"كورونا": فرص العودة إلى الأرض وأسئلة الاكتفاء الذاتي

14.05.2020 07:13 PM

وطن- تقرير: عبد الباسط خلف

أعادت أزمة فايروس "كورونا" الزراعة والاكتفاء الذاتي إلى الواجهة، وشكلت العودة "الخجولة" إلى الأرض، وإنعاش الحدائق المنزلية بداية جديدة وجيدة للبناء عليها، ومنح القطاع المُهمل ما يستحقه من رعاية ودعم واهتمام.

تواكب (آفاق) بداية الرجوع إلى الأرض، وتحاور مسؤولين ومختصين عن فرص تحويل "كوفيد 19" إلى بداية اعتراف بأهمية الزراعة، وترميم العلاقة مع الأرض، التي أفسدها الغياب والهجرة وقلة الاهتمام والدعم. وتطرح أسئلة حول الاكتفاء الذاتي وفرصه، وأسباب غياب أو تغيب الزراعات المتصلة بالأمن الغذائي كالقمح.

تجربة ودرس
أعادت عائلة محمد أبو طالب، المقيمة في جنين، حساباتها مع الأرض، وصارت تمضي ساعات طويلة في رعاية حديقة المنزل. وقالت هدى، ربة الأسرة، إنهم قبل وباء "كورونا" لم يستفيدوا من الأرض المحيطة بالبيت ولو بشيقل، بل كانوا يستعينون بعامل لتعشيب الحديقة.

وبدت السعادة واضحة على وجوه أفراد العائلة، الذين شرعوا في زراعة أشتال خضروات في تجربة جديدة. ووصف الإبن الأكبر مجد، الوقت الذي يمضونه في الأرض بـ" الرائع والمفيد".
ليس ببعيد كثيرًا عن منزل الأسرة، يتواجد مقر مديرية الاقتصاد الوطني، والتي أكد مدير دائرة حماية المستهلك فيها د. خليل العارضة بأن "الدرس الأهم من الأزمة الراهنة الاعتماد على الذات والاستقلالية، وهو ما لن يتحقق في ظل التبعية للاحتلال."
وأشار إلى أن غرس مليون ونصف شتلة خضروات في الحدائق المنزلية سيوفر على الأقل نحو مليون ونصف كيلو غرام من المنتجات، التي ستؤثر في الأمن الغذائي للأسر من الخضروات الطازجة.
وأفاد بأن احتياطي محافظة جنين من القمح متوفر في مطحنة واحدة، بنحو 1400 طن، وبوسعه سداد احتياجات المحافظة 45 يومًا دون إدخال أي شحنة جديدة. وبالنسبة للضفة الغربية، فلو توقفت حركة الاستيراد، فإن المتوفر من سلع غذائية سيكفي لستة أشهر.

قمح وأشتال
لكن المفارقة التي يؤكدها العارضة أن "قمح جنين لا يصلح للعجين مقارنة بالقمح الأمريكي المستورد"، ولو توفرت كميات من القمح المحلي، فلن يستطيع صاحبها تسويقها للمخابز، بل يذهب كأعلاف للأغنام.
أشار نضال ربيع، ممثل فلسطين وعضو اللجنة التنفيذية في حركة طريق الفلاحين العالمية (لا فياكمبسينا)، إلى أن فترة الحجر المنزلي الحالية، شهدت عودة كبيرة إلى الأرض ليس في القرى والمناطق الزراعية فحسب، بل في المدن، التي بدأ مواطنوها بزراعة حدائق بناياتها كنوع من التسلية، وتعبئة الفراغ.

وبيّن أن المشاتل هذا العام فارغة من معظم أشتال الخضراوات، وقبل فترة وجيزة وزعت 7 آلاف شتلة في بلدة ترمسعيا في أقل من ساعة، أما في السابق فكان المواطنون يحصلون على الأشتال "كنوع من الكماليات".
وأكد أن من غرس حديقته، أو عاد إلى أرضه في أزمة "كورونا" سيشعر بالفرق، وسيحصل على خضراوات نظيفة من الكيماويات، وهذا ما "سينعش الأرض والإنتاج البيتي، وسيساهم في تحقيق الأمن الغذائي المنزلي".
وتحدث ربيع، الذي يزرع 65 دونمًا في بلدته، عن العودة إلى تخزين القمح والطحين، وصنع الخبز البيتي في بعض المواقع؛ لتفادي الاحتكاك بالآخرين في الأزمة الحالية.

وأفاد بأنه زرع هذا العام 30 دونمًا بالقمح، ونجح في الوصول إلى مصدر للقمح البلدي في طمون وزرع 8 دونمات منه. وأوضح بأن "طريق الفلاحين" تشجع المزارعين على تبني  المحاصيل التقليدية، التي كان يزرعها أجدادنا كالعدس، والحمص، والسمسم، والكرسنة، والقمح، والفول، والفقوس، والكوسا، والبامية، والحلبة.
واستدرك: " لم يشعر أجدادنا بنقص أمنهم الغذائي، ولم يستوردوا  معظم غذائهم، وكانت قراراتهم من رؤوسهم."
وذكر ربيع أن وزارة الزراعة والمؤسسات الزراعية  كـ "لجان العمل الزراعي" و"الإغاثة الزراعية" وغيرها بدأت تنشط في تنسيق جهودها، وصارت تشجع العودة إلى الحديقة المنزلية.

بداية أم طفرة؟
وأكد مدير عام الإرشاد في وزارة الزراعة، صلاح البابا، أن الزراعة "ملجأ وملاذ لشعبنا في الأزمات المتعاقبة"، فرافقت جائحة كورونا عودة المزاعين إلى أرضهم، فيما أطلقت الوزارة وائتلاف المؤسسات الزراعية والمشاتل الخاصة مبادرة زراعة الحدائق المنزلية، التي تستهدف الحيازات الصغيرة بمساحة 100 متر، وشملت 10 آلاف مزارع في أيامها الأولى، وتضاعف إلى 12 ألف مستفيد، وحتى نهاية نيسان سيصل إلى 15 ألف مستفيد، بنحو مليون ونصف شتلة خضار لكل ما يحتاجه المطبخ الفلسطيني، كالبندورة، والخيار، والفلفل، والباذنجان، والبصل، والبقدونس، وبذور الفقوس، والكوسا البلدي، والجرجير.
وما يميز الحدائق المنزلية، وفق البابا، أن أفراد الأسرة كلهم يتشاركون في العمل، وهو ما يشكل نواة للعودة إلى الأرض، ويقدم درسًا في الإنتاج البيتي، ويمثل استغلال الأزمة وتحويلها إلى فرصة تساهم في الاكتفاء الذاتي، حتى لو لم تدر دخلًا، كما أن الأشتال بمعظمهما بَعلية، ولن تتطلب ماءً.

وذكر أن هناك عودة نشطة في ظل "كورونا" إلى الأرض، من خلال التعشيب، ورعاية الأشجار، وبناء الجدران، وتحول الحجر البيتي في الكثير من المواقع إلى حجر زراعي بعيد عن الاختلاط.

وتمنى البابا أن لا تكون عودة المزارعين إلى أرضهم وحدائقهم المنزلية في زمن "كورونا" طفرة سرعان ما تتلاشى بانتهاء الوباء، فقد عاش الفلسطينيون ظروفًا مشابهة في انتفاضة الحجارة، وتمكنوا خلالها من سد احتياجاتهم.
وفرضت مبادرة الحدائق المنزلية، والكلام لمدير عام الإرشاد، على الوزارة "توسيع قاعدة بيانات المستفيدين من برامج الإرشاد"، وبدأت "الزراعة" بوضع خطط للتواصل مع أصحاب الحدائق برسائل نصية عبر الهاتف تذكرهم بالري والمتابعة.
وقال البابا إن الوزارة توزع سنوياً 15-20 طناً من بذار القمح بنوعية جيدة وبقدرة على مقاومة الجفاف، وتعمل منذ ثلاث سنوات على إعادة الفلاحين إلى زراعة القمح، لكن المساحات ما زالت متواضعة جدًا، والإنتاجية متدنية، وغالبية المحصول يذهب لإنتاج الفريكة.
وذكر أن الحدائق المنزلية ستنتج هذا العام ما لايقل عن 10 آلاف  طن خضروات، وستكون دافعًا للأسر للمضي في رعايتها، بعد أن ساهمت في سد الكثير من الاحتياجات الطازجة، التي لم يجرِ فيها سوى استخدام القليل جدًا من الكيماويات، مراهناً على استمرار المبادرة.

عودة إجبارية
وقال عضو الأمانة العامة لاتحاد الفلاحين والتعاونيين الفلسطينيين، والأمين العام المساعد لاتحاد الفلاحين العرب، جمال خورشيد إن وباء "كورونا" فرض العودة الإجبارية إلى الأرض، فغالبية الناس محاصرة في بيوتها، ولا شيء أمامها سوى الحديقة المنزلية، والعمل في الحقول، خاصة في الأرياف وبعض المدن.
وأوضح أن المركز الفلسطيني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ساهم في مبادرة الحديقة المنزلية بدعم ألف حديقة في خمسة مواقع، بهدف الحصول على إنتاج بيتي آمن من الكيماويات.
وأشار إلى أن أصحاب المشاتل أكدوا أنه لم يسبق لهم مشاهدة طلب بهذا الحجم على الأشتال منذ عام 1967، ما دفع بعضها لإقفال أبوابها في وجه الزبائن، فصارت ترسل الأشتال إلى البيوت.
وتوقع خورشيد أن تتعمق العودة إلى الأرض العام القادم، وأن تتضاعف الحدائق المنزلية، وخاصةً بعد أن شاهد أصحابها منتجاتهم لأول مرة، ومارسوا تجربة الغذاء البيتي النظيف من الكيماويات.

وبيّن خورشيد أن القطاع الزراعي "هش للغاية"، إذ يعاني من اختناقات تسويقية في حال وجود فائض، وبخاصة لدى إغلاق الاحتلال للحواجز ومنع حركة السلع الزراعية، أو صعوبة توفير السلع في بعض الفترات، ما يتطلب استخلاص العبر، وتطبيق زراعات متنوعة، ومحاصيل إستراتيجية إجمالية تسيطر عليها الدولة كالخيار والبندورة والبصل والبطاطا، بحيث تكون متوفرة على مدار العام بما يضمن الأمن الغذائي.
وقال إن الزراعة بشقها الحيواني تواجه أزمة خلال "كورونا"، فهناك انعدام لتسويق الحليب، ما يستدعي اهتمامًا بالصناعات التحويلية، ومنح الحكومة لتسهيلات وإعفاءات للمزارعين، وفتح قنوات تسويقية خارجية، وتهيئة البنية التحتية للتصدير.

"الأزمة والفرصة"
ووصف منسق جمعية الإغاثة الطبية في جنين، محمد جرادات ما جرى بعد أزمة كورونا بـ"عودة خجولة إلى الأرض"، ورأى بأنه يجب أن ترافقها "حالة ثقافية"، وأن لا تكون قسرية، وسرعان ما تعود إلى سابق عهدها بزوال الجائحة الراهنة.
وأشار إلى أن الأزمة الراهنة يمكن أن تكون فرصة حقيقية، إذا ما جرى استثمارها بشكل جيد. وتوقع عودة كبيرة للأرض، إذا ما طالت فترة الطوارئ. "إننا مقبلون على مرحلة صعبة، ولسنا بمعزل عن دول المحيط، وسنعيش حالة انكشاف للقطاع الزراعي والقطاعات الأخرى".

وأوضح أن "الإغاثة الزراعية" جمعت في فترة قياسية 200 ألف شتلة خضار، وتستعد لتوزيعها على الحدائق المنزلية، ويتسابق المواطنون للحصول عليها لشعورهم بأن الأزمة قد تطول.
واستنادًا إلى جرادات، فإن الفايروس "كشف ضعف أمننا الغذائي"، فالمخزون من القمح المحلي يكاد يكون صفرًا، وجرى الاستغناء عن زراعة القمح لصالح زراعة الخضراوات المروية الأكثر جدوى، وباتت مساحات القمح محدودة جداً، وفي مناطق صغيرة، وهذا يستدعي التخطيط للتوازن في الأمن الغذائي على المستوى الحكومي، وإعادة النظر في سياسة السوق المفتوح، وحماية المنتج المحلي.

أزمة حليب
وبيّن أن قطاع الثروة الحيوانية  تعرض إلى "انكشاف" بعد كوفيد 19، وبات الأمر يشكل تهديدًا حقيقًيا لمربي الأبقار على وجه الخصوص.

ووفق جرادات، فإن حجم الثروة الحيوانية من الأبقار في جنين 2000 رأس، تنتج نحو 40 طن حليب يوميًا، تستوعب منها المصانع المحلية 10 أطنان يوميًا، والباقي "في مهب الريح"، فيما يتطلب كل رأس يوميًا 40 شيقلاً للأعلاف، ولا يحصل المزارعون عمليًا على سيولة مالية من المصانع المحلية، بل يجري تسجيلها كديون غير مُسددة، ويُجبر المزارعون على دفع أثمان الأعلاف والكهرباء والماء والعلاج وأجور العمال نقدًا.
وكما قال، فقد دفع هذا الحال مربي الابقار لتصنيع الأجبان للهروب من الأزمة، وانتظار الأسواق الخارجية، أو عودة الحياة إلى سابق عهدها، ولكن هناك قدرة تخزين محدودة للأجبان لا تتعدى ثلاثة أسابيع، وتتطلب تدخل وزارة الزراعة لإنقاذ الموقف.

تحولات واستهلاك
ورأى الناشط في مبادرة "شراكة"، فريد طعم الله، بأن المجتمع الفلسطيني حافظ على خصوصيته الزراعية حتى أوائل التسعينيات، بعدها جرى التحوّل أكثر نحو الوظائف والخدمات، والهجرة إلى المدينة كمركز جذب، وتُركت الأرض، وتحول العمل إلى الداخل المحتل؛ والسبب أن العمل في الأرض لم يعد مجديًا، كما جرى الترويج لذلك.
ورأى إن التحوّل الخطير في المجتمع صار نحو الاستهلاك أكثر من الإنتاج، والاعتماد على العمل في الداخل، الذي جعلنا نرتبط بالاحتلال في معظم غذائنا.

وقال إن الواقع الجديد، "جعل أمننا الغذائي في مهب الريح"، وانخفضت مساهمة الزراعة في الناتج القومي، وبتنا نعتمد على الاحتلال في الحصول على فرص عمل.
وأوضح أن التحولات الجديدة أدت إلى انقراض الكثير من البذور البلدية، ولم نعد نمتلك أنواعًا عديدة من القمح المحلي، وتوقفت عادة إنتاج البذور وتبادلها بين المزارعين أو تخزينها، وقابل ذلك ترويجٌ للأصناف المُهجنة، التي تحتاج لكميات كبيرة من المياه والمبيدات الكيماوية.

ووفق طعم الله، فإن الأزمة الراهنة بدأت بإعادة الكثيرين إلى أرضهم لزراعتها واستصلاحها، دون تخطيط، مع ترك الغالبية للعمل في الداخل المحتل، والعودة إلى الأرياف، كما تزامنت مع موسم الزراعة الصيفية، وهو ما يشبه الظواهر التي عاشها الفلسطينيون في انتفاضتي 1987 و2000.
وتوقع أن يكون الإنتاج في الموسم القادم وافرًا بعد تقليل بعض كبار المزارعين لحجم عملهم؛ نتيجة توسع رقعة الزراعة في العديد من المواقع وحدائق البيوت.

وقال: "صدمة كورونا أعادتنا إلى أصلنا المرتبط بالأرض، وهو ما ينبغي أن تلتقطه السلطة لإعادة ترتيب القطاع الزراعي من كل جوانبه، والإعلان عن هدف رفع مساهمة الزراعة في الناتج القومي إلى 10%".
وأضاف طعم الله، أن الوعي بأهمية الأرض والعودة إليها تراكمية، وتشبه مقاطعة بضائع الاحتلال خلال الأزمات، وحتى حين تنتهي الأزمة لن يشهد الفلسطينيون هجرة جماعية للأرض بل سيبقى هناك عدد لا بأس به يعمل فيها.
وبيّن أن المطلوب التوعية بأهمية الأرض، ودعم المزارعين بسياسات فعلية أبرزها حل العقبات التسويقية، وفتح أسواق للفلاحين لبيع منتجاتهم مباشرة للمستهلكين، وإعطاء قروض بلا فوائد، ودعم مشاريع التأهيل، وحماية المزارعين من تقلبات السوق والطقس.


تواكب (آفاق) بداية العودة "الخجولة" إلى الأرض، وإنعاش الحدائق المنزلية، في ظل جائحة كورونا، وهي بداية جديدة وجيدة للبناء عليها، ومنح هذا القطاع المُهمل ما يستحقه من رعاية ودعم واهتمام.  وتحاور المجلة مسؤولين ومختصين عن فرص تحويل "كوفيد 19" إلى بداية اعتراف بأهمية الزراعة، وترميم العلاقة مع الأرض التي أفسدها الغياب والهجرة. وتطرح أسئلة حول الاكتفاء الذاتي وفرصه، وأسباب غياب أو تغيب الزراعات المتصلة بالسيادة على الغذاء، كالحبوب والقمح.
أصحاب المشاتل أكدوا أنه لم يسبق لهم مشاهدة طلب بهذا الحجم على الأشتال منذ عام 1967، ما دفع بعضها لإقفال أبوابها في وجه الزبائن، وصارت ترسل الأشتال إلى البيوت.
السؤال المطروح:  هل عودة العديد من الناس إلى أرضهم وحدائقهم المنزلية في زمن "كورونا" طفرة سرعان ما تتلاشى بانتهاء الجائحة، كما حدث إثر انتهاء انتفاضة الحجارة في أوائل التسعينيات، أم هي بداية نهج حياتي إنتاجي جديد ومستدام؟

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير