حمدي فراج يكتب لـوطن: دق خزان غسان خطأ شائع

10.07.2020 09:24 AM

يقع الكثير من المثقفين الفلسطينيين والعرب في خطأ شائع ، مفاده : لماذا لم يدق "الرجال في الشمس" ، جدران الخزان الذين حشروا بداخله تهريبا بين العراق والكويت ، وماتوا دون دقه؟

الجواب ، هو لأن ثلاثتهم أعجز عن ان يقوموا بهذا الفعل البسيط والعادي ، تقوم به كائنات اقل شأنا بكثير من الآدميين ، خرافا وكلابا  وارانب ، إن حشرتها في صهريج تصل حرارته فوق احتمالها ، فإنها بالضرورة ستقوم بدقه وقرعه كي تدفع طائلة الموت الذي يتربصها خلال دقائق.

أراد غسان كنفاني ، الذي وضع هذه الرواية عام 1957 ، اي بعد النكبة بحوالي تسع سنوات ، إن من يترك أرضه ووطنه ليبحث عن "لقمة عيش" في المهاجر ، سيفقد مقومات ذاته وانسانيته ، وسيصبح دون أن يتجرأ على قرع جدران خزان كي ينقذ حياته وحياة اخوة او زملاء له عض ناب الجوع أطفالهم ، يتكلمون نفس اللغة في وطن تم اقتناصه واغتصابه امام اعينهم ، فتركوه بدعوى البحث عن لقمة العيش.

لقد ذهب غسان في هذه الرواية ابعد من ذلك بكثير ، إذ بعد أن أماتهم ميتة مذلة مهينة أعجزتهم واقعدتهم عن الدق ، رغم انهم دفعوا ثمن النقل في صهريج الامير الكويتي ، ألقى بهم في مزبلة الكويت الرئيسية ، بدلا من ان يعيد جثامينهم الى أهلهم ، او الى الحكومة العراقية او بلدية الكويت لكي تقوم بدفنهم كما الشريعة الارضية والسماوية ، حفظا لكرامتهم وكرامة الاحياء من بعدهم ، لكن المكان الوحيد الذي رآه موائما لهم بعد موتهم ، كان المزبلة . كأنه اراد ان يقول لهم : هاكم مكانكم الذي تستحقون.

ربما تركبت كل هذه القسوة على هؤلاء العمال البسطاء ، لأنهم ايضا وثقوا في قيادة فلسطينية رمَزَها غسان في شخص "ابو الخيزان" ، مقاتل فلسطيني اصيب في حرب 48 برصاصة في خصيتيه ، فلم يعد يستطيع الانجاب ، هاجر بدوره الى الكويت وعمل لدى الامير سائقا على صهريجه وقوادا في مواخير بغداد والراقصة "كوكب" ، فما كان منه بعد ان ألقى بجثثهم في المزبلة ، أن عاد وجردهم من اموالهم وساعاتهم وبقية ممتلكاتهم ، كأن غسان اراد ان يقول لهم : هذا جزاء من يراهن على قيادة رجعية او برجوازية وطنية ليس لها هم أكبر من هم جمع المال ، وانها قد تتاجر بحياتكم ودمكم ومماتكم وآخر قرش في جيوبكم ، وأنه ما كان عليكم ان تسلموها قياد رقابكم بمجرد انه فلسطيني من نفس بلدكم ، ولا بمجرد انه مقاتل ، وبمجرد انه جريح ، فهو اليوم "مخصي" لا يمكن أن ينجب ، ولهذا قام في نهاية المأساة بسرقتهم.

يذهب اليوم نحو ربع مليون فلسطيني للبحث عن "لقمة العيش" في اسرائيل نفسها ، بعد ان يحصلوا على تصاريح خاصة ، يواجهون الموت عدة مرات في كل يوم ؛ معاطات وطوابير وحواجز . "حزانات من نوع آخر".

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير