قهوة ابو محمد بنكهة عين حوض على رصيف وطن

رام الله - وطن-أحمد ملحم:منذ 60 عاما، حسين عبد الحميد ابو الهيجا البالغ من العمر 80 عاما يبيع القهوة في مدينة جنين، كأنها كانت قدره الثاني، الذي حل به بعد قدره الاول الاكثر ألمًا وهو الهجرة من قريته عين حوض قضاء حيفا عام 1948.
ولعين حوض التي اسسها ابو الهيجا احد قادة صلاح الدين الايوبي وقع ثقيل على الروح، فهي تكاد تكون اجمل القرى الفلسطينية التي احتلت عام 1948، بإطلالتها الخلابة على البحر الابيض المتوسط التي ترتفع عنه 125 متراً، والتي لا يزال ابو محمد يذكرها كأنها سورة قرآنية مخبأة في صدره.
على كرسي عتيق وسط كراج مدينة جنين للحافلات، جلسنا عند ابو محمد، الذي سارع الى سكب فنجان قهوة معتّق كضيافة لنا، وحوله عدد من الرجال الذين اعتادوا شرب القهوة او الشاي عنده.
كنا نريد الحديث معه عن قصته مع القهوة، التي يناهز عمرها 60 عاما، فأعادنا الى عام 1948 الى قرية عين حوض، وتلك الامنية الحبيسة في صدره قائلاً "لما اطلعت من عين حوض كان عمري 13 سنة، لو كنت واعي في ذلك الوقت، لواعرفت هيك العرب، ما رافقت ابوي وامي، وظليت بداري في القرية".
أسلحة بدائية للدفاع عن عين حوض
ابو محمد الذي بدا متأثرا عند الحديث عن احتلال عين حوض، قال بلغته العفوية "كان عنا 40 قطعة سلاح بدائية، كل واحدة شكل، وفش فشك معها، كل واحد معاه 50 فشكة بس، فكيف بدك تحارب فيهن جيش. يومين بخلصن".
بكيت لمسجدنا الذي تحول الى بار
لا يذكر ابو محمد تاريخ الاحداث التي مرت به، وكأنه دون ارادة يريد ان يخرج من سطوتها، لكن ذاكرته محكومة بتفاصيلها، فروى لنا انه زار عين حوض مرتين اثناء شبابه بعد الهجرة، وزار مسجد القرية الذي تحول الى بار للعرق، ويروي حديثه مع امرأة تعمل به، قائلاً " قلت لها هذا جامع ليش هيك عاملينه للخمرة، قالتلي ليش تطلعوا منه، قلتلها معك حق".
ابو محمد الذي هاجر من قريته مع والديه بسبب التطهير العرقي، وصل الى قرية اليامون ومكث بها 4 سنوات، قبل ان ينتقل الى مخيم جنين، حيث يمضي حياته، فتزوج وانجب ولدا و5 بنات.
رحلة القهوة
وبدأت رحلة ابو محمد مع القهوة، في ذلك الوقت الذي وطأت به قدماه مدينة جنين، اذ دفعته الظروف الاقتصادية التي كانوا يعانون منها مثل الاف اللاجئين، الى البحث عن عمل ليبدأ العمل في احد مقاهي جنين، والذي انتقل بعدها ليعمل في معظم مقاهي المدينة مقابل 20 قرشاً "من العتمة للعتمة" حتى قرر شراء ابريق قهوة، ليبدأ ببيعها بالتجوال في المدينة، قائلاً " صرت اطلع خمسين قرش. في زيادة ثلاثين قرش واروح بدري على الدار، وبعدها ظليت ابيع قهوة."
ابو محمد الذي اعتاد ان يعد القهوة طيلة السنوات الماضية، والاشراف بنفسه على تجهيزها، لم يعد قادرا على ذلك الان بسبب تقدمه في العمر، بل يستعين بزوجة ابنه التي تقوم بذلك، كل مساء، بينما يكتفي هو فقط بالخروج منذ الساعة الخامسة فجرا الى السوق لبيع القهوة على عربته الخضراء الخشبية، والعودة بعد اذان العصر الى المنزل، فالكبر لم يترك له شيئًا حسب ما قال.
تلك الهالة التي ترتبط بمخيلتنا عن القهوة، وكم المشاعر التي ننثرها عند الحديث عنها، لا تعني ابو محمد بشيء، وربما لم يدركها، وليس مطلوبا منه ذلك، كون القهوة هي مصدر رزق وحيد لا يستطيع تركه لإعالة عائلته، ورغم ذلك يسعده ان تكون قهوته لذيذة قائلاً " قبل كم يوم، اجا واحد وسألني عن قهوة سادة، شرب 5 فناجين ورا بعض على نفس الوقفة ، وقلي مثل قهواتك ما عمري ذقت، كثير زاكيات".
يتذمر ابو محمد بعصبية من بعض الرجال الجالسين عنده حين ممازحته، او بعض المتسوقين الذين يرتاحون على كراسيه القديمة دون ان يشربوا شيء، يقول مقاطعا تذمره "قلبي انجمر"، فنحاول ان نعيده الى عين حوض، فنسأله هل تتمنى ان تعود اليها، فيرد "اتمنى ان اعود اليها، بس نعمة اذا ضلينا هون، لا احد يمنع اليهود من طخنا وطردنا من هون".
حياة مليئة بالاحداث عاشها ابو محمد، كان اصعبها يوم الهجرة من عين حوض، قائلاً "يا بيييه شو شفت بحياتي، مشفتش يوم ابيض بحياتي، شفنا ايام مثل قرط الصوان وبعدنا بنشوف".
وتابع "اصعب اشي كان يوم ما هاجرنا، انا وابوي وامي، واهل البلدة، وهمي ماشيين كانوا يقولوا جمعة وراجعين عالبلد، وين الي ارجعنا؟!".
والعودة الى عين حوض يقوده الى حديث السياسة، لكن دون نظريات بل يختصر الملف بجملة او اثنتين قائلاً "العرب وامريكا تحت صرماية اسرائيل. العرب نواطير لاسرائيل، لا يوجد عرب كلهم كذب"، ويتابع " احنا شاطرين على بعض. ذيبك على بعض، وكل اشي قاله الله احنا بنعمل عكسه".
وينتقل ابو محمد من قصة الى قصة، دون حاجته الى ترتيب، فهو يجود عليك بما تمنحه ذاكرته، حتى ضحك وجهه الجميل ضحكة من القلب حين حدثنا عن احدهم في الزمن الغابر من العمال الذين طلبوا منه فجرا فنجان قهوة، وسأله عن حافلة 7 ركاب التي لديه واين تعمل، قال ابو محمد "قلت له تعمل في اسرائيل، هناك بتجيب فلوس كثير"، قلتله " مين الي قلك عندي سيارة، فقلي كنت بالكويت وهناك خرفوا عنك. عرباية الولد الصغيرة الي كنت ابيع عليها قهوة صارت تكسي، هذا حسد، بسببه وقعت وانكسرت رجلي وقعدت 4 اشهر بالدار".
ربما لا يدرك ابو محمد وهو يتذكر عين حوض، انها من اجمل قرى فلسطين التي احتلت عام 1948، وانها تحولت الى قرية الفنانين الاسرائيليين لطبيعتها الخلابة، فن فوق انقاض شعب، لكنه يدرك ان الهجرة منها كان بداية رحلة شقائه بدأت ولم تنته، وها هي ربما تصل الى نهاية فصولها، حين ينهض ليصب فنجان القهوة لزبون تبرم منه ابو محمد .