نهر النيل في ميثولوجيا مصر وإسرائيل وإثيوبيا
وطن: قبل فترة، قام رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بجولة أفريقية شملت أربع دول، واختتمها بزيارة إثيوبيا متحدثاً أمام برلمانها عن العلاقات التاريخية بين إثيوبيا وإسرائيل ومستدعياً العديد من القصص والأساطير الدينية عن العلاقة بين البلدين.
بعدها بفترة، فتحت زيارة وزير الخارجية المصري، سامح شكري، إلى إسرائيل الباب أمام التأويلات، إذ قالت وسائل إعلام إسرائيلية إنها استهدفت طلب وساطة إسرائيل في ملف سد النهضة الإثيوبي.
واللافت أن نهر النيل الذي قد يكون السبب الرئيسي لزيارة شكري، يمثّل قيمة كبيرة في الذاكرة الجمعية المصرية واليهودية والإثيوبية.
النيل في الثقافة المصرية
تكشف مقولة المؤرخ اليوناني هيرودوت "مصر هبة النيل" مركزية هذا النهر في الفكر والحضارة المصريين. ففي العصر الفرعوني، قدّسه المصريون، وجعلوا له معبوداً أسموه "حابي" وجسّدوه في صورة رجل ذي جسم ممتلئ تخرج منه المياه للدلالة على الخصوبة والعطاء.
واختلف الإله "حابي" عن غيره من آلهة المصريين القدماء بأنه لم تُشيّد له معابد خاصة فيها كهنة يقومون على خدمته، بل كانت له أناشيد تردَّد في الاحتفالات بالفيضان.
غردمن بحث سيف بن ذي يزن عن كتاب النيل إلى تحويل نهر النيل إلى دم وإخراج الضفادع منه…
وفي الثقافة المصرية بشقها الإسلامي، يحتل نهر النيل مكانة مركزية في الفكر الديني، فهو نهر من أنهار الجنة، ويرتبط عقائدياً بقصة النبي موسى حينما ألقته أمه في اليم، كما يرتبط أيضاً بقصة وصول النبي يوسف إلى مصر، فيقول صاحب "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة"، ابن تغري بردي، إن يوسف الصديق بن يعقوب عليه السلام هو أول من قاس النيل.
وامتدت أهمية نهر النيل إلى القصص الشعبية والأساطير العربية، واتضح هذا الأمر بجلاء في السيرة الشعبية لملك مملكة حمير اليمنية، سيف بن ذي يزن، وصراعه مع الأحباش على "كتاب النيل" السحري.
وبحسب بحث أجراه رئيس مركز توثيق التراث الشعبي في جامعة جنوب الوادي، فرج قدري الفخراني، ونشرته دورية الثقافة الشعبية، خرج بن ذي يزن من اليمن إلى سوريا، مروراً بمكة ومعه وزيره يثرب، وأثناء الرحلة قضى على ملك سوري يدعى بعلبك، ثم عبر إلى البحر الأحمر ليجد مدينة الحمراء على ساحل بلاد الحبشة والسودان.
وبعد وصوله إلى مدينة الحمراء، يبدأ في مهمة الحصول على كتاب النيل السرّي الموجود في بلاد الحبشة.
ويخوض بن ذي يزن حروباً طاحنة ومغامرات كثيرة يتشابك فيها الواقع بالسحر والأسطورة، ويحصل في النهاية على كتاب النيل الذي بموجبه يستأنف النيل مجراه في مصر، وينشئ على ضفافه مصر التي سماها على اسم ابنه البكر، ثم توالت عملية إنشاء المدن على ضفاف النهر مثل الجيزة وبولاق ودمنهور وفارس وأسيوط وأسوان، وغيرها من المدن التي ارتبطت بأسماء بعض الأبطال والسحرة الذين رافقوا سيف ين ذي يزن في رحلته إلى بلاد الحبشة وحروبه مع ملكها من أجل الحصول على كتاب النيل.
تمكّنت الرواية الشعبية من استدعاء حروب ومغامرات الملك الحميري الذي قاد حروباً من أجل القضاء على الوجود الحبشي في بلاده اليمن، وربطتها بالمخاوف المصرية التاريخية والصراع مع الحبشة على مياه النيل.
النيل في الثقافة اليهودية
يحتل نهر النيل مكانة مركزية في الثقافة الدينية اليهودية خاصة في الجزء الذي يتعلق باليهود في مصر، وصراع النبي موسى مع فرعون من أجل الخروج.
وتطلق التوراة على نهر النيل العديد من الأسماء مثل "يائور"، "نهر مصر"، "بيشون" و"شيحور"، كما تذكر المصادر اليهودية أن النيل حفظ النبي موسى عندما وضعته أمه في السفط.
كما يرتبط نهر النيل أيضاً بالعقيدة اليهودية من خلال جزء من الضربات العشر التي وجهها الرب لفرعون والمصريين أثناء وجود بني إسرائيل في مصر. وفي كل عام، في عيد الفصح، يكرّر اليهود قصة هذه الضربات العشر، ومن بينها ضربتا الدم والضفادع.
ففي ضربة الدم، الضربة الأولى بحسب المعتقدات اليهودية، تحول نهر النيل، إلى نهر من الدم. ويقول سفر الخروج: "وخاطب الرب موسى: قل لهارون: خذ عصاك وابسط يدك على مياه المصريين وعلى أنهارهم وعلى جداولهم وسواقيهم وخزانات المياه فتتحوّل كلها إلى دم، ويكون دم في كل أرض مصر حتى في الأواني الخشبيّة والحجريّة".
وبحسب التفسيرات اليهودية، فإن الضربات بدأت بضربة الدم لأن النهر كان معبوداً للمصريين، فلما أراد الرب الانتقام من المصريين، انتقم من معبودهم أولاً.
أما الضربة الثانية، فهي ضربة الضفادع حيث يقول سفر الخروج: "ثم قال الرب لموسى: قل لهارون ابسط يدك بعصاك على الأنهار والسواقي والبرك وأصعد الضفادع على كل أرض مصر. فبسط هارون يده على مياه مصر فأقبلت الضفادع وغطّت أرض مصر".
وبحسب أستاذ الديانة اليهودية في جامعة الأزهر، الدكتور سامي الإمام، فإن النبي موسى لم يشارك في ضربة الضفادع، بل فعلها أخوه هارون، لأن موسى كان حافظاً لعهد الوفاء للنهر الذي أنقذه من الموت حين وضعته أمه في السفط وتركته، وكان عمره لا يتجاوز ثلاثة شهور، بحسب ما قال لرصيف22.
ويرتبط نهر النيل أيضاً بالوعد المزعوم لآباء بني إسرائيل الثلاثة. فبحسب المعتقدات اليهودية، أعطاه الرب لإبراهيم ثم من بعده لإسحاق ومن بعده ليعقوب، إذ منحهم الأرض الممتدة بين نهري النيل والفرات.
اليهود وإثيوبيا
عندما وقف رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، خلال زيارته الأخيرة، أمام البرلمان الإثيوبي، تحدث عن النبي سليمان وعلاقته بملكة الحبشة والعلاقة التاريخية بين اليهود وإثيوبيا، في إشارة إلى "يهود الفلاشا" الموجودين في إسرائيل.
فبين إسرائيل وأثيوبيا هنالك قصة الملكة "ماكدا"، أو "بلقيس"، والملك سليمان. هذه القصة المذكورة في كتاب "كبرا نجشت" الإثيوبي التاريخي لا تتحدث مباشرة عن النيل ولكنها تتحدث عن العلاقة بين دولتين مؤثرتين حول مصير النيل حالياً.
وروى الأستاذ محمد جلاء إدريس في كتابه "يهود الفلاشا: أصولهم ومعتقداتهم وعلاقاتهم بإسرائيل"، أن أوساطاً يهودية روّجت لأسطورة حول أصل الفلاشا تعتمد على ما جاء في العهد القديم من ذكر لقصة النبي سليمان مع ملكة سبأ.
هذه القصة المذكورة في سفر "الملوك الأول" جاء فيها: "وسمعت ملكة سبأ بخبر سليمان لمجد الرب فأتت لتمتحنه بمسائل. فأتت إلى أورشليم بموكب عظيم جداً بجمال حاملة أطياباً وذهباً كثيراً جداً وحجارة كريمة، وأتت إلى سليمان وكلمته بكل ما كان في قلبها. فأخبرها سليمان بكل كلامها".
هذه الأسطورة ترد أيضاً في كتاب يطلق عليه "كبرا نجشت" أي "مجد الملوك"، وهو كتاب مكتوب باللغة الجعيزية وجمعه المؤرخون من مكتبات لندن وأوكسفورد وباريس وروما، ووصفه إمبراطور الحبشة، منليك الثاني، بأنه كتاب عظيم يغتبط به كل الشعب الإثيوبي لأنه يكشف أية رابطة تربطهم بـ"شعب الله".
قصة عشق ماكدا لسليمان
ويحكي كتاب "كبرا نجشت" أن الملك سليمان سمع برئيس تجار ملكة سبأ ويُدعى "تمارين" وكان يمتلك 520 جملاً يحمل عليها تجارته إلى مختلف بقاع الأرض. فأرسل سليمان الذي كان يبني القدس إليه رسولاً يدعوه للحضور إليه حاملاً كل ما يستطيع من صادرات مملكته.
حمل تمارين إلى سليمان كل ما أمكنه من الذهب الأصفر والأخشاب الثمينة والمرمر وغيرها من البضائع النفيسة، فأعطاه سليمان أضعاف ثمن بضاعته.
وتعلّم تمارين، أثناء إقامته بقرب سليمان لبعض الوقت، الحكمة والعلم، وأعجب بشريعة سليمان وقوانينه التي يحكم بها قومه، فتثقف بثقافته الدينية، وتأكد من حقيقة ما يعبده سليمان وقومه، وبطلان ما عليه هو وسيدته وأبناء وطنه، ففكر تمارين في العودة إلى ملكته "ماكدا" واستأذن سليمان بالسفر.
وقبل سفره، أرسل سليمان معه الهدايا والتحف النفيسة لسيدته "ماكدا"، فأوصلها إليها وقص عليها قصته وقصة سليمان.
تعلّقت روح ماكدا بسليمان لما سمعته عنه واشتد شوقها للقائه وكانت تزداد لوعتها كلما تحدث تمارين عن سليمان، فعزمت على الذهاب إليه، وأصدرت أوامرها إلى قادتها وجنودها للاستعداد للسفر إلى سليمان، وعينت نائباً لها في المملكة وسارت حتى وصلت أورشليم.
وفي القدس، دخلت على سليمان، وقدمت له الهدايا، وقابلها بكل ترحاب، وأعد لها قصراً بالقرب من قصره وأكرمها. وكانا يتبادلان الزيارات فتتلقى عنه العلم والحكمة.
وقررت ماكدا أن تصرح لسليمان بحبها، فأتته وقالت له: "أنت أسعد الناس يا سيدي... وإني أود أن أكون إحدى جواريك أغسل قدميك وأسمع كلمتك وأخضع لأوامرك، فإن السعادة أراها بالقرب منك، ولا أستطيع البعد عنك".
كما قررت أن تتخلى عن عبادة الشمس، وتعبد إله سليمان، وقالت له: "علمني عبادة الله الحي، فأنا أعبد الشمس"، فأخبرها سليمان عن إلهه إلى أن قالت: "لن أعود بعد الآن لعبادة الشمس".
قضت ماكدا لدى سليمان نحو ستة أشهر، ثم طلبت العودة إلى بلادها، فلم يمانع سليمان ولكنه طلب منها أن تشاهد عظمة ملكه وجنانه وقصوره، فوافقت على طلبه.
كان سليمان قد أضمر أن يكون له ولد من هذه الملكة ذات الجمال والدلال، فأقام لها حفلاً عظيماً، وأعد لها في قصره غرفة بديعة، وصنع لها عرشاً من حرير مرصعاً بالذهب، وجهزها بمائدة تحوى أشهى الطعام الذي يسبب العطش.
وطلب سليمان من ماكدا أن تبيت ليلتها في تلك الغرفة، فاشترطت عليه عدم المساس بعفافها، فوافق مقابل أن تتعهد بعدم لمس أي شيء مما في قصره، فوافقت، وأقسما يميناً على ذلك، ثم تركها وانصرف.
ونامت ماكدا حتى أقلقها الظمأ، فهمت وتناولت قدحاً من الماء، ففاجأها سليمان، وقال لها إنها خالفت قسمها فأصبح هو الآخر في فكاك من قسمه، واضطجع معها.
وفي اليوم الثاني، وقبل انطلاقها في رحل العودة، قدم لها سليمان خاتماً كان في إصبعه، وطلب منها أن تلبسه، وحين تضع حملها منه تعطيه الخاتم وترسله إليه إن كان ذكراً.
وبعد عودتها، جعلت شعبها يترك عبادة الشمس، واحتفظت بابنها حتى صار عمره 12 عاماً وطلب أن يعرف أباه ويعيش معه، فأعطته الخاتم وأرسلته إلى القدس.
وحين وصل ابن سليمان إلى مدينة غزة، ولشدة شبهه بأبيه، ذهب وفد إلى الملك وأخبره بقصة الشاب الذي يشبهه، فأرسل سليمان كبير قادته، جوارين صودار، للبحث عن الشاب، حتى وجده وأخذه إلى أبيه الذي عرّفه على الناس الذي أعلنوا له الخضوع والولاء.
ونقل تمارين إلى سليمان طلب الملكة ماكدا بأن يبارك ابنها، ويوافق على أن يكون ملكاً على الحبشة التي لن تتولى ملكها امرأة بعد ذلك، ففعل سليمان.
وأصدر الملك سليمان قراراً قضى بأن يسافر أبكار بني إسرائيل مع ابنه إلى الحبشة، ليكونوا رجال دولته. ولكن قبل السفر بليلة، اجتمع ابكار بني إسرائيل، وقرروا سرقة تابوت العهد ونقله إلى الحبشة، وبالفعل نجحوا في ذلك، وعندما وصلوا فرح شعب الحبشة بتابوت العهد، وأدانوا بالولاء للملك الجديد.
رصيف 22