أسماء سلامة تكتب لوطن: اتقنوا الضرب في العمق

14.02.2020 09:36 AM

طالما بقينا على هذه الحال ، لن تتحرر فلسطين ، ولن تكون القدس عاصمتها الأبدية ، وطالما بقينا ننطلق في تعاملنا مع العدو من منطلق المصالح السياسية والاقتصادية ، والحديث عن فلسطين والقدس بلغة الكيلومترات والحدود ، ومن يأخذ أي نسبة ، لن تتحرر فلسطين ، إن القوة في الموقف تعود لمدى قوة الأساس الذي يتم التعامل مع العدو بناء عليه ، وأقوى الأسس التي تغيب عن الرؤية الحالية هي العقائدية ، فنحن لا ننظر للقضية الفلسطينية من منظور عقائدي ، أو لم نعد ننظر لها كذلك ، بات الحديث عن قضيتنا مجرد مساومة كالتي تتم في الحسبة أو أي بسطة ، كم ثمن كذا بالله ... لا ما بنفع راعينا شوي ، إنت بس اشتري وبعطيك كذا على البيعة هدية  ... أمر مبكٍ للعين ومدمٍ للقلب.

إن مكانة فلسطين الدينية باتت مركونة على الرف ، وكل الحديث يدور عن تقسيم المساحات ، ومدى الصلاحيات الممنوحة ، ومبالغ المال المقدمة ، وهذا أبعدها بل أقصاها كلية عن قيمتها الدينية التي من الواجب في الأساس الانطلاق منها في الحديث عن استرجاع هذه الأرض وفرض السيادة عليها ، وهو الأمر الذي أضعف موقفنا كفلسطينيين وكعرب وكمسلمين.

فترة الذروة في الانتصارات والازدهار في تاريخنا كمسلمين كانت عندما سارت الجيوش بكلمة الله أكبر ، ولا إله إلا الله ، وصلت من إسبانيا إلى الصين ، ودامت لقرون ، ومنذ الوقت التي ضعف فيه حملة هذه الراية بدأ السقوط ، ثم استمر إلى الآن بشكل مضطرد .. تم التخلي عن المرجعية الإسلامية في التعاطي مع كافة القضايا ، وباتت السياسة والاقتصاد وموازين القوى هي التي تحركنا حكومات وشعوب على حد سواء ، أصبح هناك قمم ومؤتمرات تزيد من تشرذم الأمة ، وتزيد من التباعد بين أقطارها ، مؤتمر إسلامي ، جامعة عربية ، أفريقيا ، ومجلس التعاون الخليجي ، باتت مصالح مشتركة تربط بين كل مجموعة ( إن تم مراعاة هذه المصالح على أرض الواقع ) ، أصبحت الاجتماعات التي تعقد بحكم العادة ، روتينية ، والبيانات الصادرة أيضاً روتينية ، نفس النهج والأسلوب والصياغة ، وإن كان هناك بعض المفاجآت بين الحين والآخر ، كأن يخرج مرزوق الغانم بخطاب ينتهي بإلقاء نسخة من مشروع صفقة القرن في القمامة ، خطاب يثير العزة والنخوة في النفوس ، ويواجه الجميع بالحقائق التي يغمضون العيون عنها ، نهلل له ونصفق بحرارة ونثني على جرأته ، التي كان من المفترض أن تكون النهج العام لموقف العرب وليست مستغربة ، بل وتواجه من بعض الدول بالاستياء.

أدرك عدونا جيداً مصدر قوتنا منذ مدة طويلة ، وهو على يقين أن هذا المصدر هو الطريقة التي يمكن بها أن نسترد حقوقنا المسلوبة ، فعمد إلى إبعادنا عنه بكل الطرق والوسائل على مدى أعوام بل عقود ،، وانسقنا وراءه طائعين خانعين ، منذ بدأت شعارات القومية العربية تطغى على الخطاب ، أمة عربية واحدة ذات سيادة خالدة ، بدأ البعد عن العقيدة ، وتم الجنوح عن الطريق الصحيح إلى طرق فرعية كثيرة ، وفي النهاية ... لا أمة عربية واحدة ولا رسالة خالدة ، خسرنا حرب عام 1967 وذقنا مر الهزيمة ، لم نعد للطريق السليم مرة أخرى ، بل توغلنا في الابتعاد عنه أكثر ، بدأ الانشقاق يتعزز أكثر ، بتوجه الشقيقة الكبرى لعقد اتفاق سلام فاجأ الجميع ، منذ تلك اللحظة لم تعد مصر الأخت الكبرى للعرب ، وتلتها العراق التي تمادت باحتلال الكويت ، فتم تدمير البوابة الحامية من الشرق ، انتهزت الولايات المتحدة الفرصة ووضعت قدمها في المنطقة كلها ، وزاد التشرذم والانقسام ، نحن من أدخلنا الدب إلى كرمنا ، فلماذا ننعته الآن بالمتغطرس والمتفرد، وزاد إبعادُنا عن الدين وسلخه من المجتمعات الإسلامية بكل الطرق ، و كان لابد من تغيير الصورة المشرقة للإسلام في العالم أيضاً ،فبدأت لعبة تنظيم القاعدة ووقوفه مع طالبان ضد القوات الروسية ، وانتهت بتفجيرات الحادي عشر من سبتمبر لتبدأ مرحلة تشويه الدين ووصمه بالإرهاب والتعطش للدماء ، حرب عالمية على كل ما يمت للإسلام بصلة ، وبعد أن خفت وهج تنظيم القاعدة ، تم تجديده بداعش ، التي أكملت تشويه الصورة ، أشخاص يهتفون الله أكبر ويرتكبون أبشع الجرائم التي يتبرأ منها كل من يعرف الإسلام الحق ، وزادت الصورة سوءاً وتشويهاً ، ثم تم فتح جبهة جديدة في سوريا ، التي باتت ساحة لتصفية الحسابات ، واستعراض للقوى ، وإثبات القوة ، جيش حكومي ، ودول أجنبية ، ميليشيات وتنظيمات ، الكل يردد الله أكبر ، ولكن أي منهم على حق لا أحد يستطيع أن يجزم ، ينطبق عليها المثل (طاسة وضايعة) . ولا ننسى اليمن التي تحترق ، وحديثاً ليبيا انضمت إلى القائمة.

وما حالنا وسط كل هذه الفوضى في المنطقة ؟؟ أصبحنا محاصرين من كل الجهات ، دول عربية تنزف ، وعالم تغيرت موازين القوى فيه ، قرارات دولية عفا عليها الزمن ، ولم يتم التعاطي معها ، مجتمع فقد الثقة في كل شيء ، تم إطفاء شعلة انتصاره في الانتفاضة الأولى ،،  بات همه لقمة العيش ، قسم منه يسعى  للحصول على تصاريح العمل في الداخل المحتل ، والقسم الآخر يسعى لتأمين التزاماته للبنوك وتأمين الحد الأدنى من متطلبات الحياة ، والقلة التي ملأت حساباتها في البنوك وزادت ثرواتها ، ليس لنا سيطرة على حدود ، ولا أمن ، ولا كهرباء ومياه ، ولا اقتصاد، سئمنا الشعارات والوعود التي لم توفّى منذ عقود ، لا لاجئون عادوا ، ولا قدس عاصمة  ، ولا أسرى تحرروا ، لا حاضر بمستطاع العيش ولا مستقبل يبشر بأمل.

الصورة في العالم عن الإسلام تشوهت .. تمت الخطة بنجاح ، ولكن ذلك لا يكفي ، لابد من السيطرة على الشعوب والمجتمعات من الداخل ، لذلك كان لزاماً على الخطط في الاستمرار ، إبعاد الناس عن الدين قدر الإمكان ، وحصر الدين في الأعياد والمناسبات الدينية ، طقوس يقوم بها الناس، بل تم تفريغ بعضها من محتواه الحقيقي والحكمة منه ، فبات كالظواهر الاجتماعية التي تثقل كاهل المواطنين . لا يخفى على أحد أن أساس هذه المجتمعات هو الأسرة ، كان لا بد من الدخول إلى الأسر وتقويض دعائمها بطريقة تبدو جميلة وربما مطلوبة ، تم التلاعب بألفاظ الخطاب الموجه للأسر ، الحرية والديمقراطية ، الانفتاح على الغرب والتحضر ، التقدم ومواكبة روح العصر ،  لكي لا يقال عنك متخلف وبدوي وقبلي ورجعي ، لابد من التنازل عن المبادئ والقيم التي كانت العامل المساعد الأول في وحدة المجتمعات وقوتها ، للأسف صدقنا الكذبة ، وتبنيناها وروجنا لها ، وكانت النتيجة أجيال مفرغة من قيمها وانتمائها لدينها ، أجيال انهزامية ، تريد الكسب الحالي والمباشر ولا تنظر للبعيد ، تلهث وراء إضفاء صبغة الانفتاح الفكري والتحضر ، خالعة عباءتها الإسلامية التي حملتها كل أسباب التأخر والتخلف والإرهاب والتطرف ، لم تعد تفرق في الأجواء في بعض المدن العربية عنها في مدن الغرب ، قد يكون سماعك لصوت الأذان هو فقط ما يذكرك أنك في مدينة عربية ،  فرقونا أولاً ثم جعلونا نواجه بعضنا البعض ، ثم ضربونا في العمق.

ما يبعث بعضاً من الأمل أن مسألة الدين مسألة حساسة والأكثر تأثيراً في النفوس ، والحمد لله أن تأثيرها مازال قائماً فينا حتى الآن ، أكبر استجابة للتجمعات مؤخراً كانت الدعوة لصلاة الفجر ، والرفض الكبير الذي قوبلت به اتفاقية سيداو هو أيضاً دليل على أن الدين مازال متأصلاً في مكان ما ، ولكنه بحاجة للخروج ، وبحاجة لأن يترجم على أرض الواقع  في القضايا الأخرى . على هذه البقية الباقية من جذور أن تنمو وتكبر ، وأن تعود لتشمل المجتمعات بأسرها.

هم عرفوا أن قوتنا في ديننا ، وأنه الوحيد القادر على تجميعنا وتوحيدنا تحت راية واحدة ، إذا ما خلص الشعور به وأصبح الغاية والوسيلة ، فحاربونا فيه ، ولا أمل لنا في تحرير هذه الأرض ، التي وعدنا الله بتحريرها ، إلا بالعودة في هذا الصراع إلى العقيدة .  ولا يمكن لأحد أن يطعن في توجه الدين إلى السلام والمحبة ، كيف يكون ذلك والله هو السلام ، ولكن الاتجاه للسلام يجب أن يكون من موضع قوة ، لا ضعف يجبرك على التنازل . ولا يكفي أن تكون على حق ، بل لابد لك من القوة التي تسترد بها حقك المسلوب ، وأن تمكنك من الحفاظ عليه والدفاع عنه.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير