"الآخر في النص التوراتي" بقلم أنور بدر
15.11.2012 12:53 PM
إذاً يجوز حسب التلمود قتل الأغيار حتى ولو كانوا من أفضل الناس خلقاً. إلا أن هذه الرغبة بالقتل تكاد تملأ التوراة منذ الخروج من مصر وحتى نهايتها، بل تبدأ دورة العنف قبل دخول مصر كما سنرى لكنها تتعزز أكثر مع موسى الذي أعطى لإله بني إسرائيل إله الحرب والجنود ملامحه كمقاتل فسماه بعض الدارسين اسم "يهوه الموسوي"،(5) ونقرأ عنه "فأزعجهم الرب أمام إسرائيل وضربهم ضربة عظيمة في جبعون وطردهم في طريق عقبة بيت حورون وضربهم إلى عريقة وإلى مقيدة. وبينما هم هاربون من أمام إسرائيل وهم في منحدر بيت حورون رماهم الرب بحجارة عظيمة من السماء إلى عريقة فماتوا. والذين ماتوا بحجارة البرد هم أكثر من الذين قتلهم بنو إسرائيل بالسيف" سفر يشوع (10/9-10-11). ويتابع في نفس السفر "ولم يكن مثل ذلك اليوم قبله ولا بعده سمع فيه الرب صوت إنسان. لأن الرب حارب عن إسرائيل" يسوع (10/14).
أما في سفر أشعيا فنقرأ صورة الرب إله الحرب وإله الجنود وإله الانتقام "هو ذا اسم الرب يأتي من بعيد غضبه مشتعل والحريق عظيم، شفتاه ممتلئتان سخطاً ولسانه كنار آكلة. ونفحته كنهر غامر يبلغ الرقبة، لغربلة الأمم بغربال السوء وعلى فكوك الشعوب رسن مضل" أشعيا (30/27-28).
يتابع أشعيا تصوير سخط الرب على كل الأمم "اقتربوا أيها الأمم لتسمعوا، وأيها الشعوب أصغوا، لتسمع الأرض وملؤها، المسكونة وكل نتائجها. لأن للرب سخطاً على كل الأمم وحمواً على كل جيشهم، قد حرمهم دفعهم إلى الذبح. فقتلاهم تطرح وجيفهم تصعد نتانتها وتسيل الجبال بدمائهم" أشعيا (34/1،2،3).
وسخط الرب يصل إلى بني إسرائيل، وعدوانيته تطالهم في أكثر من محطة من محطات التيه، لأنهم شعب "غليظ الرقبة" وما كان لموسى أن يقود جيشاً من البدو الغلاظ لولى أن استعان عليهم برب من هذا الطراز، فهو يعاقبهم في سيناء على صنع العجل الذهبي "فقال لهم، هكذا قال الرب إله إسرائيل ضعوا كل واحد سيفه على فخذه ومروا وارجعوا من باب إلى باب في المحلة، واقتلوا كل واحد أخاه وكل واحد صاحبه وكل واحد قريبه" سفر الخروج (32/27). ويعلق أحد الكتاب أنه "قتل في ذلك اليوم ثلاثة آلاف رجل اختيروا عشوائياً لامتصاص غضب النبي الذي شعر بالمهانة، لأن الشعب تنكر له بهذه السرعة"(6).
وقد حاول بعض المفسرين الغربيين رد ظاهرة العنف التوراتي إلى الظروف التي أحاطت بالعبرانيين منذ خروجهم من مصر إلى سبي بابل وتجربة الدياسابورا، بحيث كانوا منبوذين من كل الأقوام التي عاشوا بين ظهرانيها، وكانوا عرضة لعداء الآخرين وأذيتهم، إلا أن مجزرة شكيم (نابلس) من أرض كنعان والتي سبقت تجربة مصر والتيه توضح تأصل طبيعة العنف والغدر في سلوك اليهود خصوصاً وأن منفذيها يعقوب وإبناه شمعون ولاوي، الأول حفيد إبراهيم وكان نبياً ومفضلاً عند إله بني إسرائيل، وأما شمعون ولاوي فهما من الأسباط الإثنى عشر.
1 ـ "وخرجت دينة إبنة ليئة التي ولدتها ليعقوب لتنظر بنات الأرض. فرآها شكيم ابن حمور الحوي رئيس الأرض وأضجع معها وأذلها" سفر التكوين (34/1-2).
2 ـ فكلم شكيم حمور أباه قائلاً خذلي هذه الصبية زوجة" سفر التكوين (34/4).
3 ـ "فتكلم حمور معهم قائلاً شكيم ابني قد تعلقت نفسه بابنتكم، أعطوه إياها زوجة. وصاهرونا، تعطوننا بناتكم وتأخذون لكم بناتنا، وتسكنون معنا وتكون الأرض قدامكم، اسكنوا واتجروا فيها وتملكوا بها" التكوين (34/8-9-10). وأضاف "كثروا عليَّ جداً مهراً وأعطية، فأعطي كما تقولون لي. وأعطوني الفتاة زوجة" التكوين (34/12).
4 ـ "فأجاب بنو يعقوب شكيم وحمور أباه بمكر وتكلموا... إن صرتم مثلنا بختكم كل ذكر نعطيكم بناتنا ونأخذ لنا بناتكم ونسكن معكم ونصير شعباً واحداً".
التكوين (34/13.. 15-16)
5 ـ وبعد أن اختتن جميع الذكور "فحدث في اليوم الثالث إذ كانوا متوجعين أن ابني يعقوب شمعون ولاوي أخوي دينه أخذ كل واحد سيفه وأتيا على المدينة بأمن وقتلا كل ذكر"التكوين (34/25).
وأضاف "ثم أتى بنو يعقوب على القتلى ونهبوا المدينة، لأنهم نجسوا أختهم، غنمهم وبقرهم وحميرهم، وكل ما في المدينة وما في الحقل أخذوه. وسبوا ونهبوا كل ثروتهم وكل أطفالهم ونسائهم وكل ما في البيوت" تكوين (34/27-28-29).
القصة بسيطة ولا تحتاج إلى شرح، ولكن السؤال أين العدالة في قتل شعب كامل مقابل جماع امرأة؟ أم أنها كانت الحجة التي بررت لبني يعقوب جريمتهم ولنلاحظ أيضاً اعتراف النص بالخديعة "فأجاب بنو يعقوب شكيم وحمور أباه بمكر وتكلموا" تكوين (34/13). فالرب لا يمانع بخديعة باقي الشعوب "الغوييم" والغدر بها، أيضاً نقرأ تعاليم موسى "وفعل بنو إسرائيل بحسب قول موسى، طلبوا من المصريين آنية فضة وأمتعة ذهب وثياباً. وأعطى الرب نعمة للشعب في عيون المصريين حتى أعاروهم فسلبوا المصريين". سفير الخروج (12/25-26). فنلاحظ أن الرب يشارك في خداع المصريين.
وبالعودة إلى مجزرة شكيم نجد أن القصة تتكرر، بعد الخروج من مصر ويتكرر المكر والخيانة في مجزرة مديان التي استقبل ملكها موسى وشعبه أثناء الهروب من مصر، بل وزوج موسى من ابنة كاهنه. ومع ذلك أثناء إقامة بني إسرائيل في "شطيم" حدثت قصة معاكسة لقصة أولاد يعقوب لكنها أدت إلى نفس النتائج بل وأدهى كما سترى. حيث تعلق إسرائيل ببغي من أهل مديان، فقام كاهن يهودي بقتلهما معاً. ومع ذلك يقرر موسى الانتقام من أهل مديان، وكان الانتقام رهيباً بحسب أوامر يهوه التي نقلها موسى "وكلم الرب موسى قائلاً: انتقم نقمة لبني إسرائيل من المديانيين ثم تضم إلى قومك" سفر العدد (31/1-2). "فتجندوا على مديان كما أمر الرب وقتلوا كل ذكر" العدد (31/7).
وأضاف "وسبى بنو إسرائيل نساء مديان وأطفالهم ونهبوا جميع بهائمهم وجميع مواشيهم وكل أملاكهم. وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار" العدد (31/9/10).
أي أن بني إسرائيل لم يكتفوا بقتل ملوك مديان وكل الذكور فيها، بل سبوا النساء والأطفال ونهبوا البهائم والمواشي والأملاك، وأحرقوا كل ما تبقى كالبيوت والزروع مما لا يستطيعون قتله أو سبيه أو نهبه. وكان يمكن للقصة أن تنتهي هنا، إلا أن موسى كان أشد عنفاً من يعقوب وأولاده، فاستنكر ما فعل قواده "وقال لهم موسى هل أبقيتم كل أنثى حية" العدد (31/15). وأمرهم بقتل كل النساء وكل الذكور من الأطفال أيضاً، "فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال" وكل امرأة عرفت رجلاً بمضاجعة ذكر اقتلوها" العدد (31/17).
هذا العنف الذي يتوالى في قصص التوراة، يتأسس كما رأينا على نظرة دونية إلى الأغيار "الأمم" بحيث لم تنج مدينة أو شعباً من حقد يهوه ولعنات أنبيائه. يقول رب الجنود بهذا الصدد "يوم الرب قريب قادم كخراب من القادر على كل شيء" أشعيا (13/6). "أعاقب المسكونة على شرها والمنافقين على إثمهم وأبطل تعاظم المستكبرين وأضع تجبر العتاة" أشعيا (13/10). "كل من وجد يطعن بالسيف، وتحطم أطفالهم أمام عيونهم وتنهب بيوتهم وتفضح نساؤهم" أشعيا (13/15-16) ويتابع رب الجنود في حقده على بابل "فأقوم عليهم يقول رب الجنود وأقطع من بابل اسماً وبقية ونسلاً وذرية يقول الرب" أشعيا (14/22).
يتابع هذا النبي جولة حقده على الممالك والمدن "وحيّ من جهة دمشق. هو ذا دمشق تزال من بين المدن وتكون رجمة ردم" أشعيا (17/1). وينطلق من صور الى كتعان "مد يده على البحر أرعد ممالك. أمر الرب عن جهة كنعان أن تخرب حصونها" أشعيا (23/11).
وليس أشعيا وحده من صب جام حقه ولعناته على الممالك والأمم الأخرى، فهذا أرميا يقول "بسبب اليوم الآتي لهلاك كل الفلسطينيين لينقرض من صور وصيدا كل بقية تعين لأن الرب يهلك الفلسطينيين بقية جزيرة كفتور" ارميا (47/4). وعن مؤآب يقول "على كل سطوح موآب وفي شوارعها كلها نوح لأني قد حطمت موآب كإناء لا مسرة به يقول الرب" ارميا (48/28). وعن عمان يقول "لذلك ها أيام تأتي يقول الرب واسمع في ربة بني عمون جلبة حرب وتصير تلاً خرباً وتحرق بناتها بالنار فيرث إسرائيل الذين ورثوه يقول الرب" ارميا (49/2).
"عن دمشق. خزيت حماه وأرفاد قد ذابوا لأنهم قد سمعوا خبراً رديئاً، في البحر لا يستطيع الهدوء. ارتخت دمشق والتعنت للهرب..."ارميا (49/23-24).
أما لعنة حزفيال فتبدأ على سكان أورشليم "القدس" لنجاساتهم "وقال لأولئك في سمعي اعبروا في المدينة وراءه واضربوا. لا تشفق أعينكم ولا تعفوا. الشيخ والشاب والعذراء والطفل والنساء اقتلوا للهلاك" حزفيال (9/5-6). كما يقول "لذلك هكذا قال السيد الرب وأمد يدي على أدوم وأقطع منها الإنسان والحيوان وأصيرها خراباً من التيمن وإلى "وإن يسقطون بالسيف" حزفيال (25/13). ويضيف "فلذلك هكذا قال السيد الرب. ها أنذا أمد يدي على الفلسطينيين وأستأصل الكريتيين وأهلك بقية ساحل البحر" حزفيال (25/16).
ونستطيع أن نتابع مع أنبياء بني إسرائيل لعناتهم التي شملت كل الشعوب التي عاشوا في ظلها. حتى أن هيمان ينقل عن الحاخام يعقوب شلامي أحد زعماء الجالية اليهودية في فرنسا أن سبب استمرار اليهود كل هذا الزمن:
1 ـ هو أن نخضع لإرادة الله.
2 ـ أن نواجه باقي الأمم. (7)
لاحظ أن مواجهة الأمم الأخرى تأتي في المرتبة الثانية بعد الخضوع لله، لكن نستطيع أن ندرك بقليل من اللاهوت وأكثر من السياسة أن تلك المواجهة كانت العامل الرئيس الذي ساهم في ربط الجماعة اليهودية إلى بعضها، وشكل أحد أهم عوامل استمراريتها. وفي الشريعة اليهودية إضافة لكل ما ذكرنا ما يكفي من الوصايا لإبقاء تلك المواجهة حية ومنظمة "قطع الأشجار، حرق المزروعات، قتل الأطفال والنساء والبهائم". ويميز دارسو التوراة نوعين من الانتقام أو العنف ضد الأغيار:
النوع الأول: وهو الأكثر شيوعاً في التوراة وبين القبائل البدوية والمدن المتحاربة في تلك الفترة ويقوم على قتل المحاربين الأعداء في حال الانتصار عليهم، وسبي كل ما عدا ذلك من النساء والأطفال واعتبارهم عبيداً للسخرة أو البيع. إضافة لنهب الأموال الخاصة والعامة (البهائم والغلال والمقتنيات) وفي حالة كون المدينة المنهوبة بعيدة عن مركز استقرار المهاجمين ولا توجد نية للاستقرار فيها فيجري إحراقها بالنار بعد السبي والنهب الذي أشرنا إليه. "وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك" سفر التثنية (20/14).
النوع الثاني: وهو استثناء لا يكاد يظهر إلا في حالات الحقد القصوى أو الرغبة في الانتقام، وهو شائع في التوراة تحت اسم "التحريم" كما حصل في مديان، أو عند احتلال أريحا "وحرموا كل ما في المدينة من رجل أو امرأة من طفل وشيخ وحتى البقر والغنم والحمير بحد السيف". سفر يشوع (6/21).
ويلاحظ في حالة التحريم، أنه يستتبع مجزرة القتل تلك إحراق المدينة بكل ما فيها من قتلى وأشياء لا يستثنى إلا بعض المقتنيات الثمينة كحصة لخزنة الرب. نقرأ "وأحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها. إنما الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد جعلوها في خزانة بيت الرب" يشوع (6/24).
هذا التحريم هو جزاء المدن التي يعطيك إياها الرب والمقصود مدن (فلسطين) "وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيباً فلا تستبق منها نسمة ما، بل تحرمها تحريماً الحثيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين كما أمرك الرب إلهك" سفر التثنية (20/16-17).
وفي قصة أخرى عند فتح مدينة عماليق قال رب الجنود "فالآن اذهب واضرب عماليق وحرموا كل ماله ولا تعف عنهم بل اقتل رجلاً وامرأة طفلاً ورضيعاً، بقراً وغنماً. جملاً وحماراً" سفر صموئيل الأول (15/3/4). لاحظ قتل الرضع!؟ إلا أن الغزاة بقيادة شاول نهبوا بعض الغنيمة للذبح من أجل الرب، فاستاء صموئيل وعاتب شاول "فقال صموئيل هل مسرة الرب بالمحرقات والذبائح كما باستماع صوت الرب هوذا الاستماع أفضل من الذبيحة والإصغاء أفضل من شحم الكباش" صموئيل أول (15/22). والمقصود الإصغاء إلى تحريم الرب لمدينة عماليق. وهو استكمال لموقف موسى في انتقامه من المديانيين، حين رفض سبي النساء والأطفال الذكور ودعا إلى قتلهم بحد السيف.
ويؤكد الرب على تحريم الأرض التي وعد بها إسرائيل "ودفعهم الرب إلهك أمامك وضربتهم فإنك تحرمهم. لا تقطع لهم عهداً ولا تشفق عليهم ولا تصاهرهم" سفر التثنية (7/2-3).
نلاحظ أولاً أن الأسفار تحض باستمرار على طرد الآخر أو قتله، لكن الملاحظة الثانية والأهم في بحثنا هذا أنه في حال استمرار بقاء هذا الآخر فلا تجوز مصاهرته أو مساكنته أو إقامة اتفاق أو عهد معه. جاء في سفر الخروج "احترز أن تقطع عهداً من سكان الأرض التي أنت آت إليها. لئلا يصيروا فخاً في وسطك" خروج (34/12) ولننتبه أنها وصايا موسى، ويتابع موسى شرح وصيته معللاً الأسباب "احترز من أن تقطع عهداً من سكان الأرض. فيزنون وراء آلهتهم ويذبحون لآلهتهم فتدعى وتأكل من ذبيحتهم. وتأخذ من بناتهم لبنيك فتزني بناتهم وراء آلهتهن ويجعلن بنيك يزنون وراء آلهتهن" خروج (34/15-16). فكيف يكون الصلح إذا كان أحد الأطراف يحرم قطع العهد؟
يجيب موسى على هذا السؤال حين يعرض على لسان الرب في سفر التثنية لمفهوم الصلح فيقول "حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك. وإن لم تسالمك بل عملت معك حرباً فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جداً التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا. وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيباً فلا تستبق منها نسمة ما. بل تحرمها تحريماً الحثيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين كما أمرك الرب إلهك. لكي لا يعلموكم أن تعملوا حسب جميع أرجاسهم التي عملوا لآلهتهم فتخطئوا إلى الرب إلهكم" سفر التثنية (20/10... 18).
نعتذر عن طول الشاهد. لكنه كان ضرورياً لإكمال الصورة. فالصلح مع اليهود يعني الاسترقاء لهم والاستعباد، بينما الحرب تعني الإبادة للذكور والسبي أو التحريم بحسب الجغرافيا التي قرأها الرب، الهنا والهناك، وتحريم شعوب وأمم كثيرة بأطفالها ونسائها وبهائمها فقط من أجل تحصين بني إسرائيل من تعلم الرجس!!؟
الفصل الثالث
انغلاق الدين
ربما تكون محاولة الإنسان لاكتشاف قوانين الطبيعة وعلاقات الأشياء، أهم دوافعه للتفكير بالميتافيزيقا أو ما وراء الطبيعة، ومحاولته وضع منظومة قيم تضبط علاقته بالآخر وبالطبيعة معاً في إطار الميثيولوجيا. ولكن بحكم شروط الاجتماع القلبي وعناصر الجغرافيا وبدائية اللغة ووسائل الاتصال فإن تلك الميثيولوجيا أو الأساطير جرى التعامل معها في نسخ محلية ـ إن صح التعبير ـ فكان لكل قبيلة أو مجموعة عشائر أو سكان منطقة ما ديانتهم الخاصة ضمن إطار شائع من تعدد الآلهة وتقاطعها معاً. بل يحفل التاريخ القديم في منطقة ما بين النهرين والجزيرة بالعديد من الحروب بين الشعوب المتجاورة من أجل الهيمنة الاقتصادية والسياسية والتي تجد تعبيراتها الفوقية في فرض الطقوس والميثولوجيا المنتصرة على الشعوب المغلوبة. لكن يبقى طبيعياً أن نجد شعوباً وقبائل تختص بآلهة معينة ولو كان بالتسمية فقط. إذ غالباً ما جرى ترجمة صلاحيات الآلهة من شعب إلى آخر. وحتى الشعوب التي عرفت الله بالمعنى الدارج في الديانات التوحيدية لم تستطع أن تلغي وجود آلهة أدنى منه يختصون بقدرات جزئية. أو بقايا طقوس مسحوبة من أجواء تعدد الآلهة ويكاد يتفق أغلب الدارسين أن أخناتون مصر كان أول الموحدين، بل إن بعضهم يغمز إلى العلاقة بين توحيد إخناتون وتوحيد موسى الخارج من مصر.(8)
إلا أن منطق التفكير الديني الذي انتقل من تعدد الآلهة مع الميثيولوجيا إلى التوحيد كان يفترض انتقالاً موازي من آلهة القبيلة أو العائلة إلى إله كوني واحد. فوحدانية القدرة الإلهية تفترض شمول وكونية هذه القدرة وعدم تجزئها. إلا أن ذلك استغرق مراحل تدرجية في تطور الفكر الديني. كانت عتبتها الأولى مع موسى الذي قدم إلهاً مختصاً ببني إسرائيل، أو هو اختصهم كشعب مختار له وأورثه أرض فلسطين أو بلاد كنعان من دون الأمم قاطبة "وظهر الرب لإبراهيم وقال لنسلك أعطي هذه الأرض" تكوين (12/7). ثم أقام عهداً معه أن ينفذ الشريعة التي أنزل الله على موسى "فاسمع لصوت الرب إلهك واحمل بوصاياه وفرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم" تثنية (27/10).
وإله بني إسرائيل غيور، لا يقبل منهم أن يعبدوا إلهاً غيره. ويسمي ذلك زني "فإنك لا تسجد لإله آخر. لأن الرب اسمه غيور. إله غيور هو، احترز من أن تقطع عهداً مع سكان الأرض. فيزنون وراء آلهتهم ويذبحون لآلهتهم فتدعى وتأكل من ذبيحتهم وتأخذ من بناتهم لبنيك. فتزني بناتهم وراء آلهتهن ويجعلن بنيك يزنون وراء آلهتهن" خروج (34/14-15-16).
ولا يقبل أن تعبده الشعوب الأخرى وهنا المفارقة التي لا يمكن فهمها في إطار التوحيد، ولابد من العودة إلى شخصية موسى وظروف تشكل العبرانيين وديانتهم أيضاً، لفهم الغيتو الذي استمر من رحلة إبراهيم ويعقوب إلى تجربة مصر، ومن الخروج من مصر والتيه 40 سنة في الصحراء إلى السبي البابلي وعودة عزرا لبناء الهيكل لنفهم ظاهرة انغلاق الدين اليهودي على باقي الأمم "الغوييم" أو الأغيار الذين يتصفون بكل ما هو سيئ ودوني كما رأينا في نظرة الأسفار إليهم، وما دام لا يقبل من بني إسرائيل أن يتزاوجوا من باقي الأمم أو أن يساكنوها أو أن يتعاهدوا معها. فيكون طبيعياً أن لا يقبل يهوه دخول هؤلاء الأغيار في حظيرته. وبالتالي العلاقة الممكنة معهم هي علاقة العداء والحرب لإخضاعهم واستعبادهم لصالح اليهود في حال قبول هؤلاء الأغيار وتلك الشعوب بالصلح ـ بما هو علاقة خضوع لبني إسرائيل ـ وإلا فالإبادة والتحريم مصيرهم. كما رأينا في سفر التثنية ـ الفصل 20 ـ هذه الظاهرة تمثل الحلقة الأولى في تطور الفكر الديني ما بين الميثيولوجيا والتوحيد، لأن موسى الذي أقر بالتوحيد كان أعجز من الوصول بهذا المبدأ لغايته. فلم يستطع تصور إله كوني تتسع عظمته ورحمته خارج حدود بني إسرائيل. لذلك نراهم رغم التوحيد، خلقوا معادلة ما بين الله والعهد. وأنزلوه في التابوت وسار معهم في التيه "وكان جميع الشعب يرون الرعود والبروق وصوت البوق والجبل يدخن"سفر الخروج (20/18). ويضيف في توصيف حضور الإله. "وكان عمود السحاب إذا دخل الخيمة ينزل ويقف عند باب الخيمة ويتكلم الرب مع موسى. فيرى جميع الشعب عمود السحاب واقفاً عند باب الخيمة ويقوم كل الشعب ويسجدون كل واحد في باب خيمته" خروج (33/9-10)، ويختتم موسى سفر الخروج "لأن سحابة الرب كانت على المسكن نهاراً. وكانت فيها نار ليلاً أمام عيون كل بيت إسرائيل في جميع رحلاتهم" خروج (40/38).
إضافة لوجوده معهم في السحابة والتابوت، كان يهوه أيضاً يقاتل معهم في كل حروبهم "بينما هم هاربون من أمام إسرائيل وهم في منحدر بيت حورون رماهم الرب بحجارة عظيمة.." يشوع (10/11). وأيضاً يقول موسى "ولكن إن ابتدع الرب بدعة وفتحت الأرض فاها وابتلعتهم وكل ما لهم فهبطوا أحياء إلى الهاوية تعلمون أن هؤلاء القوم قد ازدروا بالرب" عدد (16/30) وأيضاً "الرب إلهك هو عابر قدامك. هو يبيد هؤلاء الأمم عن قدامك فترثهم.." تثنية (31/3).
هذا التجسيد للإله ولو في عمود النار أو سحابة الدخان يتناقض مع التوحيد والتنزيه. وينسجم مع كونه إله بني إسرائيل فالتابوت يستطيعون حمله لكنه تابوتهم ولا يحق حتى لغير اللاويين من اليهود حمل التابوت. فكيف بغير اليهود.
هذا الانغلاق في الدين ترك بصماته على المرحلة الأولى من المسيحية باعتبار المسيح ابن داوود كما أجرى بعض المفسرين، فعندما خرج يسوع إلى نواحي صور وصيدا وطلبت منه امرأة كنعانية أن يشفي ابنتها، أجاب "لم أرسل إلا إلى الخراف الضالة من آل إسرائيل" إنجيل متّى ـ الفصل (15/24)، وقد أصبحت المسألة خلافية في عهد الرسل، فبولس ومعه برنايا كانا أول من توجه إلى الوثنيين في إنطاكية "ولما جاء السبت كادت المدينة كلها تجتمع لتسمع كلمة الله، فلما رأى اليهود هذا الجمع أخذهم الحسد، فجعلوا يعارضون كلام بولس بالتجديف، فقال بولس وبرنايا بجرأة: إليكم أولاً كان يجب أن تبلغ كلمة الله، أما وأنتم ترفضونها ولا ترون أنفسكم أهلاً للحياة الأبدية، فإننا نتوجه الآن إلى الوثنيين. فقد أوصانا الرب قال: جعلتك نوراً للأمم لتحمل الخلاص إلى أقصى الأرض، فلما سمع الوثنيون ذلك فرحوا ومجدوا كلمة الرب. وآمن جميع الذين كتبت لهم الحياة الأبدية" أعمال الرسل الفصل 13/44... 48، وساد هذا الاتجاه بعد صراعات حول الختان والوصايا ودور الشريعة الموسوية. وبالتالي، انفتحت كل من المسيحية والإسلام على كافة الشعوب الأمم باعتبارها دين توحيدي لإله متعال في السماء، بينما بقيت اليهودية دين مغلق على الإسرائيليين لإله سكن بينهم في التابوت ثم في الهيكل الذي بناه سليمان، ولا أحد يدري مصيره بعد تدمير الهيكل أكثر من مرة.
رغم أن هذه المقولة تحتل موقعها في اللاهوت اليهودي إلا أنها في التاريخ تفتقد للمصداقية، أو كما قال روجيه غارودي فإن القانون التأسيسي لدولة إسرائيل (باعتبار أنه لا يوجد دستور في إسرائيل حتى الآن) يتناقض في تأكيده يهودية أي شخص من خلال أمه، مع تاريخ أنبياء وملوك إسرائيل. فمن داود الذي جدته روث موآبية، إلى ابنه سليمان لأن أمة حثية، إلى شاؤول الذي أمه كنعانية، بل إذا رجعنا إلى الوراء قليلاً فمن يعقوب الذي بنى بهاجر المصرية إلى موسى الذي تزوج ابنة كاهن مديان والسلسلة طويلة لمن أراد الإحصاء. فكيف نفسر هذا التناقض؟
ليس ذلك فقط بل إن كثيراً من أنبياء إسرائيل وملوكها قد أكثروا من الزيجات والمحيطات غير اليهوديات ولم يمانعوا في إقامة طقوس العبادة الخاصة بنسائهم ولم يكن سليمان وحيداً في هذا المجال. فكيف نفسر هذا التناقض؟
البعض يعتبر أن شريعة موسى المتزمنة جرى تجاوزها منذ عرف الإسرائيليون الاستقرار والملك القوى وخصوصاً في عهد داوود، يكتب روجيه غارودي بهذا الصدد "قام أحد زعماء العصابات من قبيلة يهوذا على رأس مجموعة من المرتزقة الفلستينيين والكرواتيين بإنشاء مملكة له في القدس مستغلاً بمهارة لعبة توازن القوى بين القوتين الكبيرتين آنذاك ـ البابليين والمصريين ـ وسيطر على سكانها الأصليين من اليبوسيين بحماية حرسه الخاص من الفلستينيين والكرواتيين" ويضيف غارودي:
"ولم يسع داود هذا إلى تهويد كنعان بل على العكس من ذلك أقام دولة متعددة القوميات تضم شعوباً مختلفة الديانات والجذور".(9)
ومن يتابع مسيرة الملوك سيكتشف أن أغلبه "عمل الزنى في عيني الرب" حتى السبي البابلي ومجيء عزرا الذي عاد ليبني الهيكل فاكتشف أنه قد "اختلط الزرع المقدس بشعوب الأرض" عزرا (9/2). حتى أمر أن يخرجوا من بيوتهم "النساء الغريبات من شعوب الأرض، والذين ولدوا منهن" عزرا (10/3). ويعتبر المؤرخون أنه أتيح لعزرا "كاتب الشريعة اليهودية" أن يعيد وضع أسس العنصرية والتمييز في الدين اليهودي والتي عرفت باسم "قوانين عزرا"(10) التي ساهمت بتشكيل العقيدة الدينية العنصرية في الوجدان العميق للمقدس اليهودي خصوصاً وأنه جرى سحب حوادث التاريخ بما يتناسب ومخيلة ومصالح الكتبة الذين أعادوا صياغة الأسفار لأنه وفقاً للنص التوراتي جرى احتلال أرض كنعان من قبل يوشع في القرن 13 ق.م بينما السبي وإعادة كتابة الشريعة تمت في القرن السادس ق.م.
الحقيقة الثانية التي تصدم دارسي التاريخ اليهودي، أن الوقائع لم تكن تنسجم مع نصوص المقدس وشريعة موسى فأسير تصبح مقدسة مع أنها دخلت قصر ملك بابل أحشو يروش خدعة من عمها، وأصبحت ملكة، وقدمت خيراً لشعبها، فلم يقل عنها زانية. والسؤال الأخير، كيف يمكننا تفسير وجود شعوب يهودية خارج بني إسرائيل؟ فأغلب الدارسين يعتقدون أن يهود أوروبا يرجعون إلى يهود الخزر، وهؤلاء قصتهم معروفة. لكن لم يقدم حتى الآن تفسير لاعتناق الفلاشا الدين اليهودي. خصوصاً بعد دحض نظرية إرجاعهم إلى يهود اليمين والدولة الحميرية.
أخيراً نترك العديد من علامات الاستفهام معلقة. لنتوقف مع إشكالية من نوع آخر تترتب على ظاهرة الدين المغلق. وهي إشكالية العلاقة بين الدين والشعب وبالتالي بين الدين والدولة عندما يتم الانتقال من منظور اللاهوت إلى معطيات السياسة. فاليهودية دين خالص لبني إسرائيل (أي لسلالة يعقوب) شيء، واليهودية دين دولة إسرائيل شيء آخر، خصوصاً عندما تكون الدولة (تيوقراطية) أي دولة دينية، تماهي بين قانونها الأساسي وبين حدود الشريعة لدرجة أنها بعد 53 عاماً على "إعلان التأسيس" ما زالت أعجز من النهوض بمهمة وضع دستور مدني ينهي التنازع القديم بين العلمانيين والمتدينين على تعريف هوية الدولة وعلى مبدأ المساواة وحدود الديمقراطية. وهذا ينقلنا إلى المشروع السياسي الإسرائيلي وإشكالياته المفتوحة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء