لغة الحرية وبُكمُ الطغاة...بقلم: الياس خوري

09.08.2011 06:50 AM

منذ اللحظات الأولى لانطلاق الثورة الشعبية في سورية لجأ النظام الى لغة عسكرية بدت من خارج السياق. وبدا وكأن مخزون الكلام السياسي نفد فجأة، فتراجعت الثعلبة الكلامية ليحل في مكانها التنمّر العسكري. وانطلقت ابواق النظام في عملية فبركة لاحداث لا وجود لها، كي تتطابق لغتها العسكرية مع تلفيق معطيات الواقع عبر الكلام عن امارات سلفية وهمية. وقد وصلت الوقاحة وقلة الحيلة الى حد اتهام الطفل الشهيد حمزة الخطيب بأنه ينتمي الى العصابات المسلحة! ما استدعى قتله وتشويه جثته وقطع اعضائه!

ومع كلّ تحوّل كان النظام مضطرا الى تغيير خطابه. فتم سحب الامارات السلفية لصالح تعبير غامض هو العصابات المسلحة، التي احتار النظام كيف يفبركها عبر الصورة، فوصل به الأمر الى رمي الجثث في نهر العاصي!

منذ بداية الثورة السورية في 15 آذار/مارس، بدت الصور القادمة من مدن سورية ودساكرها محيرة. والحيرة ناجمة من انفصال لغة الصورة عن كلام السلطة في شكل جذري. الصور التي يلتقطها المتظاهرون بهواتفهم الخلوية وتبث عبر شبكات التواصل الاجتماعي والفضائيات تشير الى مظاهرات سلمية تتعرض لرصاص رجال الأمن وقطعان الشبيحة، بينما يتحدث كلام السلطة عن صدامات عسكرية لا وجود لها الا في مخيلة اصحابها، وان وجدت فهي لا تتعدى الحالات الهامشية والمعزولة.

الثورة السورية خلال الأشهر الخمسة الماضية اثبتت نضجا استثنائيا، عبر رفضها اللجوء الى العنف واصرارها على طابع الاحتجاج السلمي، وهو اصرار كبير التكلفة، ويغطي سورية اليوم بدماء ابنائها الشهداء. هذا الاصرار المجبول بالنبل والشجاعة افقد النظام لغته في شكل كامل، فتحولت خطب قادة النظام وتصريحاتهم الى آلة بكماء لا تقول شيئاً، فلجأ النظام الى اللغة الوحيدة التي يتقنها وصار صوت هدير الدبابات في الشوارع والرصاص الذي يمزق الاجساد هو لغته الوحيدة.

رسمت الثورة الشعبية في سورية الحد الفاصل بين اللغة والبُكم. الشعب يملك اللغة والنظام اخرس، لذا كان الحوار مستحيلا. استحالة الحوار ليست ناجمة عن اصرار النظام على تجاهل المطالب الشعبية او عن اصرار المعارضة على هذه المطالب، انه ناجم عن طبيعة النظام البكماء الذي فقد اللغة في شكل كامل.

البُكم الذي وصل اليه النظام هو نتاج عملية طويلة عمرها من عمره، بدأت بتعهير اللغة وانتهت بقتلها. فلقد استنفد هذا النظام جميع الحيل الكلامية. بدأ في البداية، اي منذ انقلاب الحركة التصحيحية، بافراغ شعاراته نفسها من اي مضمون، ثم استنسخ النظام الكوري الشمالي، على ما بيّن عمر اميرالاي في فيلمه 'طوفان في بلاد البعث'، قبل ان يصل الى استهلاك خطابي المقاومة والممانعة، اللذين تحولا اداة لهيمنة المافيات العائلية على الاقتصاد السوري.

لعب النظام باللغة السياسية وقام بترميمها في الظروف المختلفة التي طرأت على المنطقة، حتى انه مع عهد الوريث اشهر خطاب الحداثة والانترنيت قبل ان يعود الى خطابي الممانعة والمقاومة.

مع الانفجار الشعبي الكبير الذي اعلنته الثورات العربية الممتدة من تونس الى مصر، بدأت لغة النــــظام تترنح، الى ان تهاوت دفعة واحدة في درعا، وتمرغت بالجريمة المروعة في حماه. الشعب السوري يواجه اليوم ما هو اشد وحشية من القمع الوحشي، انه يواجه صمت النظام وانحلال لغته، واستخدامه للعنف العاري والعبثية السوداء التي يصنعها الديكتاتور في خريفه الحزين.

كانت حماة هي التعبير عن دخول النظام في البُكم المطلق. فالمدينة التي تحولت رمزا للألم بعد مذبحتها الشهيرة عام 1982، قدمت خلال الثورة السورية الكبرى اليوم نموذجا للارادة الشعبية. نجحت حماة وبعدها دير الزور في احداث تحول كبير في المسار الثوري السوري، اذ استطاعت شجاعة الحمويين كسر جدار القمع وشهدت المدينة الشهيدة اولى المظاهرات المليونية في سورية، ما اضطر النظام الى تبديل المحافظ قبل ان يقرر اجتياح المدينة.

خلال مظاهراتها المليونية لم تشهد المدينة حادثا امنيا واحدا، اسقطت حماة جميع ذرائع النظام، واعلنت انها طليعة ثورة سلمية ديمقراطية تنبذ العنف وترفض الانجرار الى منطقه.

فماذا كانت النتيجة؟

هل فهم النظام رسالة حماة ودير الزور وحمص ودمشق، وبدأ في اعادة النظر في ممارساته؟

يبدو النظام وكأنه لم يفهم ان لغته السياسية سقطت، وحين تفقد فئة طاغية استولت على السلطة لغتها فهذا يعني ان ساعة الرحيل قد دنت. غير ان نظام الجمهورية الوراثية قرأ بكمه عبر المزيد من البكم. فلجأ الى لا لغته، واغرق المدينة الشهيدة في حمامات الدم، وحول مدينة العاصي العاصية الى مدينة اشباح لا يسمع فيها سوى هدير جنازير الدبابات. قطعت المياه والكهرباء عن المدينة وبدأ قصفها المدمر، وشاهد العالم بأسره دبابات تقصف بيوتا!

مشهد يشير الى استعداد الاستبداد لانتهاك كل شيء وهتْك الجميع. مشهد مروع يثير في النفوس الغضب والأسى، ويدعو الى التأمل في استعداد السلطة الاستبدادية لارتكاب اي شيء من اجل ان تحكم اللاشيء.

الاستبداد يخيف الناس اليوم ببكمه وفقدانه اللغة، لكنه ينسى ان من فقد الكلام سوف يفقد قريباً قدرته على الاستمرار.

لكن النظام يستعد اليوم لتكرار حماة الثانية في مدن اخرى، ولن تكون النتيجة سوى المزيد من الخرس والدم والجنون، وهي عناصر سقوط مؤكدة.

غير ان ما يحيرني ليس خرس النظام بل الصمت الشعبي العربي الذي اذا استمر سوف يكون كارثة تهدد مستقبل الربيع العربي في كل مكان.

اما انتم، يا ابطال سورية وبطلاتها، يكفيكم فخرا انكم كنتم الأشجع والانبل، ترسمون اليوم بدمائكم وتضحياتكم وصبركم واصراركم مستقبل العرب. لكم لغة العرب، وامام تضحياتكم ينحني الشعر والنثر.

اعرف انكم تعرفون ان لا مجال للتراجع في قاموسكم، وانكم قادرون في النهاية على ان تبرهنوا ان لغة الحرية سوف تنتصر على بُكم الطغاة.

 جريدة القدس العربي/ لندن

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير