سميح القاسم.. مشروع ابداعي شرب من روح الوطن.. وسقى الوطن من روحه بقلم: د.حسن عبد الله
07.11.2012 09:30 AM
ككاتب شاب كان يشق دربه الأدبي في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، كان ديوانا "الأرض" لمحمود درويش و "الحماسة" لسميح القاسم، لا يفارقان حقيبتي الجامعية، وكان الرجوع اليهما قراءة وتذوقاً وتعلماً يشكل مهمة ثابتة في برنامجي، أنا الطالب الجامعي حينذاك، الذي كان يتوق للتعلم والاقتداء بالقامات الابداعية الطويلة الباسقة.
درويش والقاسم بمشروعيهما الابداعيين، ارهفا الحس الفني وارتقيا بالذائقة الادبية لعدد كبير من الأدباء والمثقفين والأكاديميين والمتذوقين. وكان من الطبيعي ان أنهل من مدرستيهما لغة وصوراً وموسيقى وفكراً ومعرفة، وأن أتعلم كيف يمكن للنص الأدبي أن يكثف حلم شعب بأسره.
وسبق وأن وثقت في كتابي "رام الله تصطاد الغيم"، علاقتي بديوان الأرض للراحل الكبير محمود درويش، وكيف تأثرت بهذا الديوان في بداياتي الأدبية. لكن ديوان "الحماسة" بشعره الحر والعمودي، قد شكل بالنسبة اليّ مدرسة حقيقية في التعامل مع اللغة، بل وتعلم فن النحت اللغوي بما يخدم الصورة في اطار البناء الكلي للنص.
وفي تلك الفترة، أدركت ان نصوص القاسم ليست وسيلة لكتابة الشعر فحسب، وإنما لتنسم أنفاس الحياة، وتنشق عبير الوطن المضمخ بالميرميا والمعجون بماء النرجس. وعندما تتبعت المسيرة الثقافية والابداعية والنضالية لهذا الشاعر الكبير أدركت ايضاً، ان الوطن أوسع وأهم بكثير من كل القصائد، وان الشعر ينبعث من روح المبدع، كما المبدع يولد ويستمد روحه من روح الوطن. رغم ان القاسم قال في آخر مقابلاته أن "قصيدتي أهم من الوطن"، الا انني اكتشفت في مشروعه الشعري غير ذلك، لاسيما وأن قصائد القاسم زرعت اشجارا وارفة مثمرة في حديقة الوطن، فصار الوطن أبهى وأجمل بالشعر، وصار الشعر خيولاً عربية اصيلة تحمحم وتصهل وتسرح في رحاب الوطن، وكأنها لا تعترف بحواجز الاحتلال وتقسيماته.
تعلمت من القاسم ان للجمال لونا مختلفاً ومذاقاً خاصاً، وتعلمت اكثر أن العروبة قيمة عظيمة، لها جذور عميقة، ولها حاضر ومستقبل. العروبة في قاموس القاسم الشعري ليس حبس انفسنا واغلاق الأبواب على افكارنا، والتمترس في خندق البداوة، وانما الانطلاق في دروب العالم الحديث والتحليق في فضاءاته، لكن ونحن نستند الى قرون وقرون من الثقافة والمعرفة والعلم والانجاز، على اعتبار ان العروبة مباراة ممتعة مع الحضارات الأخرى، مباراة لا تقوم على الصراع، كما نظّر اصحاب نظرية صراع الحضارات، بل تعتمد التلاقح والتفاعل والتأثر والتأثير. فالعروبة انفتاح انساني وليست انغلاقاً وانكفاءً وتوتراً. فمن يثق بتاريخه ومشروعه، ومن يسعى الى مستقبل أفضل لا يخشى حضارات الآخرين، ولا ينكمش ويذوي أمامها، ولا ينظر لنفسه بدونية وخوف وريبة. ففي حكاية "الصورة الأخيرة في الألبوم"، تجلى اعتزاز العربي بأسرته وقريته وقوميته، ولم ينحن أمام ثقافة القوة والهيمنة. وفي الحكاية ذاتها تمرد العربي على واقعه، ثار، واخترق الحدود مدفوعاً بالحرية، متحدياً "البوم القاتل"، رافضاً أن يكون صورة أخيرة، لأن التضحية في سبيل قضية عادلة، تتشكل منها ملايين الصور الجديدة المتجددة.
وفي سنوات الاعتقال قرأنا بنهم أشعار القاسم، لنجد أن العروبة، لا يمكن لأصفاد وأسوار ان تنال منها أو تدمي جسدها وروحها، فصارت العروبة في أعماقنا اقوى بالشعر، مرهفة بلمسات وسحر القصيدة. العروبة ليست بطاقة هوية يُكتبُ عليها عربي بين قوسين او بدون، وإنما هي لغة وأرض وتاريخ وخيول وصحراء وسهل ونخيل وكتاب وقلم ومدن تتألف من عمران وقلوب بوسع الدنيا.
العروبة صمت مسكون بالحكمة والمعرفة والاعتزاز بالنفس، والعروبة ذلك الفعل الذي يزلزل "حدثاً في الأرض مندرجاً....". والعروبة تلك الأيدي الممتدة "من قطب الى قطب"، في محاولة لجعل العالم المقلوب يقف على قدميه بدل رأسه، لتستقيم الجهات الأربع، سواء لبس القاسم نظارته الطبية، أم جعلها على مكتبه ترقب بحبّ حركاته وانفعالاته لحظة ولادة قصيدته.
وبعد هذه السنوات الطوال، ما زلنا نمحص وندقق ونستمتع بما انتجه القاسم، لنتأكد يوماً بعد آخر ان مشروعه الشعري، هو مشروع ابناء شعبه، الذين صدقوه وأحبوه وغسلوا وجوههم وخيالاتهم بجمال وروعة صوره. فتحية له من قلوبنا وعيوننا وأقلامنا، تحية من شعر، وتحية معطرة بلغة الضاد، الذي هو واحد من حراسها المخلصين.
درويش والقاسم بمشروعيهما الابداعيين، ارهفا الحس الفني وارتقيا بالذائقة الادبية لعدد كبير من الأدباء والمثقفين والأكاديميين والمتذوقين. وكان من الطبيعي ان أنهل من مدرستيهما لغة وصوراً وموسيقى وفكراً ومعرفة، وأن أتعلم كيف يمكن للنص الأدبي أن يكثف حلم شعب بأسره.
وسبق وأن وثقت في كتابي "رام الله تصطاد الغيم"، علاقتي بديوان الأرض للراحل الكبير محمود درويش، وكيف تأثرت بهذا الديوان في بداياتي الأدبية. لكن ديوان "الحماسة" بشعره الحر والعمودي، قد شكل بالنسبة اليّ مدرسة حقيقية في التعامل مع اللغة، بل وتعلم فن النحت اللغوي بما يخدم الصورة في اطار البناء الكلي للنص.
وفي تلك الفترة، أدركت ان نصوص القاسم ليست وسيلة لكتابة الشعر فحسب، وإنما لتنسم أنفاس الحياة، وتنشق عبير الوطن المضمخ بالميرميا والمعجون بماء النرجس. وعندما تتبعت المسيرة الثقافية والابداعية والنضالية لهذا الشاعر الكبير أدركت ايضاً، ان الوطن أوسع وأهم بكثير من كل القصائد، وان الشعر ينبعث من روح المبدع، كما المبدع يولد ويستمد روحه من روح الوطن. رغم ان القاسم قال في آخر مقابلاته أن "قصيدتي أهم من الوطن"، الا انني اكتشفت في مشروعه الشعري غير ذلك، لاسيما وأن قصائد القاسم زرعت اشجارا وارفة مثمرة في حديقة الوطن، فصار الوطن أبهى وأجمل بالشعر، وصار الشعر خيولاً عربية اصيلة تحمحم وتصهل وتسرح في رحاب الوطن، وكأنها لا تعترف بحواجز الاحتلال وتقسيماته.
تعلمت من القاسم ان للجمال لونا مختلفاً ومذاقاً خاصاً، وتعلمت اكثر أن العروبة قيمة عظيمة، لها جذور عميقة، ولها حاضر ومستقبل. العروبة في قاموس القاسم الشعري ليس حبس انفسنا واغلاق الأبواب على افكارنا، والتمترس في خندق البداوة، وانما الانطلاق في دروب العالم الحديث والتحليق في فضاءاته، لكن ونحن نستند الى قرون وقرون من الثقافة والمعرفة والعلم والانجاز، على اعتبار ان العروبة مباراة ممتعة مع الحضارات الأخرى، مباراة لا تقوم على الصراع، كما نظّر اصحاب نظرية صراع الحضارات، بل تعتمد التلاقح والتفاعل والتأثر والتأثير. فالعروبة انفتاح انساني وليست انغلاقاً وانكفاءً وتوتراً. فمن يثق بتاريخه ومشروعه، ومن يسعى الى مستقبل أفضل لا يخشى حضارات الآخرين، ولا ينكمش ويذوي أمامها، ولا ينظر لنفسه بدونية وخوف وريبة. ففي حكاية "الصورة الأخيرة في الألبوم"، تجلى اعتزاز العربي بأسرته وقريته وقوميته، ولم ينحن أمام ثقافة القوة والهيمنة. وفي الحكاية ذاتها تمرد العربي على واقعه، ثار، واخترق الحدود مدفوعاً بالحرية، متحدياً "البوم القاتل"، رافضاً أن يكون صورة أخيرة، لأن التضحية في سبيل قضية عادلة، تتشكل منها ملايين الصور الجديدة المتجددة.
وفي سنوات الاعتقال قرأنا بنهم أشعار القاسم، لنجد أن العروبة، لا يمكن لأصفاد وأسوار ان تنال منها أو تدمي جسدها وروحها، فصارت العروبة في أعماقنا اقوى بالشعر، مرهفة بلمسات وسحر القصيدة. العروبة ليست بطاقة هوية يُكتبُ عليها عربي بين قوسين او بدون، وإنما هي لغة وأرض وتاريخ وخيول وصحراء وسهل ونخيل وكتاب وقلم ومدن تتألف من عمران وقلوب بوسع الدنيا.
العروبة صمت مسكون بالحكمة والمعرفة والاعتزاز بالنفس، والعروبة ذلك الفعل الذي يزلزل "حدثاً في الأرض مندرجاً....". والعروبة تلك الأيدي الممتدة "من قطب الى قطب"، في محاولة لجعل العالم المقلوب يقف على قدميه بدل رأسه، لتستقيم الجهات الأربع، سواء لبس القاسم نظارته الطبية، أم جعلها على مكتبه ترقب بحبّ حركاته وانفعالاته لحظة ولادة قصيدته.
وبعد هذه السنوات الطوال، ما زلنا نمحص وندقق ونستمتع بما انتجه القاسم، لنتأكد يوماً بعد آخر ان مشروعه الشعري، هو مشروع ابناء شعبه، الذين صدقوه وأحبوه وغسلوا وجوههم وخيالاتهم بجمال وروعة صوره. فتحية له من قلوبنا وعيوننا وأقلامنا، تحية من شعر، وتحية معطرة بلغة الضاد، الذي هو واحد من حراسها المخلصين.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء