عن أفكار لا تذهب

12.06.2020 11:33 AM


كتب: خالد بركات

العالم كُلّه يَغلي ، حَرفياً ، هذا الكوكب يَغلي !

مع إنفلات وتغّول الطُغمة الرأسمالية الحاكمة ومواصلتها تكرّيس سطوتها على الشعوب المُفقرة وسرقة ثرواتها وخيراتها ، يغلي العالم أكثر . إن ما يحدث من تغيير في المناخ و من تدمير للبيئة بسبب نشاط وحركة الدولار وانبعاث الغازات مسألة ليست مزحة كما يظن الغبي " ترامب " وبعض الكهنة وبراميل النفط في الخليج. هذا عصر النيوليبرالية يجثم بالحديد ويفرض عضلاته وسطوته القاتلة على البشرية.

****
طُغمة المال وهي ذاتها عصابة الفساد و جلاوزة السجون و أصحاب البنوك والمصارف، تستقوي بـِ أجهزتها الأمنية والبوليسيّة على غلابا الأرض دونما رادعٍ أو حسيب و رقيبْ . إنها سلطة المجتمع الطبقي الذكوري أيضًا . وما كان يُسمى يومًا ما " الطبقات الوسطى " سواء في المجتمعات الغربية الصناعيّة المُتقدمة أو في جنوب العالم، باتت تجد نفسها اليوم تنحدر سريعاً إلى القاع حيث تقبع الأكثرية الشعبية المفقرة التي تطحنها عجلة الفقر والحرمان والمرض .. يأكلها الجوع ، يبلعها القلق .  ولا حماية لأحد في عصر ترامب. إلا بالثورة.

****
ماذا يفعل الناس أمام تقدُّم جيوش وجبروت الدولة والدولار والحديد والتقنيّة الجديدة  و" كلاب المصرف " كما يصفهم شعب لبنان فلا حماية لحقوق الناس إلا بالثورة كما قلنا ، بالعصيان والتمرّد الشعبيّ ، والرفض الذي يُلازمه الوعي والإرادة والقيادة الوطنية الموثوقة ، وقبل كل شيء التصوّر السياسي الاجتماعي و الاقتصادي البديل والجديد الذي يولد من رحم القديم ، وياتي من طريق مغاير  في مجتمعاتنا المنهكة .

ان البديل الثوري الديموقراطي الذي تحميه الكتلة الشعبية الكبيرة من موقع الند للسلطة المهيمنة لا من موقع الضعيف والتابع ، هو البديل الشعبي في مواجهة أقلية متسلطة لا تزيد عن 1 %   تملك كل شيء ، تملك السلطة والإمتيازات والقضاء والمصارف والضمانات وتسرق حقوق 99 % من الشعب..

حفنة من أفراد في الولايات المتحدة يملكون أكثر مما يملكه نصف الشعب ، هذا في أمريكا يا طويل العمر ، وحفنة من أصحاب المليارات في مصر المحروسة لا يتجاوز عددهم 20 شخصًا يملكون  أكثر من 60 مليون مصري/ة . والسيد منيب المصري في فلسطين المحتلة يملك منفرداً ثروة تفوق ما يحتكم عليه  62 مُخيمًا فلسطينيا،
وهكذا ..وهكذا .

أين العدل ؟ أين التوزيع العادل للثروة ؟ وما يسمى الضمان الاجتماعي و دولة الرفاه والنظام الديموقراطي ؟ 

****
يُدرك المواطن العربيّ والإفريقيّ في منطقتنا المنكوبة المُتعبة أيّ ثرورة وكنوز هائلة تلك التي فوق أرضه وتحت قدميّه  . غير أن هذا الإدراك ، على اهميته القصوى، لا قيمة له اذا لم يملك الشعب الأدوات والآليات الضرورية اللازمة للتغيير وحماية نفسه وصون ثروته من تغوّل السلطة وراس المال والجيوش وشركات النهب العابرة للحدود ..

كيف يدافع الشعب عن ثروته وهو محروم من كل الأسلحة ؟ بما في ذلك مؤسساته الوطنية ؟ وكيف ينتخب ممثليه اذا كان كل النظام مُعداً سلفاً لمصادرة صوته في اليوم التالي للإنتخاب؟

ولا يجد الشعب طريقًا للحل في كل هذا اللغو  المُكرر عن النظام الديموقراطي التعدديّ الذي يكفل حرّية الرّأي و التعدديّة الحزبيّة والإنتخابات الحُرة وتطبيق الدستور .. إلى آخره من كلام يومي ومعسول ومكرر عافه الشعب ولم يعد يصدق حرفا واحدا فيه .. لا يجد طريقه ، بل الاسوأ : هذا صار اليوم خطاب السلطة القائمة. 

المشكلة أعمق و أبعد من أن تحلها كلمات مجترّة حول ما يسمى دولة المواطنة ، حتى هذه لن يحصل عليها " المواطن /ة " . لذلك لا يسمع الشعب إلى خطابات الزعماء ولا خطاب المعارضة ، ولا يقرأ نصوص الدساتير الجاهزة ! يقول : كلهم حرامية يا زلمة ، تعال نلعب طرنيب ؟!
ويتابع ..

*****
لا، ليس صُدفة أن تعود اليوم رواية 1984 لجورج أورويل إلى الواجهة . وهو الذي قال لنا أيضاً قبل عقود  " إذا أردت أن تتصور المستقبل تخيّل بسطار يدوس على وجه إنسان" 
يا لنبؤة اورويل !

هذا بسطار السلطة والشرطة والعنصرية يدوس الخلق كل يوم. ويخنق الشاب جورج فلويد وشعوب كثيرة مخنوقة هي الأخرى تحاصرها البنوك والكورونا والقوانين .. في آن واحد.

إذن لا عجب أن يطل كارل ماركس ( 1818 ـ 1883  ) من جديد في أحزمة البؤس وشوارع المدن والعواصم الثائرة والصامتة على حد سواء ، يَمُد لسانه لنا وهو يعود مع كل أزمة اقتصادية ومع كل اضراب عماليّ وكل إحتجاج وانتفاضة شعبيّة ، يصرخ في وجوهنا : يا عالم ، قلنا لكم مليون مرّة المشكلة في النظام ، في طبيعة النظام نفسه، أوفففف ! 
ومثل كارل ماركس، فانا لست ماركسياً .

مرّ قرن ونصف تقريبًا على رحيله و كتبه لا تزال تتربع على رأس القائمة في مكتبات العالم إلى يومنا هذا . ولا يزال عشرات الملايين يعتبرونه ذي صلة بواقعنا الرّاهن . ولا أظن أن السبب وراء هذه الحقيقة هو حنين جارف للماضي ، ولا هو توفيقًا من عند العلي القدير ( بالتأكيد) بل هي عودة شعبية أمميّة مفهومة . وحقيقة تقول لنا : نعم ، لم يتغيرّ الكثير مُذ  كتب كارل ماركس ور فيقه فريدرك انجلز " البيان الشيوعي" وقالوا ، يا غلابا الكون إتحدوا وإلا  !.

جوهر نظرية ماركس وفكرته الرئيسية بسيطة وتقوم على فكرة إن النظام الرأسمالي نهبوي وحرامي بطبيعته ، ويسحق الناس ولا يعطيهم قدر ما ينتجوه . لا يوجد توزيع عادل للثروة في ظل نظام يملك فيه بضعه افراد كل الثروة . وهذا نظام الاقلية والملكية الخاصة للبعض فقط ، وهو نظاماً يحمل تناقضاته وربما موته في احشائه ، اذن .. لا بد للبشر من اجتراع نظام بديل ..

إعادة قراءة الناقد والفيسلوف الألماني الكبير وما كشفه من خلل حقيقي لا فكاك منه في بنية وطبيعة النظام النهبوي و العودة لشرحه المتماسك عن عملية السرقة التي تجري للبشر في دورة الانتاج والمال، لا تزال ضرورة لا بد منها أمام التحوّلات الكبرى والثورة الصناعيّة من جيل التقنية الرّابعة والخامسة . 

تغير الشكل ، ربما ، ولكن الجوهر لا يزال على حاله..الصراع بين من يملك كل شيء وبين أكثرية لا تملك أي شيء..

****
ولا يغيب فكر غسان كنفاني ورسومات ناجي العلي عن المشهد الفلسطيني والعربي . بل أكاد اقول ان حضورهما أكبر في أوساط الشباب والجيل الفلسطيني الجديد من أي وقت مضى .. هذا الجيل يغلي من الدّاخل هو الآخر ، يريد تحقيق التغيير المنشود في ساحة فلسطينية متعثرة و منغلقة ، ويريد أن يوحد جزر وساحات وميادين فلسطينية لا تلتقي..لقد ورّثوه نكبة ونكسة وكارثة " السلام " واتفاقيات اوسلو سيئة الصيت والإسم..

إن هذه المدرسة النقديّة والثوريّة التي مثّلها غسان كنفاني وناجي العلي لا تزال بوصلة صالحة وموثوقة وعصرية أكثر مما كانت عليه في أيّ وقتٍ مضى، أوضح بكثير ، خاصة لجهة تحديد طبيعة المعركة التي يخوضها الشعب الفلسطيني ضد كيان العدوّ الصهيوني الإستيطاني العنصري وحلفائه من المستعمرين والقوى الرّجعية
وضد مؤسسة ونهجف القمع و الفساد الفلسطينية أيضاً.
من أين يبدأ ؟

****

وتغلي مصر أيضاً في الخامس والعشرين من يناير 2011 فيحضر الشيخ إمام إلى الميادين في ثورة الجماهير الشعبية المصرية ، ثم يتوارى ويغيب أمام عسف الجنرالات وقوى مضادة للثورة والتغيير ..ويغيب في سجون مصر التي تجاوز عدد " قاطنيها " اليوم نحو 60  الفاً  من البشر. وأكثرهم طلبة ومثقفون وشباب فقراء وعمال وفلاحين : غلابا.

وفي تشيلي سيحضر فيكتور جارا وقيثارته الثوريّة في مسيرات الشعب، كما يعود جيفارا الى بوليفيا دون ان يخوض حرب عصابات في الغابات والجبال هذه المرة ، بل يعود مُحرضا ومحررًا ونصيرًا ، طاقة نضالية ومعنوية وثقافية قصوى للطبقات الشعبية التي وصلت مع إيفو موراليس للسلطة قبل أن تنقلب عليها الشركات الأجنبية وقوى الإستغلال.

بوليفيا هذه حُرة ، قطعت علاقاتها مع الكيان الصهيوني ولا تخاف من أمريكا. وعرفت في أي معسكر ستقف وبدأت تنهض ، لذلك استنفرت شركات وجيوش وأجهزة ، وهندست انقلابا " ديموقراطيا " ضد رئيس منتخب !
هذه ديمقراطية ترامب !

*****

ان الرأسمالية نظام اقتصادي نشأ وتطور في مرحلة الاستعمار والعبودية ، والاخيرة انتجت العنصرية ، حدث هذا قبل 500 سنة تقريبا ، مذ رست سفن كولومبوس في 12 اكتوبر 1492  أمام جزر الكاريبي ويعيش عالمنا نظاما هو في الجوهر نفسه . لم يتغير إلا في الشكل. بقي عل حاله . وصحيح انه تحول من مرحلة الاقطاع الى مرحلة التصنيع. صحيح ايضا ان البرجوازية  كانت " ثورية " وصاحبة مشاريع التجديد والتغيير تقود معركة التحولات ، لكن صحيح انها شخت وشاخت ، ولم تعد قادرة على الاستجابة لحقوق البشر ولا التحديات التي تواجه عالم اليوم : كورنا نموذجاً .

الرّاسمالية ليست قدرًا على الشعوب ولا هي نهاية للتاريخ كما توقع الطبرة فوكوياما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. أما البديل فهو المجتمع الذي يملك إرادته وثرواته وقرار مؤسساته الوطنيّة . والبديل يعني القوة الشعبية وحين تؤسس قوى الشعب وطليعته المناضلة نظام الكفاية والحرية والمساواة ، وهذه أهداف وقيم ومؤسسات يُشيدها الثوار والمناضلات والمناضلين من خلال أحزاب فاعلة تصبو الى تحقيق العدالة الاجتماعية والحرية ..

أعمدة النظام الاشتراكي الحديث في القرن الواحد والعشرين.. نعم ، الإشتراكية هي الحل .

ثمة أفكار لا تذهب إلا لتعود من جديد.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير