عبد الناصر والاخوان..بقلم: عبد الحليم قنديل ..(الجزء 2)

15.08.2011 06:44 AM

كان جمال عبد الناصر حريصا على استقلالية تنظيم الضباط الأحرار، كان عقله مفتوحا لكل أيديولوجيات التغيير المطروحة، لكنه حرص على الاستقلالية لإكتشافه نقص المطروح وعجزه عن تقديم جواب مطابق لأسئلة الواقع.

ولم يكن عبد الناصر منغلقا تجاه حركة الإخوان بالذات، وقد التقى عبد الناصر ـ صيف سنة 1944 ـ بالضابط الإخواني محمود لبيب، كان لبيب مسئوولا عن الشؤون العسكرية لحركة الإخوان، وبدأت من يومها علاقة وطيدة بين نواة الضباط وحركة الإخوان، وانضم ضباط اقتربوا إلى الإخوان أو كانوا منهم مثل حسين الشافعي وعبد المنعم عبد الرؤوف، ثم كانت حالة من الجفوة أعقبت تواطؤ الإخوان مع ديكتاتورية إسماعيل صدقي سنة 1946، لكن إنشاء التنظيم السري للإخوان من أوساط حركة الجوالة الإخوانية التي قدر عددها بأكثر من 2000 عضو، ثم مشاركات الإخوان في مقاومة الإنكليز في منطقة القناة (انطلاقا من قواعد إخوانية في محافظة الشرقية بالذات)، ثم في حرب فلسطين، كل ذلك أسهم في تقارب جديد، وإن ظل عبد الناصر حريصا على استقلالية تنظيمه، واختير عبد الرؤوف عضوا في الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار سنة 1949 رغم بقائه على الارتباط بحركة الإخوان، ثم استبعد سنة 1951 بعد أن طالب بانضمام الضباط الأحرار إلى الإخوان حتى تؤمن الجماعة حياة الضباط ومستقبلهم في حالة فشل الثورة.

وهكذا حرص عبد الناصر على الاستقلالية، ورفض وصاية الإخوان، وكان ذلك سببا مباشرا في الصدام، ومن جهته حرص عبد الناصر على استمرار التعاون مع الإخوان بعد الثورة، واستثنى حزبهم من قرار حل الأحزاب في كانون الثاني/يناير 1953، لكنهم رغبوا في فرض الوصاية مجددا على عبد الناصر، وطلبوا ألا يصدر قرار أو قانون إلا بعد أن يقره مكتب الإرشاد الإخواني، وكان طبيعيا أن يرفض عبد الناصر، وعارض الهضيبي ـ مرشد الإخوان ـ خفض الحد الأدنى للملكية الزراعية للفرد إلى 200 فدان في الإصلاح الزراعي الأول، ورفضوا المشاركة في الوزارة، وتم فصل الشيخ الباقــــوري من عضــــوية الإخـــوان لأنه قبل الاشتراك في وزارة الثورة، كان واضحا أنه لم تكن لدى الإخوان أولويات أو برامج حركة سياسية رشيدة، ولم يفهموا ـ كما يقول الكاتب الإسلامي د. عبد الله النفيسي ـ حرص عبد الناصر على تحقيق ثلاثة أهداف عاجلة: تنمية الجيش وتحديثه، تحقيق جلاء الجيش الإنكليزي، والقيام بإصلاح زراعي يحطم الأرستقراطية المصرية ويشل فاعليتها في مقاومة الثورة.

ثم ارتكب الإخوان الخطأ القاتل، تحالفوا مع خصومهم القدامى من الوفديين والشيوعيين المعادين وقتها لعبد الناصر، تحالفوا وهم ممثلو 'الموروث' مع رموز 'الوافد'، وبدأوا اتصالاتهم مع محمد نجيب الذي كان يحلم بالتحول من دور 'القناع' إلى دور 'القائد الحقيقي' للثورة، وسعوا إلى دفع عناصرهم التنظيمية في الجيش والشرطة للقيام بانقلاب عسكري، واشتبك متظاهروهم مع قوات الشرطة في صدام بالاسلحة النارية في كانون الثاني/يناير 1954، وبعدها أصدر مجلس قيادة الثورة قراره بحل جماعة الإخوان واعتقال قادتها.

ورغم كل ما حدث، كان عبد الناصر حريصا على أستعادة الود المفقود مع الإخوان، ويشير الكاتب الإخواني محمود عبد الحليم لاجتماع هام جدا تم في 20 /9/1954 بين ستة من ممثلي الإخوان وبين أعضاء من مجلس قيادة الثورة، كان الغرض من الاجتماع كما يقول عبد الحليم حل الخلاف المتفاقم بين الإخوان وعبد الناصر، وبعد ست ساعات من التداول تم الاتفاق على إمكانات الصلح، وكانت البداية: أن يوقف الإخوان حملاتهم الدعائية مقابل الإفراج عن معتقليهم، لكن الهيئة التأسيسية للإخوان سارعت برفض الاتفاق، ويعلق محمود عبد الحليم 'لقد حجبوا أنفسهم عن الحقائق، ورضوا أن يعيشوا سابحين في الأوهام'، ويا ليتهم اكتفوا بالأوهام، فقد دبر جهازهم السري محاولة فشلت لاغتيال عبد الناصر وهو يخطب في ميدان المنشية، كان ذلك في تشرين الاول/أكتوبر 1954، وكانت نهاية قصة تفاعل بين الموروث و 'التوفيق الفعال' أسدل عليها ستار الدم.

وبين صدام 1954 وصدام 1965، جرت مياه كثيرة، تداعت سيطرة الهضيبي على تنظيم الإخوان، وسيطرت نزعة التشدد المغلق، وسحب عبد الناصر بإنجازاته بساط القاعدة الشعبية من تحت أقدام الإخوان، كانت صيغة عبد الناصر تحرز نجاحاتها الهائلة، تحررت مصر من الاحتلال نهائيا، وانتصرت في معركة السويس، ودخلت معارك التمصير والوحدة والتأميم والتنمية المستقلة، وحققت الخطة الخمسية الأولى (1960 1965) وباعتراف البنك الدولي المعادي لعبد الناصر أعلى نسبة تنمية إقتصادية في العالم الثالث كله بالأسعار الثابتة الحقيقية، بينما كان الإخوان مشغولون بخطة أخرى: خطة للاغتيالات ونسف الكبارى والجسور ومحطات الكهرباء.

حدث صدام 1965 بعد أن أنشأ الإخوان تنظيما سريا جديدا بدأ العمل سنة 1957، وبلغ عدد أعضاء نواته القيادية 300 عضو، وأوكلت القيادة إلى سيد قطب، وترك وراءه، بل و'خان' تاريخه الشخصي ذاته، كان سيد قطب يمثل في الاربعينيات وأوائل الخمسينيات خطا إخوانيا راديكاليا، وبلور رؤيته الاجتماعية التقدمية المستندة إلى الإسلام في كتابيه (الإسلام والعدالة الاجتماعية ) و(معركة الاسلام والرأسمالية) لكنه تحول في الستينيات إلى النقيض تماما، كانت الثورة الاجتماعية تجرى تحت أنفه، لكنه وصفها بالجاهلية، كانت كتب سيد قطب تصدر دون أن تصادرها رقابة عبد الناصر الموصوف بالاستبداد وتتابعت انقلابات سيد قطب في كتبه (هذا الدين) و (المستقبل لهذا الدين) ثم أخطرها جميعا (معالم على الطريق)، وكان محور رؤية سيد قطب الجديدة: أن النظام الاجتماعي القائم يعيش في جاهلية، وأن دليل جاهليته هو الاعتداء على سلطات الله في الأرض، وعلى أخص خصائص الألوهية وهي الحاكمية، وأنه لا حق للبشر في وضع تصورات أو أنظمة أو قوانين، وأنه على الحركة الإسلامية أن تعتزل عن الواقع وتفاصيله وتسعى لتغييره من جذوره، أنها الرؤية التي استندت إليها جماعة التكفير والهجرة، وفاصلت المجتمع وكفرت الجميع، إنها عودة إلى نظرية الحكم بالحق الإلهي التي يرفضها الإسلام، وقد أدانها الإخوان أنفسهم، ورد الهضيبي على كتاب سيد قطب بكتاب (دعاة لا قضاة)، والتناقض ظاهر بين رؤية قطب والبنا، لكنه تناقض على السطح لا في الجوهر، ولم يقل حسن البنا صراحة ما يقوله سيد قطب، لكن تعميماته البلاغية تيح الفرصة لأكثر من تفسير، وقد تلاشت فرص التفسيرات المتفتحة بصدام الإخوان مع عبد الناصر، وبقيت الساحة خالية لتفسيرات منغلقة خرجت بقوة الموروث عن الفاعلية والإيجابية في التاريخ.

ولا أظن أن الاعتقالات أو التعذيب تصلح تفسيرا وحيدا للتحول، بل ثمة عطب منهاجي وفقر في الخيال وقتل للعقل ثم ارتباطات طبقية معيقة، وكلها مقدمات تقعد بالإخوان عن التطور بـ 'الموروث' إلى نوع من 'التوفيق الفعال'، طورته الناصرية، واقتربت من مثاله.

 عن القدس العربي

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير