ويـسـألـونـنـي مـن قـتـل أبـي؟ - لترايسي شمعون
26.03.2013 03:11 PM
... ويـسـألـونـنـي مـن قـتـل أبـي؟
ترايسي شمعون
كانت عملية التخلّص من ملابس والدي وأغراضه الشخصية من أكثر اللحظات إيلاماً بالنسبة إليّ، فكل غرض كان يحمل معه ذكراه وبصمات وجوده وأدلة على حياته الخاصة. قُتل وهو في السادسة والخمسين من العمر، في أوج عطائه؛ كان قوياً، وشغوفاً ينبض بحياة عاش كل دقيقة منها حتى الثمالة. شكّل موته مأساة لا مثيل لها، وضاعف مقتل إنغريد والأولاد من فظاعة العمل وعبثيته.
خلال عملية تنظيم ثيابه، كنت أرتّب أحد أدراجه عندما وقعت على رسالة مخبّأة في زاوية تحت جواربه أطلعه أحد الأشخاص من خلالها على نقاش دار في مكان ما في «عمشيت» بين جعجع وأنصاره حول مصير داني. يفيد مضمون الرسالة أنهم كانوا يخططون لقتله.
شكّل العثور على هذه الرسالة صدمة بالنسبة لي، لأنّني أدركت أنه كان يعلم أن جعجع يريد قتله (...) خلال اللحظات العديدة التي أتأسف فيها على خياراته في ملازمة البيت في ذاك اليوم المشؤوم، أذكر أنه قضى وهو يسجّل موقفاً... كان موقفه الأخير. أما أكثر ما هو معيب في تلك الجريمة فهو التصفية الوحشية التي ارتُكبت بحق زوجته وولديه، أخويّ، الذين قُتلوا معه، وهو ما يجعل من هذه الجريمة الكريهة جريمة مدبّرة مع سبق الإصرار والتصميم، وليست عملاً من أعمال الحرب.
تشكّل الرسالة التي وجدتها في الدرج اليوم إحدى وثائق المحاكمة، وهي تتضمّن تحذيراً لوالدي بأنهم سيأتون متنكّرين ببزّات الجيش اللبناني. وفي هذا السياق، شهد أحد حراسه الشخصيين أنه قبل أيام قليلة من وقوع الجريمة وبينما كان يقف معه على الشرفة، تأسّف والدي على ما آلت إليه الأمور، وفي لحظة تأمّل، قال له، «سيأتون لقتلي وهم يرتدون بزات الجيش اللبناني». وهو بالضبط ما حصل.
المعلومات التالية مستقاة من ملف الدعوى المؤرخة في 24 حزيران/ يونيو 1994، وهو محضر المحاكمة العلنية الوجاهية. وتستمد هذه المعلومات أهميتها من كونها تنطوي على نكران لما حصل في ما يخص مقتل والدي، إذ لا يزال حتى اليوم عدد كبير من الناس يسألونني إن كنت أعرف مَن قتل والدي؟ وهو سؤال يُدهشني لأنّ جميع المعلومات متوفّرة، لكنّها مُوّهت بالجهود الدعائية التي بذلها جعجع لطمس حيثيات الجريمة. الأسوأ هو أنه، مع مرور الوقت، شُطبت الدوافع والحقيقة الكامنة خلف جريمة اغتيال داني شمعون، أُزيلت على أيدي مؤرخين حرّفوا الوقائع في مجتمع يبدو أنه يمجّد القتلة ويرقى بهم الى مرتبة القادة.
عدد قليل من الأشخاص قرأوا محاضر جلسات المحاكمة مع أنّ التفاصيل بحذافيرها كانت تُنشر أسبوعياً في جميع الصحف. في المحضر الرسمي للدعوى، ورد وصف تفصيلي للعملية، وهو جزء لا يتجزّأ من حقيقة ما حصل في ذاك اليوم المُظلم، وكما قيل: «نكران الوقائع لا يغيّرها».
المفارقة الكبرى هي أنه في بلد يعيش على نظريات المؤامرة، بدت الحقيقة، ما إن كُشفَ النقاب عنها، للجميع ومن ضمنهم عمّي دوري، مُقلقة لدرجة العجز عن تصديقها. فقد أعمى الكره لسوريا عيون البعض، على الرغم من أن سجل جعجع كان حافلاً بالعنف إلى حينه.
كنت أواجه ذلك النكران للوقائع يومياً لدى كثيرين، ما عدا من تكلّفوا عناء متابعة التحقيق أو أولئك الذين عانوا من سمير جعجع. فسجلّ الأعمال الوحشية التي كانت القوات اللبنانية قد ارتكبتها تحت قيادته، حتى ذلك الحين، كان شبه أسطوريّ، تتخلّله الاغتيالات وتدمير القرى الواقعة في جبال الشوف والتهجير القسري للسكان، وتجارة الأسلحة، وموضوع طمر النفايات السامة في الجبال مقابل ملايين من الدولارات بين العامين 1986 و1987.
قاتل عائلتي
في ما يتعلق بقاتل عائلتي، أرى أنّه مهما كانت الأسباب التي دفعته لاقتراف هذه الجريمة، فهو كان مضلّلاً الى حد كبير. من الناحية الروحانية الصرفة، تنبع الحاجة إلى انتزاع حياة أحد، وتبرير ذلك الفعل للذات، من انحراف عميق في الذات التي تحرّكها الأنا، وهو انحراف يؤدّي بالشخص الى تنصيب نفسه فوق الاعتبارات الأخلاقية العادية، بينما تتغذّى إرادة القتل لديه من الغطرسة وجنون العظمة.
في ذلك الوقت، كانت تسيّرنا جميعاً في لبنان عقلية قاسية لا ترحم. كنا مجبرين على العيش في بيئة وحشية تسودها روح الانتقام التي شوّهت العديد من الخيارات والأعمال. بالتالي، لم يكن جعجع أفضل أو أسوأ من عدد كبير منا، عدا أنه منح نفسه امتيازاً وحقاً بالتصرف والتعبير عن أدنى غرائزه على حساب غيره.
ولكن، مع الوقت، دفعني سمير جعجع، من خلال أعماله، على بشاعتها، إلى النضوج وتخطي فهمي الضيّق لتأثيرات الكراهية والغضب التي تسبّب الشلل والوهن. وبالنتيجة، لم أعد أشعر بالغضب أو الكراهية تجاهه.
أدركت أن النتائج المترتبة على أعمال جعجع تشمل نطاقاً أوسع بكثير من نطاق عائلتي، وأن ديونه المعنوية والمادية تمتدّ لتضمّ الأمة ككل وعدداً كبيراً من الناس الذين أثّر على حياتهم سلبياً وبشكل مأساوي. كذلك، يرضيني أن يكون جعجع قد حوكم على أفعاله بما فيه خير البشرية. أما ما عدا ذلك، فليبق بينه وبين ضميره ومفهومه عن الله. من جهتي، أدركت أن استمرار البغض في قلبي لن يسهم إلا في أذيتي، وأنا لست مسؤولة عن العِبَر التي يجب أن يستقيها بنفسه بل ما يعنيني هو العبر التي تخصّني فقط. أما كيف يختار أن يعيش حياته في المستقبل، فذلك شأنه الذي فيه هلاكه أو خلاصه.
على المستوى المجتمعي، كان ثمن إنكار الحقيقة لوقائع هذه الجريمة وغيرها هو غياب المساءلة والوعي الذاتي الذي يحفّز النمو الداخلي والتحوّل.
المسألة لا تتعلق بالمغفرة، ولكنها مسألة النظام المدني مقابل الفوضى. في معظم الأحيان، يكون العفو السياسي والعفو العام مجرد مناورات تهدف إلى كسب الشعبية، أو تجميل الحقيقة، أو أحياناً تحقيق أهداف معيّنة.
ولكن عندما يتعلق الأمر ببناء دولة قوية تحترم نفسها ومواطنيها، تصبح الشفافية والمساءلة من المعايير الأساسية الضرورية لتثبيت الثقة بشرعية الدولة وممثليها، وبمعزل عن الالتزام الدقيق بهذين العنصرين، من الصعب أن تكون هناك ثقة بالقيادة، فالعدالة هي شرط أساسي للمغفرة على الصعيد الاجتماعي، ومن المستحيل تجاوز الكراهية ووضع معايير جديدة للتعايش في المستقبل إلا على أساس العدالة.
لنكن واضحين تماماً، ليس للمصالحة الشخصية التي عقدتها بيني وبين الصدمة التي أوقعها جعجع على حياتي أيّ تأثير على مدى قبولي بخياراته وطموحاته السياسية. فهي لا تعني بأيّ شكل من الأشكال أنني أتبنّى معتقداته السياسية، فأنا أعتبرها طائفية وانقسامية وتشجّع على التفرقة، لا بل يمكنني القول إنها تنبع من الإقصاء والخوف. ويبدو أن الحافز الذي يحرّك جعجع يستلهم من رؤية يهودية مسيحية حيث الغاية تبرّر الوسيلة، وبالتالي فإن عقيدته تُرسي دعائم الحرب لا السلام.
جعجع يدافع عن التطرف الإسلامي
في الماضي، وجدت هذه النظرة الضيقة للأمة على أساس التفرقة العرقية صداها في البراغماتية الانعزالية الخاصة بالإسرائيليين، أما اليوم، فمن المفارقة أن تستلهم من صعود الأصولية السنية في لبنان؛ ما يجعلنا نفهم السبب وراء أن يكون سمير جعجع من أشدّ المدافعين عن حركة 14 آذار نفسها التي تسهم في تغذية التطرّف الإسلامي في لبنان، ذلك أن التطرّف يعاكس التطرّف الموازي له حجماً والمضاد له اتجاهاً، وبالتالي، يبرّر وجوده.
فالتطرّف الذي يتخّذ الشكل السلفي أو غيره يصبح «سبب وجود» جعجع. هذه الأصولية تمثّل نافذة لترويج ماركته (أو صنفه أو نوعه) الخاصة من التطرّف، ومن شأنها أن تشكّل أساس تكتيكاته السياسية الطائفية، وأن تسمح له بالاحتفاظ بالسيطرة الأيديولوجية على جزء من المجتمع المسيحي من خلال ترويج الخوف.
أما الجيل الجديد الذي يوجّه نحوه جهوده الترويجية، فهو لم يعرف أبداً مأساة الحرب وبالتالي هو غير قادر على فهم كلفة هذا التطرّف الديني، فهذا التطرّف نفسه هو الذي سمح لإحدى الحروب الأهلية الأكثر وحشية في التاريخ أن تدوم طيلة 16 عاماً، أُزهق خلالها عدد كبير من الأرواح وأُخضعت أمة قُتل قادتها ونُفوا وسُجنوا.
وها أنا أتساءل: ألم نستخلص العبر بعد؟ التطرّف، والتطهير العرقي، والانعزالية ليست ولا يمكن أبداً أن تكون هي الحل في لبنان. لا بل على العكس، علينا أن ندرك أنّ ثمة ترابطاً فعليّاً بيننا وأن جميع مصائرنا مترابطة. لا مكان للاختباء، ولا حتى في كانتونات طائفية غير واقعية.
يصدر قريباً عن دار نشر «هاشيت» ـ انطوان
([) ابنة داني كميل شمعون
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء