تنتقص الفكرة ودون أن يكتمل المعنى، إن لم يكمل فلسطين التي ظلت طائرا يرفرف فلا نمسكه، ولا يطير، إنه طائر عالق مثلنا، مضيق عليه مثلنا، مهدد مثلنا، نحن الكتاب والرسامين الذين ستجد أيها القارئ جزءا منا كان طفلا في الانتفاضة الأولى، وطفلا في الانتفاضة الثانية، ومشردا خارج بلاده طوال سنوات، وقابضا على النار بين الوطن المحتل، والمنفى الغريب، إلى الأبد!

حكاية حقل الالغام هذا ليس حديث العهد في موضوع الكتابة عن فلسطين للأطفال، قصة البيت، لزكريا تامر،الكاتب السوري المعروف، التي هي إحدى منشورات دار الفتى العربي، التي أنشأتها منظمة التحريرالفلسطينية  في بيروت عام 1976، فاستقطبت أقلاما فلسطينية وعربية، في الرسم والكتابة، فتحته على النار وعرضته لخطر القول، وهذه القصة من القصص المصورة الموجهة للفئة العمرية من 3_6 سنوات، من سلسلة قوس قزح التي اشتملت على 20 قصة قصيرة، اختبرت حقل الألغام جيدا، وكانت سلسلة قوس قزح من أكثر السلاسل انتشارا، والأكثر شعبية بين الأطفال العرب من بين 187 اصدارا موجها للأطفال العرب دون سن 18 سنة، صدر عن الدار.

في قصة البيت ثمة مقولة واضحة لا يمكن أن لا يراها القارئ، بدليل أن مترجم الكتاب، إلى اللغة الانجليزية، رآها ولعب بها، بجوهرها.

فما المزعج في هذا الحل الذي تقدمه القصة كي يكون للفلسطيني بيت مثل الأرنب والحصان والدجاجة والعصفور؟
ثم كيف سيحصل على بيت دون أن تتحرّر فلسطين؟

ثم، قبل هذا وذاك، ستتحرّر فلسطين؟

من داخل هذه الأسئلة يمكننا قراءة ما يكتب للأطفال واليافعين الفلسطينيين، ان لم نقل العرب، مؤخرا؟
غرس "عجمة" القوة داخل لب زيتونة العمل المقدم للأطفال واليافعين، نواة الفخر، الحب، الخير، الوطن، الانتماء، التآخي، العروبة،:
ما الذي يؤخر هذه المعاني؟ هل هو الخوف على المضامين والفنيّات أم منها، أم من شيء خارج الكتابة، من داخل الكتّاب أنفسهم الحريصين على التواجد في الفعاليات، ومن داخل دور النشر، وتوجهات الدول التي تقع فيها هذه الدور، من داخل السياسة وتوجهاتها، وتوجيه بوصلتها، والتي الآن نرى انحرافها، في بلد يعمل على صناعة الكتاب العربي للأطفال، لصالح الذي سلب أطفال فلسطين طفولتهم، ومازال جاثما فوق أغطيتهم في الليل، وفوق قمصانهن في النهار، ومصوّبا البنادق نحو قلوبهم وهم في طريقهم نحو مدارسهم؟

خلال السنوات الماضية اشتغلت وزملائي في مجال حقل أدب الأطفال، وحاربنا على جبهات التجديد والمقاربة كي لا يتهم كِتَاب الأطفال الخارج من فلسطين بالجنائزية، أو بغلبة السياسي عليه، أو بسطوة الوعظ والمدارسية، واستطعنا أن نخلق هذا الانسجام، في المعنى الذي عجناه وكورناه وخبزناه، ونافسنا به عربيا وعالميا، ونجحنا، ورفعنا اسم فلسطين، بإمكاناتنا البسيطة، وبمخيلنا الشاسعة، وبقوة قلوبنا العامرة  بحب فلسطين الذي لا يخفت ولا ينطفئ، ولم ننتظر دعما من أحد، كنا نعارك، ولسنوات، وحدنا، مهمشين، منسيين، مدفوعين بخشونة خارج الاهتمام المحلي، في أغلب أشكاله، ولن أقول كلها، من الجوائز الرسمية وشبه الرسمية التي لا تأتي على ذكر اسم أدب الأطفال، ومع ندرة بيّنة لمنصات النشر، الذي يكاد يكون محصورا  بمؤسسة أو اثنتين أو ثلاثة، تحارب هي الأخرى مثلنا، ولا تستطيع استيعاب هذا الغليان، ولا الاحاطة بهذا المنتوج الناتج عن مخيلة لا يحاط بها، ولا الإبداع المعتمل في داخل كل فنان وكاتب يعمل في هذا المجال فينام وهو يحلم، ومع غياب حقيقي لترجمة المنتوج الابداعي، في هذا الباب، إلى لغات العالم الحية، وغياب مواز لترجمة ما ينتجه العدو، الذي يظهر صورتنا لأطفاله، فيما يكتبه كتّابه، في صورة البدو، البدائيين، فاقدي الأهلية للأرض!

أستطيع أن أقول، بثقة، إن العمل في حقل أدب الأطفال الفلسطيني، حمله مناضلون حقيقيون، ثائرون، يؤمنون بفلسطين، ويشعرون بالمسؤولية اتجاه الطفل الفلسطيني والطفل العربي وأطفال العالم، فلم يسقطوا في السياسة، ولم يبتعدوا عن الوطن، وهم أشخاص يعدون على رؤوس الأصابع، وكان بإمكانهم أن يواصلوا، عملهم الدؤوب، مثل النمل، بصمت، لصالح فن لا يحاول التقرب من المؤسسة الرسمية التي تخلت عنه وأهملته، لولا أن المشهد العربي، الذي يشكل الأفق الوحيد لبلاد مضيّق عليها في الهواء الذي تتنفسه، صار يضيق أكثر فأكثر عليه وعليهم، فأصبحت المسؤولية تثقل أكثر فأكثر على من يحملها، على أكتاف كتاب وفنانين أرهقهم ثقل الوجود لسنوات في واقع العنف المركب في الأرض المحتلة، ما صار يشكل حاجة خاصة وعاجلة لانشاء منصة فلسطينية، لا تترك مشاركة الكتاب والرسامين، بحيزها الضيق والأحادي، رهينة الخارج، بل تستقطب كل ما هو خارج فلسطين لصالح فلسطين، من كتاب عرب وكتاب عالميين، كما فعلت لسنوات، دار الفتى العربي، فإذا كانت البوصلة قد حرفها القريب لصالحه، لنأخذ حظنا من البوصلة ونحرفها نحونا، لتكن الوجهة فلسطين ليس في معنى التحرر فقط، بل بالإبداع، والخيال، والمغايرة، والاستقطاب!

لنبنِ جسما مستقلا، قائما بذاته، يمثل الطفل الفلسطيني، بكلمته ومخيلته، وحاجته، وقدرته، وتوقه، وبفلسطينه, وكل من يقف معه في حلمه ويناصره ويناصر من يحمل قصته، لقد حان الوقت، أن نسترجع دورنا في أن نكون بنائيين حقيقيين، أصحاب بيت الخيال، بدل الاشتغال بالسخرة، خارج وطننا، في حقائق الآخرين وواقعهم الذي من الواضح أنه يستثنينا، لا يرانا، ولا يشعر بما نعانيه منذ عام 1948، وحتى الآن، وقد صارت فضاءاته مكلفة لنا وجوديا ووجدانيا ووطنيا وإنسانيا.

إنه نداء الحالمين، أصحاب الخيال، لاستعادة دورنا الريادي، الذي لو فعلنا وأخذناه فسوف نجد، من يقف في صفنا، من أحرار العالم العربي، والعالم أجمع، من فنانين وكتاب، ومثقفين، وفاعلين، وسوف نستعيد ليس السفينة ودفتها، بل الحرية وبحرها!
يعيش الحالم في حلمه، ويكبر في حلمه. ولا شئ يوجعه...  سوى أحلامه.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير