نكبة فاطمة "أول غربة وأول فرقة" 70 عاماً من التشتت
رام الله- وطن- رولا حسنين: حدثنا التاريخ عن ارقام واحصائيات عن النكبة، ولم يحدثنا عن قصص فردية انسانية عاشها اللاجئ يحدث ذاته عن مستقبل مجهول، ويرى بعينه حاضرا مأساويا أليما.
الشيء الذي تكتبه لا تنساه، والذي تتحدث عنه مخزون في الذاكرة والوجدان، ولحظات الألم التي تعيشها بنفسك محال للذاكرة أن تنساها وإن أصابها ألف مرض يؤدي للنسيان.
على وقع اللجوء، وطعم الألم، التقت مراسلة وطن بالحاجة فاطمة محمود شنين "أم يوسف" (88 عاماً) في مخيم الجلزون شمال رام الله.
تعود فاطمة بالذاكرة الى ما قبل سبعين عاماً، اللحظة التي غادرت فيها قريتها بيت نبالا قرب الرمله ، مع زوجها وتحمل بين أضلاعها ابنتها الكبرى، كانت فاطمة بعمر السابعة عشر ربيعاً آنذاك.
لم تدرك فاطمة وما يقارب 3 آلاف مواطن في بيت نبالا أن مغادرتهم لأرضهم هي بداية لجوء قسري امتد لاكثر من 68 عاماً، وما زال يعدّ سنواته المتلاحقة، سنوات تحمل في طياتها معاناة الاف اللاجئين الذين بدأت نكبتهم عام 1948.
عن يوم النكبة تحديداً، تقول فاطمة "يوم أسود لما طلعنا من بيت نبالا" والايام ما زالت سوداء في عيونها، في السادسة صباحاً قصفت طائرات الاحتلال منطقة "الواد الشامي" في القرية، وفي العاشرة صباحاً أومأت نفوس سكان القرية بضرورة المغادرة مع سكان قريتي طيرة دندن ودير طريف الذين لجأوا لبيت نبالا ثم خرجوا مع الجموع كلها، الا أن شيء من الأمل الأبيض ما زال في جوفها، أمل بالعودة الى ديار سُلبت قسراً، تحت آلة القتل الاسرائيلية، ظنت فاطمة أن مغادرتهم لأرضهم يشبه مغادرة أسرتها لبيت نبالا أيام الانتداب البريطاني حيث مكثوا 40 يوماً في اللد، ثم عادوا لبيت نبالا، الا أن النكبة التي تسببت بها دولة الاحتلال ما زالت تجرّ أيامها الهزيلة المؤلمة، امتدت 40 يوماً و40 عاماً وأكثر.
عراة من بيوتهم ومن كل شيء الا من ملابس يرتدونها، حفاة يطأون أرض الوطن، حتماً عيونهم لم تكن تودّع ما تركوه، فكل ظنهم أن العودة أقرب اليهم من أي شيء.
من بيت نبالا الى قبيا الى الى الى ثم مخيم الجلزون
من بيت نبالا الى قبيا ، غرب رام الله ، مشياً على الأقدام، ومع سكان قبيا رحلوا الى شقبا، 4 أيام فقط ثم الى المزرعة الغربية يحملون معهم قليل من زيت الزيتون والزعتر والخبز الجاف، 20 يوماً، ثم الى كوبر 4 سنوات كانت الأرض فراشهم وحطب البلوط سقفهم، تجمعات سكانية كانت تجمع أكثر من 50 شخص تحت سقف واحد، مأكلهم ومشربهم ومبيتهم واحد، تشاركوا اللجوء وتجرع الألم، بعد شهرين من مغادرة بيت نبالا التقت فاطمة بعائلتها التي لحقتهم في اللجوء "كانت أول غربة وأول فرقة بيننا، حضنتني أمي وعيطنا ساعات".
تسهب أم يوسف في حديثها، تقول إنه خلال مكوثهم في قرية كوبر التي لا تبعد عن مدينة رام الله الا القليل، جاء الينا الصليب الأحمر، دوّن أسماءنا في سجلات، وعرض علينا الذهاب الى أريحا، بعض اللاجئين استتجاب للعرض وغادر كوبر، إلا أن زوجها أبو يوسف قال لها "كم مرة بدنا نرحل احنا، زهقت"، ولم يغادروا كوبر الى أريحا.
كانت ام يوسف تحمل معها صيغتها الذهبية البسيطة يوم غادرت بيت نبالا، باعها أبو يوسف أثناء مكوثهم في كوبر وعمل تاجراً في شراء زيت الزيتون والتين المجفف ينقلها الى الأردن الشقيق، وفي هذه الأثناء أنجبت أم يوسف ابنتها الثانية، غادروا كوبر، واستقر بهم الحال في مخيم الجلزون "تجمع 18 ألف لاجئ في آخر احصائية له" شمال رام الله، أقاموا سنوات عدة في الخيم التي لم تستر لجوءهم، حتى شيدت وكالة اغاثة وتشتغيل الاجئين "الانروا" –التي وجدت بعد النكبة لمتابعة شؤون اللاجئين- غرف صغيرة لكل أسرة.
احفادها العشرة منعوفون في ازقة المخيم
تضيف أم يوسف "شفنا الغرفة زي القصر، صح الغرفة مش أحلى من بيوتنا ببيت نبالا، بس واقع وبدنا نعيشه"، وعلى هذا الحال أنجبت أم يوسف 8 أبناء ليصبح عددهم بالمجمل 10، ترى اليوم أحفادهم في زقاق المخيم، يدركون أن هذه مرحلة لها نهاية يوماً ما، ولكنهم لا يعرفون عن أرضهم المحتلة سوى الاسم والموقع وما تحدثهم به جدتهم.
الزيارة الاولى لمسقط رأسها
ذهبت أم يوسف الى بيت نبالا الأسبوع المنصرم كزيارة، فالاحتلال سيطر على الأرض واعتبرها له، وأصبح أهلها مجرد زائرين يحصلون على تصاريح زيارة تحمل زمناً محدداً، لا تشبه اللجوء الذي لا يحمل زمناً محدداً لانتهائه، جثت أم يوسف على صخرة تحاول التعرف على ما تبقى من آثار القرية، عبثاً حاولت تدارك مكان منزلها ومنزل عائلتها، عبثاً حاولت الوصول الى معلم فيها، عبثاً حاولت ايجاد معالم بئر ماء من مجموع الآبار التي كانت تحيط بمنازل أهالي القرية الذين اعتمدوا فيها على زراعة السمسم والذرة، بيت نبالا اليوم أصبحت منطقة مهجورة، مليئة باشجار الصبر والعليّق والسدر والشوك بالأمتار، "اهتديتُ الى آثار المدرسة التي كانت في القرية، ولكن مع زمن بسيط ستذهب آثارها أدراج الرياح".
اهتدت فاطمة الى مقبرة القرية التي أودعت فيها اثنين من أشقائها "مريم ومحمد" الذين اختطفهم مرض "الحصبة" وهم أطفال بعمر ثلاث سنوات، ولم تهتدِ الى القبور التي كانت قائمة قديماً، "كل شيء مدمر في بيت نبالا، انا بنت القرية ما عرفتها".
وعن يافا، قالت أم يوسف إنها كانت الطفلة الوحيدة لعائلتها طيلة 8 أعوام، قبل أن تنجب والدتها فتاة أخرى، كانت عائلة فاطمة تذهب الى بحر يافا كثيراً، وكان في يافا حديقة حيوانات تذكرها فاطمة، ولم تجدها مع زيارتها ليافا قبل أيام.
لانا إحدى حفيدات الحاجة أم يوسف والتي كانت تستمع بكل شغف لحديث جدتها غير الممل وإن تكرر، قالت أنها تتمنى العودة الى بيت نبالا والانتهاء من معاناة اللجوء المقيت، والاحتلال الذي يرعب الاطفال والنساء ويعتقل الشبان كل يوم بلا رحمة.
"خيمة في بيت نبالا أحسن من قصر بالجلزون وغيره" بهذه الكلمات انهت أم يوسف حديثها قبل أن تذرف دموعها على قريتها المدمرة.