ما لا يعرفه أطفال غزة.. بقلم: خالد جمعة

27.06.2012 03:11 PM
بقلم: خالد جمعة

خطرت لي هذه الفكرة المرعبة، حينما كنت أشاهد فيلماً للمثل الأمريكي "مات ديمون"، وهو يقوم بشراء حديقة حيوان مع طفليه، فتساءلت: ما الذي يعرفه أطفال غزة عن الحياة الحقيقية؟ وهذا لا ينطبق فقط على أطفال غزة، بل على البالغين أيضاً وبنسبة كبيرة، فأي شيء يمكن الحديث عنه؟

الطفل في غزة محروم من التعرف على بلاده، فلا يوجد طفل منذ ربع قرن قام برحلة مع مدرسته كما كنا نفعل صغاراً، فليس هناك أحد من أبناء جيلي مثلاً، إلا وقام بعشر رحلات على الأقل مع مدرسته، رأينا فيها قرانا التي هُجر أهلنا منها، ورأينا حيفا ويافا والناقورة وعكا والناصرة ومعالم فلسطين السياحية والتاريخية في القدس والخليل وجنين وطولكرم ورام الله ونابلس وبقية المدن الفلسطينية، هذا عزز لدينا الكثير من القيم والمفاهيم، بدلاً من أن نظل تحت رحمة الروايات التي تروى عن البلاد ومرحلة ما قبل الاحتلال الإسرائيلي، أطفال غزة محرومون حتى من معرفة بلادهم.

أطفال غزة يشاهدون الحيوانات في التلفزيون، لا علاقة لهم بغير القطط والكلاب والأحصنة والحمير، حتى تلك الحدائق الفقيرة التي أنشئت في غزة، لم تكن تحتوي على حيوانات بالشكل الذي تحتوي عليه حتى حديقة منزل أحد الأغنياء، وبالتالي فخبرة أطفال غزة بعالم الحيوان هي خبرة نظرية، تعتمد على القصص والمشاهد المصورة، التي تُنقِص عنصر الدهشة، عنصر الرائحة، اللمس، التعاطف، اللون، السلوك، محاولة إطعام الحيوانات، رؤية أحجامها الحقيقية، سماع أصواتها، كل هذه العوامل التي تشكل الخبرة الحياتية، والتي تضيف إلى شخصية الإنسان وتنميها وتعطيها الثقة اللازمة للإيمان بالحياة والعالم، كلها يفقدها الطفل في غزة، حين لا يمر بهذه التجربة.

الأطفال في غزة يشاهدون الثلج في الصور، وهو بعيد عنهم عدة كيلومترات حين يسقط على جبال رام الله أو الخليل، لم يلعبوا بكراته الهشة، لم يتمرغوا على حبيباته البيضاء، ولم يبنوا تمثالاً بأنف من جزر، لم يشعروا بلذة البرودة وهي تنساب في أجسادهم أثناء لمسهم له، لا، أطفال غزة لم يفعلوا ذلك.

حين كنت طفلاً، كانت مدينة رفح وحدها تتمتع بثلاث دور للسينما، وواحدة في مدينة خانيونس وأربع في مدينة غزة، ولا أنسى ولن أنسى الدور الذي قامت به هذه الدور في تشكيل وعينا البصري، وإحساسنا بالحلم الذي ينبع من الصورة الهائلة أمامنا، مع الصوت المجسم الذي يشعرك أنك في قلب معركة، أو تحت شلال مياه، الألوان وهي تتدفق في الأفلام الهندية مع الرقصات الغجرية التي تحرر الروح، الموسيقى التي توصلك إلى حد الانتشاء، غزة منذ 1987 لم تشاهد فيلم سينما، أقصد بالمعنى الحقيقي للكلمة، فالتجربة مع السينما ليست أن يتم عرض فيلم هنا أو هناك، بل هي العملية برمتها، ومن هنا أقول أن أطفال غزة وغالبية مراهقيها لم يعرفوا ما هي السينما على وجه التحديد، وبالتالي فإن التربية البصرية التي كان يجب أن يتلقوها من خلال هذا الفن، لم تحدث.

أطفال غزة لا يعرفون معنى أن يحضروا حفلاً غنائياً حقيقياً، أو عرضاً مسرحياً، أو عرضاً للسيرك، أو حفل موسيقى، بكل ما تؤسسه هذه الحفلات من ذوق وانفتاح على العالم لتتشكل بعد ذلك الأحاسيس الخاصة بالانتقاء والتمييز الفني أو الحياتي، أطفال غزة معلقون بأجهزة الكاسيت والسي دي إذا توفر لهم ذلك، محرومون من الحياة الفعلية لهذه الفعاليات، وحتى عندما يوجد نشاط من هذا النوع، فإنه نشاط انتقائي يحضره عدد محدود من الأولاد، فهو ليس ممارسة ممكنة بشكل مستمر، بحيث يمكن لوالد أن يأخذ ابنه إليه وقتما شاء.

أطفال غزة محرومون من أشياء كثيرة، لم يعرفوا شكل الطائرة، لم يروا النهر وهو يجري حاملاً حكاياته، لم يعرفوا غابةً أو حرشاً، هذا ليس حلماً فوقياً، فقد كانت غزة ممتلئة بالأحراش عن آخرها، لكنها الآن لم تعد كذلك.

أعرف أن هناك من سيقول إن غزة في حالة حرب، وانقطاع كهرباء... إلخ، لكن ما أتحدث عنه هو مستوى مختلف تماماً، مستوى لا يتحدث عنه أحد بسبب أن غزة في حالة حصار وحرب، ودائماً ما كان رأيي أن المصائب لا تلغي المصائب، فكل نقص هو مصيبة حتى وإن كنا نعاني من ألف نقصٍ آخر، ولا أرغب في الدخول في سلم أولويات المصائب.

الخطورة في الأمر، أن هذا يؤثر على الطفل وعلى الكبير الذي كان طفلاً دون أن يمر بهذه التجارب، وهذا التأثير السلبي لن يزول إلى الأبد، حتى وإن شاهد هذا الطفل تلك الأشياء لاحقاً وتعامل معها، لأن هناك أشياء تتربى فينا عند سن معينة، وحين نفقد التواصل معها في هذه السن، فإن أرواحنا لن تستطيع استرداد ما فقدته بعد ذلك، حتى وإن أحضروا هوليود وغابات أميركا اللاتينية إلى غزة.
تصميم وتطوير