ديمقراطية جديدة أم استبداد غامض؟

02.04.2016 10:56 PM

كتب فاروق جويدة

بدأت الشرارة الأولى لثورات الربيع العربي على مواقع النت والتواصل الاجتماعي ولم يكن غريبا ان تنطلق هذه الثورات في عدد من الدول العربية، وقد طرحت هذه الظاهرة سؤالا في دوائر الغرب كيف استخدمت دول العالم الثالث احدث ما وصلت اليه تكنولوجيا العصر في إسقاط نظم سياسية فاشية مستبدة وكيف نجحت وسائل التواصل الاجتماعي في جمع هذه الحشود التي انطلقت منها الثورات وسواء نجحت هذه الثورات او فشلت إلا انها وضعت سؤالا خطيرا عن مستقبل الديمقراطية في ظل حسابات جديدة تضعها بكل الثقة قوافل مواقع النت والتواصل الاجتماعي .

ربما كانت هذه هي المرة الأولى التي يجتمع فيها هذا الحشد الكوني الرهيب الذي وصل الى مئات الملايين من البشر وجعل العالم بالفعل وليس بالقول قرية صغيرة يمكن ان تتحول الى حشد بشري مروع في دقائق معدودة دون ترتيبات او حسابات او قوى امنية او سياسية..

نحن امام عالم جديد يملك سلطات رهيبة دون ان تكون له سلطة رسمية صاحبة قرار انه يتجاوز حدود اللغات والأفكار والأشخاص والأوطان والعقائد..انه عالم منفتح الى ابعد مدى حيث لا قيود ولا رقابة..ان ابنك الصغير الذي يجلس امامك في غرفة واحدة لا يمكن ان تعرف وهو يلعب في جهاز الأيباد اين هو الآن وفي اي بلد ومع اي ثقافة واي اجهزة المخابرات العالمية تعد له البرامج لكي تخلق منه إنسانا جديدا تصنعه كما تريد وليس كما تريد انت..ان حجم المعلومات والصور والقصص والحكايات والأخبار والجرائم التي تتدفق في عقل ابنك تمثل طوفانا يستطيع ان يقتحم كل شيء ويدفع في طريقه كل الثوابت والأفكار التي تعيش انت عليها..إن أخطر ما في هذه التكنولوجيا الحديثة انها حتى الآن لم تكشف كل اوراقها وماذا ستفعل في العقل البشري في زمان قادم ليس ببعيد..

لقد حققت هذه التكنولوجيا إنجازات كثيرة في التواصل بين البشر وتيسير وسائل الحياة وزيادة حدود المعرفة والتنوع الثقافي والفكري واستطاعت ان تكون مكتبة بلا آلاف الكتب وان تكون المؤسسة الإدارية التي لا يوجد فيها غير شخص واحد وان تكون الميزانية والبورصة والتليفزيون ونشرات الأخبار والقصص الإنسانية الطريفة والمؤلمة ولكن كل هذه الوسائل يمكن ان تصبح في لحظة مؤسسة استبداد وقمع وسيطرة بل انها يمكن ان تمثل اكبر عدوان على النزعات الفردية وخصوصية الإنسان وتفرده..انها يمكن ان تؤكد ظواهر القطيع في اكمل صورها حيث يتحول الإنسان وهو لا يدري الى مجرد رقم في ملف كبير يجمع ملايين البشر .

لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي عدوانا على حرية الأشخاص، وامام قدرتها الرهيبة على الحشد تحولت الى وسيلة ضغط غير مسبوقة في تاريخ البشرية..يكفي انها في أول جولاتها اسقطت نظما مستبدة واطاحت بحكام يمتلكون كل وسائل البطش والردع والمقاومة وربما اسقطت تلالا من الثوابت التي عاشت عليها الشعوب قرونا طويلة..ان امامنا ملفات كثيرة حطمت فيها وسائل التواصل الاجتماعي كل الثوابت في الحريات السياسية والشخصية بل انها اصبحت وسائل ضغط على المستوى العالمي وليس المحلي فقط..

قلت ان هذه الوسائل اسقطت حكاما واطاحت بمسئولين كبار وشردت نجوما واسقطت وزراء واصحاب قرار ولو اننا اخذنا نموذجا مما يحدث في مصر فسوف نجد انفسنا امام ظواهر واضحة لا يمكن انكارها..

كانت هذه الوسائل وراء ثورة يناير في ايامها الأولى وكان عدد الشباب الذين خرجوا لا يتجاوز 60 الف شاب ولكن الحشود زادت وارتفعت الأعداد لتصل الى الملايين وكانت صرختها الأولى مع نداء كلنا خالد سعيد ثم كانت حشود الشباب الذين جمعهم عصر جديد هو عصر التكنولوجيا لم تكن هناك وسيلة أخرى يمكن ان تجمع هذا العدد من الشباب خاصة بعد حلقات التواصل التي امتدت لأكثر من بلد عربي..والغريب انه بقدر ما توقف الغرب عند هذا التحول الرهيب في الشارع العربي مع تكنولوجيا العصر اهملت النظم العربية الحاكمة هذا العنصر الجديد الذي خلق مناخا وفكرا واساليب جديدة في العالم العربي بين الشارع والنظم الحاكمة .

لم تستطع الثورات العربية ان تتجاوز منطقة الرؤوس التي سقطت وبقيت احلام الشباب الثائر ترصد ما يجري حولها وهي لا تعرف ما يحمل لها المستقبل من مفاجآت ثم كانت ثورة يونيه حين اطاح الشارع بدعم من الجيش جماعة الإخوان المسلمين وكان لوسائل التواصل الاجتماعي دور كبير في حسم هذه المواجهة.

 لم يكن غريبا ان يدير الإرهاب معاركه الدامية واعماله الإجرامية على مواقع النت دون رقابة من أحد بل ان هذه العمليات التي احدثت دمارا شديدا في الأرض العربية على يد داعش ثم انتقلت اخيرا الى باريس وبروكسل كانت تستخدم اساليب تكنولوجيا العصر في المطاردة والقتل والتفجير ورسم الخطط والمعارك..وفي مواقع القتال ضد الإرهاب كان التصوير وقطع الرقاب ومساحات الدم والتفجيرات تستخدم كل الأساليب الحديثة في مسلسل الدمار، الشامل..ان من اهم واخطر الأسباب وراء نجاح العمليات الإرهابية انها تستخدم احدث ما وصل اليه العقل البشري في القتل والدمار على مستويات اقل اسقطت حشود التواصل الاجتماعي رموزا كثيرة..لقد اطاحت ببرامج تليفزيونية ناجحة امام خطأ فادح اساء لسمعة فتاة بسيطة وانطلقت الحشود تطالب بالحساب والعقاب والمساءلة وتحولت الى وسيلة ضغط رهيبة حشدت الرأي العام واسقطت ما ارادت، ولم يكن هذا فقط بل اننا وجدنا هذه القوة غير المرئية الصاعدة تسقط وزيرا في ساعات قليلة امام لفظ منفلت، واستطاعت قوى التواصل الاجتماعي ان تطيح بواحد من اهم وأخطر الوزراء في مصر ولم تنجح الاعتذارات والرجاءات في عدم تنفيذ حكم التواصل الاجتماعي الذي لا أحد يعرف كيف يتحرك ومن هي القوى التي تحركه..

ولم يكن غريبا ان تسقط هذه الحشود اشهر مطربة خليجية امام رفض شعبي جارف ورغم الملايين التي انفقتها إحدى الفضائيات على البرنامج إلا انه قدم حلقة واحدة وانضم الى مواكب هذه القوة الرهيبة الصاعدة التي اسقطت الرؤساء واطاحت بالوزراء واصبحت قادرة على تغيير خريطة الشارع في اي وقت تريد..الغريب في الأمر ان هذه الحشود لم تظهر بهذه الضراوة وهذا العنف الشديد في دوائر الغرب فلم يسقط النت رئيسا ولم يذبح وزيرا ولم يخترق اوطانا كما حدث في العالم العربي..

قد يكون هذا الإنجاز الحضاري والتاريخي الرهيب نقطة تحول في حياة البشرية ولكن بقدر ما كان له من انجازات في اختصار الوقت والزمن وتسهيل مطالب الحياة والتواصل بين الثقافات والحضارات والشعوب بقدر ما بقي فيه جزء غامض يتعلق بتلك الأيادي التي تعبث في الخفاء وتجعل الإنسان حقا مستباحا امام جهاز صغير اصبح يدير شئون الكون كله.

ان هذا الجهاز يستطيع ان يربط العالم في لحظة واحدة دون قيود او رقابة من احد وهو يفرض وصايته بين المنع والقبول..بمعنى ان ترفضه تماما وتلغيه وهذا أمر مستبعد او ان تقع تحت وصايته وتتحول الى جزء في القطيع.

على جانب آخر فإن هذا الجهاز اطاح بكل ثوابت الديمقراطيات السابقة واخترع لونا جديدا يمكن ان نسميه ديمقراطية الحشود او ديمقراطية القطيع لأنه بعيدا عن الانتخابات وعدد الأصوات واللجان والأحزاب يمكن ان يفرض واقعا ويصدر قرارا وهو خارج السلطة..انها سلطة الشارع الغامض الذي لا يعرفه أحد، انه كلمة الحشود التي لا يراقبها احد، انه قادر على ان يجمع الملايين في لحظة ويفرقهم في لحظة بعد أداء المهمة وقد تكون خيرا او شرا إلا انه في كل الحالات لن يجد من يحاسبه..

لا أحد يدري الى اي مدى سوف تتوغل حشود التواصل الاجتماعي والى اي مدى سوف تتسع دوائرها وتكبر اعدادها وما هو مستقبل الفرد الإنسان وسط هذه الحشود..

لا أحد قال لنا ما هو مستقبل الديمقراطية التقليدية وسط هذه الحشود وهل سنعيش حتى نرى يوما حاكما منتخبا من مواقع التواصل الإجتماعي في اوروبا او امريكا او دول الديمقراطيات العتيقة ام ان الأمر يمكن ان يبقى وسيلة ضغط من قوى مجهولة ضد شعوب حائرة.

اصبحت الآن اخاف من هذا الإنفصال الشبكي الذي اصاب هذا الكيان الرائع الذي يسمى الأسرة..في غرفة واحدة تجد الأب والأم والأبناء وربما بعض الضيوف امامهم التليفزيون يشاهدون مسلسلا منحطا وكل واحد منهم يمسك الموبايل او الأيباد ولا ينظر في وجه الآخر..انت لا تعرف ما هي السموم التي تتسلل الى عقل ابنك رغم انه يجلس امامك..لم تعد هناك لغة للحوار بين ابناء الأسرة الواحدة وربما تعرف ان احد الأبناء يتواصل مع جماعة ارهابية منحرفة او يحاول ان يجد له مكانا في صفوف القتلة والمأجورين لأنه تخرج من الجامعة ولم يجد عملا..وربما كان الأب نفسه يعيش قصة حب مع زوجة تبعث الرسائل الملتهبة وهي تجلس بين الزوج والأبناء..

انه عالم تفكك تماما واصبحت الفوضى العنوان الدائم فيه..انها فوضى التواصل الاجتماعي..هل يمكن ان يصل العالم يوما الى وضع ضوابط لهذه السرية وهذا الغموض وهذا الوحش الذي يهدد أمن البشر واستقرارهم..لقد فتح آفاقا للمعرفة ولكنه فتح ابوابا للضياع..وقدم للإنسانية خدمات جليلة ولكنه دمر أشياء اكثر..انك تعرف منه نوع الدواء وخطورته ولكن ابنك يتعلم منه ايضا كيف يصنع قنبلة تقتل البشر.

انه وسيلة امن وابداع وحياة ولكنه يمكن ان يكون طريق ضياع وسقوط وانهيار..لقد نجحت التكنولوجيا في فرض اشياء جديدة وطيبة على الواقع الاجتماعي والإنساني..لقد ابدعت في السياسة حين اسقطت حكاما مستبدين..واجادت في الأدوار والحشود حين اطاحت بمسئول كبير لم يدرك مسئولية الكلمة..ودمرت فنانين كبارا تخلو عن رسالة الفن وغيبت مذيعين افسدتهم الأضواء وتصوروا انفسهم من عالم آخر..هذه الأحداث كانت امامنا وتعلمنا منها دروسا، وإذا كانت هذه النماذج قد تحولت الى صوت ضمير حي فما هي الضمانات حتى لا تتحول الى حشود ظالمة وقطيع غاشم مستبد..ان الفرق بسيط جدا بين نار تضيء ونار تحرق، بين حشد لحماية وطن وحشد آخر يدمر كل شيء..المهم كيف نستخدم الأشياء بما يحمي الضمائر ويحفظ حرمة العقول وهل ننتظر في زمان قادم ديمقراطية النت الجديدة .

وإذا كانت قد حررت الشعوب من حكام مستبدين فما الذي يمنعها ان تمارس الاستبداد بعد ذلك .

عن «الاهرام» المصرية!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير