"اكرام المعلم دفنه"

27.10.2016 11:20 AM

الخليل- وطن- رولا حسنين:  الموت يا صديقي لا يعطي أحدنا موعد قدومه، بغتة يأتي فتُقلب حياتنا رأساً على عقب، فالذي قال لزوجته أعدي لي الفطور سأعود بعد قليل، غاب هو وحضر الفطور، فطور لم يمتلك المذاق الشهيّ، بل أضحى فطور الرحيل والذكرى غير المنسيّة.

أذيع أمس الثلاثاء خبر وفاة 4 مواطنين بحادث سير مروّع وقع فجراً على طريق كرمة السموع في محافظة الخليل، حادث حصد 4 أرواح كان لكل واحدة منها أحلام جميلة، ومواعيد مع الأهل والأحبة.

قصتي عن أحدهم، وهو الشاب سعيد خميس رصرص (31 عاماً) أب لطفلة كبرى بعمر الخمس سنوات، وطفل بعمر الثلاث سنوات، وصغير بعمر الأشهر المعدودة، لم يلبث أن يرى نور الحياة بعينيه ويطبع في مخيلته صورة والده الذي أضحى في عداد الراحلين.

يعمل سعيد معلماً في مدرسة معاذ بن جبل بالخليل، يصفه زملائه بالشاب حسن الخُلق والخَلق، دائم الابتسامة، ضاحك المُحيا، طيّب القلب والقول، وعانى السجن في سنوات سابقة.

معلم وسائق عمومي
يتبادر لذهن القارئ سؤال اعتيادي، سعيد المعلم لماذا كان يقود سيارته في الثالثة فجراً، سؤال يستحق الإجابة، ولكن سعيد ذاته أجاب عنه قبل وفاته، فهو أحد المعلمين الذين أعلنوا إضراباً شاملاً قبل عدة أشهر، مطالبين بحقوقهم من الحكومة، وكتب على صفحته "الفيسبوك" "إكرام المعلم دفنه"، فالمعلم الذي يتقاضى راتباً لا يتجاوز 2500 شيقل (600 دولار) ولديه عائلة وأطفال بمستلزمات كبيرة، وفي ظل الغلاء المعيشي الذي يكتسح البلاد، قرر سعيد أن يخالف الحكومة وقانون "ازدواجية العمل" ويقوم بعمل آخر، وهو نقل العاملين في أراضي الداخل المحتل من مخيم الفوار حيث يسكن الى حاجز "ميتار" قرب الظاهرية، بتكلفة زهيدة ولكنها قد تعينه على توفير مستلزمات عائلته، ولكن "دُفن المعلم".

ضاحك المُحيا كان يخفي في قلبه كماً هائلاً من الأحزان، فتعاقب الموت على عائلته  تدريجياً، بدأ عام 2002 حيث استشهد شقيقه حسن في انتفاضة الأقصى، وما لبث حزن العائلة أن يهدأ حتى باغت الموت والدته عام 2014، ووالده عام 2015، وشقيقه قبل اقل من شهرين بمرض السرطان، ليلحق سعيد بركب الراحلين، ويُبقي خلفه زوجة وأطفالا وشقيقات نائحات، قلوبهنّ أصغر من تحمل كل هذا الرحيل.

 

وفقاً لأقارب العائلة الذين تحدثوا لمراسلة وطن للانباء، قالوا إن سعيد طلب من زوجته أن تُعدّ له الفطور الى حين عودته من ايصال العمال، حتى يتناول طعامه ثم يذهب لعمله كمعلم، أعدت زوجته الفطور ولكن سعيد لم يَعُد، فحادث مروّع أمات سعيد، وأمات أحلام عائلة وأطفال وزوجة، و"دُفن المعلم".

تعددت الأسباب والموت واحد، ولكن السؤال الذي يراودني الآن، ماذا لو كان سعيد يعمل مدرساً في دولة تحترم أساتذتها؟ هل سيضطره للعمل كسائق ينهض فجر كل يوم، ليؤمن احتياجات عائلته؟ ماذا لو كان راتب المعلم في فلسطين على قدر ما يقدمه المعلم للبلد من أجيال تقوده في كل المحافل، هل سيضطر سعيد لمخالفة قانون مجحف تحاول الحكومة اقراره بألا يعمل موظف الحكومة في عمل آخر؟ أتراه سعيد كان محقاً عندما قال "إكرام المعلم دفنه".

تصميم وتطوير