المشترك بين جورج فلويد ومصطفى يونس

29.05.2020 09:36 PM

 كتب عوض عبد الفتاح : صورة الرجل الأميركي الأسود، جورج فلويد، الذي شاهدناه، الإثنين الماضي، يختنق ثم يلفظ أنفاسه تحت ركبة شرطي أبيض تصرف ببلادة بهيمية تجاه استجداء الضحية تمكينه من التنفس، أعادت استحضار الصورة المرعبة لعملية إعدام مصطفى يونس، الشاب الفلسطيني ابن بلدة عرعرة، الذي أعدمه رجال أمن صهاينة أمام المستشفى الإسرائيلي ("تال هشومير" في تل أبيب) الذي كان مقصده للعلاج، قبل ثلاثة أسابيع.

تذكرنا الجريمتان بضرورة الربط بينهما، سواء على المستوى الإنساني أو على مستوى الجذور المشتركة لنشوء نظامي القتل الذي تصرف رجال الأمن هؤلاء باسمهما؛ وتُفسرا في الوقت ذاته، تجدد روح التضامن المتبادل بين نضال السود ونضال الفلسطينيين في العقد الأخير.

ليست جديدة ولا مفاجئة ممارسات الشرطة الأميركية أو الإسرائيلية تجاه المواطنين السود والفلسطينيين حملة المواطنة الإسرائيلية، فقد باتت هذه المظاهر الفظيعة تتكرر ونتابعها منذ تجدد موجات الاحتجاج والتمرد. هذه الممارسات ليست مقطوعة الصلة، بل هي جزء من العنف البنيوي للنظامين الأميركي والصهيوني، وتعود نشأتهما إلى عقيدة الغزو والاحتلال والاستيطان والفصل العنصري؛ إذ كلاهما ولد من خلال تجربة كولونيالية وحشية، إبادية وإحلالية.

إنما الجديد في الأمر هو عودة وعي ما تبقى من المجموعات الأصلانية والأميركيين الأفارقة، بتاريخ الظلم الذي مارسه ويمارسه البيض عليهم وضرورة إعادة تنظيم نضالاتهم، والأهم التشبيك مع نضالات الشعوب الأخرى، ومنها نضال الشعب الفلسطيني من أجل دحر نظام الأبرتهايد الكولونيالي الصهيوني. فمنظمة "حياة السود مهمة" الأميركية التي انطلقت بعد المواجهات في مدينة فرغسون عام 2014، تتواصل مع فلسطين التي زارها نشطاؤها عدة مرات منذ انطلاقها، كما يتفاعل النشطاء الفلسطينيون المقيمون في الولايات المتحدة مع حركات الاحتجاج التي يقودها الأصلانيون والسود.

وفي السياق نفسه، ربما من المفيد الإشارة إلى السياق التاريخي الذي نشأت فيه قضية التمييز ضد السود، والإبادة التي تعرض لها السكان الأصليون في الأميركيتين، الشمالية والجنوبية، وعلاقة كل ذلك بقضية غزو واستعمار فلسطين. فأذكر الموجة الأولى من أبناء جيلي الذين سافروا الى أميركا أواخر السبعينات، بهدف العمل أو التعليم، وكانوا يعود بعضهم بعد سنوات بأفكار مسبقة عنصرية عن السود، متقمصين بلا وعي الخطاب الرسمي والشعبي العنصري. وربما الأفكار اليسارية المبكرة التي نظرتُ من خلالها الى النظام الأميركي، باعتباره نظامًا رأسماليًا استغلاليًا، ومساندًا للظلم في فلسطين، كانت تدفعني إلى التصدي لهذه الأفكار ورفضها. كما يجهل كثرٌ من الفلسطينيين، وخصوصًا في أوساط الأجيال الشابة، جذور مشكلة السود في أميركا، وكذلك عملية الإبادة التي نفذها الأوربيون بحق سكان الأميركيتين، وهي عملية لم تتوقف حتى بعدما أقاموا الدولة الأميركية.

غير أنه مع مرور الزمن، ومع رحلة العمل السياسي المترافقة مع البحث الذاتي عن المعرفة، اكتشفنا أن كريستوفر كولومبوس وعلى خلاف ما جرى تلْقِيننا به من خلال مناهج التعليم الرسمية، ليس بطلا مكتشفًا لأميركا، بل كان قاتلاً مجرمًا جشعًا، وقاد حملة إبادة جهنمية وأطلق عملية استعمارية إبادية، مُمهّدًا لنظام رأسمالي استغلالي، شكلت لاحقًا عملية اختطاف عشرات الملايين من سكان أفريقيا، وتحويلهم إلى عبيد، ركيزة أساسية في خدمة هذه العملية الاستعمارية الاستيطانية في الأميركيتين، ومن ثم في بقية العالم.

"الرجل الذي سرق القارة"

قبل سنوات طويلة اقتنيت كتابًا باللغة الإنجليزية، صادر عام 1993، وعنوانه بخط عريض "كريستوفر كولومبوس والهولوكوست الأفريقي"، وعنوان آخر بخط أصغر: "العبودية والنهضة الرأسمالية الأوروبية"، ومؤلفه المؤرخ الأميركي جون هنريك كلارك (1915 – 1998).

يتصدى الكاتب للرواية الأوروبية الاستعمارية، خصوصًا تلك المتعلقة بأفريقيا، ويُفندها من خلال اعتماد المصادر والوثائق التاريخية دون أن يخفي تبنيه رسالة إصلاحية وأخلاقية، داعيًا الأفارقة إلى استعادة الثقة بالذات والمبادرة إلى إحياء ما يسميه الهولوكوست الأفريقي، إذ يراه أعظم جريمة في التاريخ الإنساني؛ ويكتب: " لماذا نُطلق عليها هولوكوست؟ لأنها كارثة بدأت قبل 500 عام، ولم تنته. لا نبدأ بالعد من 6 ملايين بل نبدأ بـ60 مليونًا، وفقط بدأنا للتو بالعد. لا أقصد إنكار الهولوكوست الألماني والهولوكوست الأوروبي، لكن كل ذلك كان من فعل الأوروبيين. لا يوجد مقارنة بين هذه المأساة وبين مأساتنا، التي كانت أعظم جريمة في تاريخ الإنسانية". ويتساءل مستهجنًا: "لماذا لا نتذكر موتانا حتى الآن! إن ذلك يوازي جريمة عدم دفنهم".

ويرى كلارك أنك لا تستطيع أن تفهم تاريخ العالم من دون فهم الدور المركزي للتاريخ الأفريقي، ويقدم تحليلاً شاملاً لحقبة تاريخية جرى تزييفها وحجبها بشكل ممنهج عن تدقيق علماء وباحثين أفارقة وآخرين ملتزمين. فهو يعالج قضية العبودية وتأثيرها على أفريقيا وعلى العالم قاطبة. ويتحدى الآراء التقليدية عن الحضارة الأفريقية، ويستعرض نقاط ضعفها ونقاط قوتها. ويكشف عن الحياة المتطورة في أفريقيا قبل غزوها، وأنها كانت أكثر تطورًا من أوروبا، مقارنةً بالعصور الوسطى المظلمة التي كانت غارقة فيها.

أما بشأن كريستوفر كولومبوس، فهو يستهجن الاحتفال به، ويقول إن الإمبرياليين والعنصريين فقط هم الذين يحتفون به.

وبحسبه، فإن فترة الخمسين عامًا الممتدة بين 1482 و1536 تتسم بالأهمية القصوى بالنسبة للتاريخ العالمي، إذ تمكنت أوروبا في هذه الفترة من بلورة قوى اقتصادية وثقافية وسياسية، ومن وضع الأسس لنظام عالمي يقوم على المادية والرأسمالية والإمبريالية، والذي اعتمد الإبادة والاستغلال الفاحش للسكان الأصليين واختطاف الأفارقة. كما تطور أوروبا واستعمارها العالم الجديد سار جنبًا إلى جنب مع إفقار أفريقيا وإبقائها متأخرة تنمويًا. وهكذا، يكتب كلارك، نشأت صلة وثيقة بين الرأسمالية والعبودية.

وفي كتاب آخر صدر عام 1963 بعنوان "الرجل الذي سرق القارة"، يكتب مؤلفه الباحث جون ويذرواكس (John Weatherwax): "كان هناك رجلٌ سرق القارة؛ جشعٌ، شديد القسوة ويمتلك القوة، أقدم على استعباد 20 مليونًا من أفريقيا وأرسلهم عبر المحيط، 10 ملايين إلى نصف الكرة الأرضية الشرقي، و10 ملايين آخرين إلى نصف الكرة الغربي". ويضيف: "وخلال عملية الاستعباد (أثناء عملية اختطافهم) مات 80 مليوناً، بعضهم خلال عملية الغزو، وبعضهم بسبب المرض أو الحزن والانتحار خلال نقلهم عبر البحار".

إن مساهمة هؤلاء من باحثين وغيرهم في استرداد الرواية عن موقع التاريخ الأفريقي في تشكل النظام العالمي الاستغلالي، ولفهم ونقد الواقع الراهن للنظام العالمي المستمر، ساهمت وتساهم في تحفيز المتضررين والمقهورين، للنضال والعمل لتغيير واقعهم. والأهم من ذلك، فإن امتلاك المعرفة والوعي بالمنشأ المشترك للاستغلال والعدوان، يخلق وعيًا بتقاطع النضالات لمختلف الشعوب الرازحة تحت أنظمة قهر واستغلال وعنصرية.

إن قضية فلسطين وقضايا الشعوب الأخرى التي تكابد من نتائج الاستعمار والاستغلال الاجتماعي والطبقي والعنصري اليومي والاستبداد المحلي، منشأها النظام الرأسمالي الاستعماري الذي اتسعت نزعته الإمبريالية العدوانية في القرن التاسع عشر. هو النظام نفسه الذي نواجهه اليوم، يتجدد ويزداد توحشًا كلما تفاقمت أزماته. وهذه المواجهة باتت تتطلب وبصورة ملحة حركة أممية عالمية، تحمل قيمًا تحررية إنسانية، وأولها الحرية والعدالة الاجتماعية، وتفكيك الاستعمار في فلسطين والوطن العربي وفي بقاع أخرى من العالم. وبديهي أن تكون حركة التحرر الفلسطينية الديمقراطية جزءًا فاعلا في هذه الحركة العالمية الثائرة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير