الاعتصام الطائر "إلى أحمد سعدات"

22.03.2016 06:31 PM

كتب محمد صفا

خرجنا من خيمتنا، مقرّ لجنة المتابعة في كورنيش المزرعة، الساعة التاسعة والنصف صباحاً، أنا وبسام القنطار وعباس حمود (أسير مُحرر) ووائل يحيى (ناشط)، على أن تلحق بنا هيام.

خرجنا في شهقتنا اليومية، حملنا عدّة التنفس، يافطات تجعّدت من التعب، وصوراً للسعدات وسمير القنطار، صعدنا في فانٍ للركاب متوجّهاً إلى ضبيه، فرحين، متحمسين، مواصلين رحلة الاعتصامات لا نأخذ إذناً أو ترخيصاً ككلّ السنوات السابقة منذ العام 1982. ببراءة الأطفال هرعنا باكراً خوفاً من زحمة السير، ولم نكن نعرف ما يجري في الخارج والمناطق اللبنانية، فالاعتصام سننفذه ولو كنا شخصاً أو اثنين أو حتى حلماً. سنحلم أننا معتصمون في حال التعرض إلينا، وهي فكرة استبعدناها، إذ من يجرؤ على منع اعتصام ضدّ اختطاف أحمد سعدات؟!

على الطّريق من كورنيش المزرعة، الدورة، أرتال من السيارات، حواجز للجيش اللبناني، تدقيق في البطاقات الشخصية. لم نأبه، فاعتصامنا واضح ضد اختطاف السعدات، اعتصام من المفترض أن لا يثير حفيظة إلا خاطفيه هكذا تصورنا أو "استهبلنا". ويبدو أن وجودنا في فان مُكدس بالعمال أبعد الشُبهة عنَا، خاصة كنا الأربعة جالسين في المقعد الخلفي.
يبدو أنهم يبحثون عن مطلوبين أو فارين أو... هكذا كانت تخميناتنا.

عند وصولنا إلى المفرق المؤدي إلى السفارة الأميركيّة في عوكر، ملالات للجيش، انتشار مُكثّف للجنود.
تابعنا سيرنا في الفان حتى لا ننزل قرب الحاجز وتتصاعد رائحة الصوّر ودخان الاعتصام.
للوهلة الأولى، تظن أنّها إجراءات روتينية ترافق كل اعتصام أو مُظاهرة، وكيف إذا كان الهدف السفارة الأميركيّة!
ما زال هناك نصف ساعة حتى يبدأ الاعتصام. هو عملياً بدأ منذ طلوع الفجر وإقامة الحواجز والتفتيش عن كوابيس. مشينا باتجاه حاجز الجيش اللبناني قرب ساحة الـ"ABC"، قلتُ للشّباب (بسام وعباس ويحي) ولنفسي طبعاً، حتى لو اعتُقلنا وضُربنا يجب أن لا نُستفز وأنا فقط أتولّى الحديث مع الحاجز.
أكملنا سيرنا باتّجاه السّفارة وكأننا في نُزهة، ولن تستطيع قوّة في الأرض منع هذا الحلم، أو القبض على مشاعرنا.
يُصرخ احد الجنود:
-ممنوع المرور
-مين المسؤول؟ اقتربتُ من الضابط المسؤول، وجهه مُرقط مثل بدلته العسكرية، وبكل ثقة واحترام مددت يدي لمُصافحته، ولكن يدي بقيت معلّقة في الهواء، في الفراغ، رفض مُصافحتي،  قد تكون الأوامر، أو أنّه لا يُصافح مُتظاهر من أجل الحرية، أو.. أو..
مادت الأرض ودارت، انتابتني عشرات الأفكار، ويدي استمرّت ممدودة، رفضت العودة إلى يديها، أصرّت على المُصافحة، على التظاهر، أصرت أن تبقى ممدودة، مُرفرفة، رافضة للانحناء.
لم أكن أتصوّر أن يرفض الضابط مصافحتي، شيء غريب لا يتصوّره عقل أو أن تُقدم عليه نفسٌ بشرية.
-ولماذا ممنوع المرور؟
-كلمة ثانية  أضع الكلبجة في يديك.
-بعفوية أجبته: ضعها
-عسكري كلبجهم و"حطوهم" في الشاحنة أنا وبسام في نفس الكلبجة، وعباس ويحيى كلبجة، الكلبجات "يبدو أن القصة جدية".
الكلبجات لا تعني لنا شيئاً حماسنا تضاعف، فنحن سنعتصم انتصاراً لقضية إنسانية عادلة.
كان معنا مواطن كندي يحمل الجنسية الأمريكية اسمه "كيفن"، فلمّا عرّف عن حاله ارتجف الضابط وابتعد عنه الجنود وكأنه قنبلة موقوتة!.

وشوشت "كيفن" بالعودة إلى المكتب وإعلامهم بما جرى لنا. مشينا الأربعة إلى الشاحنة مُكلبجين وسط حراسة الجنود. في الطريق نحو الشاحنة كان خبر توقيفنا قد انتشر كالنار في الهشيم.
أصبنا بالذهول، لم نُصدق أنّنا مُكلبجين. كم كنّا ساذجين!
بعد حوالي عشر دقائق وتناقل الوكالات والفضائيات خبر توقيفنا، حضر عميد من الجيش اللبناني، فك وثاقنا واعتذر، لكنني قلتُ له: أنه أقسى اعتقال في حياتي.
لم أكن أتوقع احتجازي وأنا منذ العام 1982 نعمل بكد من اجل حرية المُعتقلين اللبنانيين والفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.
لم أتصوّر يا حضرة العميد أن يجرؤ أحد على تكبيل يدي وأنا قد زرتُ عواصم الدنيا مُطالباً بحرية أرضنا وأسرانا.
لم أكن أتصوّر أنّه في لحظة ما سأكون أسيراً مخفوراً في شاحنة، ستقلنا إلى السجن كما أقلتنا الشاحنات الإسرائيلية في اجتياح 1982 إلى سجون عسقلان وانصار...!!
أما شاحنتكم إلى أين يا تُرى؟..
الحقيقة انتابني شعور عميق، بكيتُ للحظة، كيف يجرؤ هذا الضابط على اعتقالنا؟ كيف يرفض مصافحة إنسان مثله؟
أوهام تزاحمت في رؤوسنا وكأننا نحن فوق الاعتقال! بعد فكّ الكلبجات هرعت وسائل الإعلام وعقدنا مؤتمراً صحفياً في ساحة الـABC التي كنا موقوفين فيها.

تكلمنا حتى بُحّت أصواتنا عن هذا الإجراء المُشين. في الطريق إلى مقرنا علمنا أنّ لبنان من شماله إلى جنوبه تحوّل إلى ثكنة عسكرية، طرقات مقطوعة، حواجز للجيش مُكثّفة، حصار للمخيمات الفلسطينية، فلبنان كان بحالة طوارئ غير مُعلنة بمواجهة اعتصام سلمي مؤلف من خمسة أشخاص. القضية هي الأساس وليس عدد المعتصمين.
فرحنا بما تحقق، فالاعتصام حقّق أهدافه وكانت الرسالة مدويّة، اعتصام يُعادل عشر سنوات من النضال من أجل قضية المعتقلين.
إنها الأوهام المعششة في رؤوس الحكام جعلتهم يرتكبون غلطة أو سوء تقدير أو... في تحويل الاعتصام السلمي الرمزي الى اكبر تظاهرة إعلامية عالمية تضامناً مع أحمد سعدات وكافة المعتقلين في السجون الإسرائيلية.
لم نكتفِ بما تحقق، فالاعتصام يرفض فض اعتصامه، إنه اعتصام طائر. وفي اليوم التالي،17 آذار 2006 عقدنا مؤتمراً صحفياً في مقر اللجنة وطالبت بالتحقيق مع الضابط الذي كلبجنا ودعونا إلى اعتصام آخر احتجاجاً على منع اعتصام عوكر وذلك أمام وزارة الداخلية وأطلقنا على الاعتصام: "يوم الديموقراطية وحقوق الإنسان"
الاعتصام أمام وزارة الداخلية كان مغايراً لاعتصام عوكر، قسّمنا أنفسنا إلى مجموعات تحسُباً لمحاولة قمعنا.
كنت أوّل الواصلين إلى الوزارة، فهرول الضابط المُكلف وسألني أين المعتصمين؟ دُهشت من سؤاله.
-نريدُ مساعدتكم ونحن معكم في كل ما تريدونه. هذا اللطف الزائد من القوى الأمنية دفعنا إلى الاتصال بالمجموعات للتجمع أمام وزارة الداخلية... ولكن أستاذ محمد وزير الداخلية  احمد فتفت يريد أن يلتقي بكم في مكتبه.
-قل لمعاليه أن يأتي إلى هنا ويشارك في الاعتصام وبعدها نذهب ونشرب القهوة في مكتبه.

كلّ الشوارع المؤدية إلى وزارة الداخلية مقفلة،شوارع محررة تحت سلطة الصحافيين والمعتصمين والغياب الكامل للجيش اللبناني!.
وزير الداخلية حضر مهرولاً وهو يقرأ كلمتي المكتوبة بخط اليد.
-أنا تاريخي وطني، أسأل عني.
-ولكنك أصدرت قراراً بمنع الاعتصام أمام السفارة الأميركية، ودار سجال حاد مع معاليه أمام كاميرات الإعلام.
بعد الاعتصام، صعدنا إلى مكتب الوزير وكاد أن يضع القرآن أمامه ويحلف بأنه معنا ويؤيدنا.
اعتصام وزارة الداخلية الاحتجاجي على قرار المنع انتصار جديد حققناه، في تسليط الضوء على قضية أحمد سعدات وقضية المعتقلين والمفقودين، وبان تخيلات الحكومة ووزير الداخلية بان مشهد الأشرفية سيتكرر في عوكر كان مجرد أضغاث أحلام.
في اليوم التالي، رنّ هاتفي:
-أنا العميد "غ" من مخابرات الجيش اللبناني ادعوك لتناول فنجان قهوة.
تحدّث مطولاً عن التطبيق الخاطئ للقانون ومقدماً الاعتذار باسم قائد الجيش على ما حدث لي ولرفاقي ووجه لي دعوة لزيارة القائد..
-اعتذرت عن تلبية الدعوة لأنني في اليوم التالي سأتوجه إلى جنيف للمشاركة في تشييع لجنة حقوق الإنسان قبل أن تتحوّل إلى مجلس حقوق الإنسان.
غادرت مقر المخابرات وصورة الضابط الذي امر بتوقيفنا وكلبجتنا تركض أمامي، صورته تطاردني تلاحق الاعتصامات، اما يدي الممدودة لمصافحته فما زالت مزروعه ترفرف ممدودة، تُشير للمارّة. ترحب بهم، وتحثهم على مواصلة الاعتصام من اجل حرية المعتقلين في كافة السجون.
أما أم عزيز، فما تزال تنتظر من يطرق بابها، قلبها، لعودة أبنائها المفقودين.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير