في حضرة الحرية

24.04.2016 12:37 PM

كتبت: صبحة الواوي                                                                              
والدة ديمة الواوي/ أصغر أسيرة في سجون الاحتلال

"الأحد سأخرج، الأحد القادم، سأخرج ماما". رنين كلماتها التي اختلطت بضجيج سجن "هشارون الاحتلالي" ووحشيته، وبوجهها البريء وصوتها البعيد الذي وصلني بإصرار رغم تعالي أصوات الزائرين، وألواح البلاستيك السميكة والشباك الكثيفة التي فصلت بيننا، تلك الكلمات فقط التي سمحتُ لمخيلتي وعقلي تكرارها وتذكرها كلما قضّ الليل مضجعي.

في صباح 9 شباط الماضي، اعتقلت قوات الاحتلال ابنتي ديمة، هكذا جاء الخبر كالصاعقة على نفسي. كانت خلجات قلبي تسابق قدماي عندما استدعتني مديرية التربية والتعليم للتعرف على صورة ديمة بعد نشر خبر اعتقالها، راجية من الله أن أرى أمّاً اخرى تأتي وتتعرف على الصورة وتتبناها، لكنها صورة ديمة ابنتي بالفعل، معصوبة العينين، ملقاة على الأرض، تطؤها بقسوة قدم مستوطن احتلالي قرب مستوطنة "كارمي تسور" غير القانونية المقامة على أرض حلحول، وعلى وجهها مباشرة صوب سلاح المستوطنين.

حبست دموعي منذ تلك اللحظة، فلن أمنح المحتل شهوة الانتصار على طفلة لا تبلغ من العمر 12 عاماً. ولاح في عقلي على الفور أن ديمة فكرت في التجول في أرضنا، الأرض الملاصقة للمستوطنة، وقطف بعض القرنبيط، حيث كنا قررنا قبل عدة أيام أن نولم للعائلة بطبيخ من القرنبيط الذي اعتدنا على قطافه من أرضنا في "وادي الأمير" اسم المنطقة الأصلي الذي يمتلئ بكروم العنب والمحاصيل الأخرى. على هذه الأرض، أرضي وأرض أهلي وأخوتي، تم الاعتداء علينا أكثر من مرة من قبل "أمن المستوطنات" وجنود الاحتلال، وتم اعتقال عمي، وتم طردنا ومنعنا من الدخول لحرثها وجني محاصيلها، وفي كل مرة كانوا يقومون باقتلاع زرعنا وأشجارنا، كنا نزرعها من جديد.

لم يمهلها ما يسمى بـ "أمن المستوطنات" الكثير من الوقت لتفسر وجودها، فألقى القبض عليها وعصب عينيها، وضربها في بطنها، وألقاها أرضاً، وأخذ يركلها ويضغط بكل قوته وجبروته بقدميه على ظهرها النحيل، ويصرخ سائلاً: هل أنت هنا لتطعني مستوطناً؟ اعترفي! وعندما داس أكثر على ظهرها وآلمها ، استحضرت ديمة الطفل محمد أبو خضير، وعائلة الدوابشة، وأبناء الأسير محمد القيق المهدد بالموت، فتحدت غطرسته واستباحته لكرامتها وجسدها، وتمنت في تلك اللحظة لو أنها رجل كبير بجسد ضخم لتضربه بعد اعتدائه عليها دون وجه حق، فما كان منها سوى الصراخ بكلمة "نعم".

طفلتي التي لا تزن سوى 35 كيلو غراماً لا يمكنها أن تطعن جندي احتلال أو مستوطن قوي البنية ومدجج بالسلاح من أخمص قدميه إلى أعلى رأسه. 

تم سحب ديمة إلى مركز اعتقال الاحتلال للتحقيق معها، ومُنعتُ ووالدها من حضور التحقيق، كما مُنع محاميها.  وتم التحايل علينا وإيهامنا بأننا سنحضر التحقيق بناء على طلب من "القاضي"، لكن تم الحقيق معنا بمعزل عن ديمة. أما طفلتي فقد وضُعت أول يوم في العزل الانفرادي في غرفة دامسة الظلام، تملؤها الحشرات الزاحفة والصراصير الطيارة، ترتجف فيها وحيدة من البرد والخوف،  ثم بدأ التحقيق معها في اليوم التالي من قبل سبعة محققين على الأقل، يصرخون في وجهها، ويوجهون لها الشتائم والألفاظ النابية، والاهانات الجارجة، وتهديدها بالقتل، ودفنها حية. تم تعرية ديمة من ثيابها، والاعتداء عليها بالضرب المبرح على بطنها وظهرها حتى تعرضت لنزيف حاد، رفضت إخبار محاميها به احساساً منها بالحرج.

ثم إلى أربع محاكم عسكرية امتدت لساعات طويلة في برد شباط القارص، كانت تجلس خلالها ديمة في قفص حديدي، ذابلة العينين بجسد منهك بارد وخائف، وقد بدا على وجهها الباهت الصدمة دون النطق ببنت شفة، ولم تعلم بوعي الطفلة ما يجري حولها، ولم تأبه للقضاة أو المحققين أو المحامين، كانت تلهو بقديمها المكبلتين بالسلاسل والزرد الثقيل، وتلعب بشعرها تارة، وتمد نفسها الى الأمام والخلف تارة أخرى.  حاولتُ في تلك الأثناء مدّها بمعطف لتدفئ نفسها به، فرفض حارس الاحتلال. فبكت ديمة: "أريد المعطف"..."لا لن تحصلي على شيء"، صرخ الحارس.

كان جسدي يرتعش ظلماً كلما نظرت إليها، وكانت تجتاح أطراف جسدي نوبات من الذعر التي تشعر بها ديمة، قلب ديمة كان ينبض داخلي غضباً وحرقة. 

أما "قضاة العدالة" الإسرائيليين فقد ساوموننا على إيداع طفلتنا في "بيت آمن" حتى اصدار الحكم عليها كمخرج لتنفيذ قانون اعتقال الأطفال حتى إكمال سن الرابعة عشرة، وطالبونا بدفع كفالة مالية مقدارها 25.000 شيكل، ولأن والدها قد منع من العمل وتم سحب تصريحه من قبل سلطات الاحتلال بعد الحادثة، فتمادى القاضي بطلب وضع قطعة أرض باسمنا كضمان آخر. لقد رفضنا كل هذه الرزمة رفضاً مطلقاً، فذلك يعني الاعتراف منا بقوانينه العنصرية الجائرة، وإيجاد مبررات لدعمها، ولم يتعدَ هذا الطلب كونه احتيالاً جديداً وابتزازاً مكشوفاً للاستيلاء على أرضنا بموافقتنا.

"حذائي متسخ بالطين ماما، أشعر بالحرج والخجل إذا ما علم اصدقائي أني تعرضت لنزيف إثر التعذيب، لا تخبري أحداً فأنا أشعر بالإهانة، أحس بالخوف الشديد، جسدي يرتعش من البرد ماما، لقد أجبرت على تأليف قصص من الخيال والاعتراف كذباً أنني كنت هناك لطعن مستوطن، ماما لا تغضبي، فقد اعلمتك سابقاً أنا واخوتي أننا لا يمكن أن نطعن، وأن لا تصدقي ذلك مهما قالوا لك، لكنها الطريقة الوحيدة لإبعادهم عني، والخروج حية من بين أيديهم".

هكذا اختلقت صغيرتي الروايات، وهكذا تم إكراهها على الاعتراف لتدفع عن نفسها قمع المحققين، ففرض عليها سجن فعلي أربعة أشهر ونصف، ودفع غرامة مقدارها 8000 شيقل ، وسجن مع وقف التنفيذ لشهر ونصف لفترة خمس سنوات من يوم إطلاق سراحها.

توجهنا إلى وسائل الاعلام المحلية والأجنبية والإسرائيلية، والى الساسة، والنواب العرب في "الكنيست"، وإلى مؤسسات حقوق الانسان ونشطائها في كل مكان بما فيها الإسرائيلية، وناشدنا جميع أصحاب الضمائر الحية حول العالم، وبفضل جهود المحامين المخلصين والجهود الشعبية تم اصدار قرار سلطات الاحتلال بالإفراج المبكر عنها يوم الاحد 24 نيسان 2016.

إنه عار الاحتلال يا صغيرتي، وعار حماته من دول العالم، عار المنظومة الدولية والإنسانية، عار دولة إسرائيل "الديمقراطية" التي تعتدي بكل جبروتها وأدواتها القمعية على طفلة ضعيفة صغيرة، هذه الدولة التي تمارس إرهابها المنظم في الأقبية على الأطفال وتسوق انحطاطها القيمي والاخلاقي في احتلال شعب آخر في العلن. إنه عار عصر حقوق الانسان في القرن الواحد والعشرين.

وأما دعاة القانون الدولي وحقوق الانسان فإني أدعوكم للقدوم إلى فلسطين، سنفتح لكم بيوتنا، وسنروي لكم حكايات التهجير الأولى وسياسات التطهير العرقي منذ العام 1948، وسندشن بحضوركم مرور نصف قرن على الاحتلال العسكري لفلسطين، سنريكم بأم أعينكم نظام "الأبارثهايد"، واعتقال الأطفال، وحرق البشر أحياء وكذلك الشجر، والاعدام الميداني، والتشريد القسري والعقوبات الجماعية، واحتجاز جثامين الشهداء، وهدم المنازل، وارهاب المستوطنين، والاعتداء على مقدساتنا، وسرقة مياهنا ومقدراتنا، سنريكم أيضاَ أطفالاً على الجانب الآخر قضوا غرقاً في غمار البحر وهم يبحثون عن لجوء آخر، وسنخبركم كيف تتفوق كرامتنا وكبرياؤنا على ألمنا وضعفنا البشري.

ما زال هناك 440 طفلاً في سجون الاحتلال، بينهم 104 أطفال تتراوح أعمارهم بين 12 و15 عاماً، وإسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تحاكم 700 طفل أمام المحاكم العسكرية كل عام. فهل هذا يشكل لكم إنذاراً ولو متأخراً من أجل تحمل التزاماتكم وواجباتكم القانونية والسياسية والأخلاقية؟ 

وبينما تجرون المشاورات والمداولات، وتنشرون الإدانات اللفظية، وتتملصون من استحقاقات مسؤولياتكم الجماعية في محاسبة الاحتلال على جرائمه وإنهاء عقود من الاحتلال، سنواصل نحن الدفاع عن قضيتنا العادلة ونضالنا ضده حتى الحرية والاستقلال، وسندفع كل الأثمان لكنسه والبقاء أحياء صامدين على أرضنا.

وعن نفسي، فسأطلق الفرح الكامن في قلبي استعداداً للقاء طفلتي، ولكنني وأنا أخيراً ألتصق بها في أحضاني سأصلي من أجل جميع الامهات، لأم شادي فراح، وأم علي علقم، وأم أحمد مناصرة، وجميع الأسرى الأطفال منهم والنساء والشباب والشيوخ حتى ينعموا بالحرية.  وسنوزع أنا وديمة الكثير من الأمل لهم، وسنحتفي بالحياة والحرية ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وسنعمل من أجلهم حتى تحقيق العدالة التي طال انتظارها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير